الأستاذ صديق عبدالمؤمن لشكر.. حياة حافلة بالفضائل

كان لهذه الدروس العلمية آثارها في سعة آفاق ثقافته الشرعية، وسلوكه الحميد

عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان

انتقل إلى رحمة الله الزميل العزيز، المدرس النابه، ذو الخلق الحميد الأستاذ صديق عبدالمؤمن لشكر يوم الجمعة الرابع من شهر ذي الحجة عام 1428هـ، وصلي عليه بالمسجد الحرام بعد صلاة الفجر، ودفن في جنة المعلاة بعد حياة حافلة بالفضائل والمكارم، والتقى، وملازمة مجالس العلماء.
زاملته مدرساً عام التخرج عام 1378هـ، فقد تخرج من كلية المعلمين بمصر قسم اللغة الإنجليزية، فكان من أوائل السعوديين إن لم يكن أولهم تأهيلاً لتدريس هذه المادة. زاملته في مدرسة الزاهر المتوسطة أستاذاً متخصصاً في تدريس اللغة الإنجليزية، فكان بين زملائه محمود السيرة، سليم الطوية، مسالماً، لطيف المعشر، خفيف الظل، يكسوه الحلم، يعفو عمن جهل عليه، لا يثأر لنفسه.
كانت علاقته رحمه الله بزملائه المدرسين علاقة حب واحترام متبادل، يألفهم ويألفونه، فكان قريباً إلى قلوبهم.
ظل مدرساً بمدرسة الزاهر المتوسطة لمدة أربعة أعوام، كان مديرها سعادة الأستاذ مصطفى حسين عطار حفظه الله، وكان بمثابة الأخ الكبير للمدرسين حديثاً، يبذل لهم النصح في صدق إخلاص، والحب في تقدير وإكبار، حظيت هذه المدرسة بإدارته الحكيمة بعدد من المدرسين النابهين، بينهم علماء كبار من المواطنين، والأساتذة المتعاونين المتعاقدين، نعمنا بزمالتهم، واستفدنا من تجاربهم والجلوس إليهم، منهم العلامة الفقيه الشيخ محمد خليل طيبة، والعلامة الفقيه الأديب الشيخ علي بكر الكنوي، الأستاذ عبدالرحيم ملا، والأستاذ عبدالعزيز خوقير، كان من الزملاء حديثي التخرج العاملين في هذه المدرسة: الأستاذ جميل ظفر (الدكتور)، والأستاذ محمد علي نقلي، كانت العلاقة بين المدرسين مواطنين ومتعاونين علاقة حب وإخاء وتقدير، ونصح، تجمعنا مناسبات اجتماعية أسبوعية خارج نطاق العمل، نعمنا بحياة أبوية من كبارنا، وأخوية من أندادنا، قامت على الحب والصفاء، كان الطلاب يشعرون بهذه الروح، روح المحبة والتقدير، والعلاقات الحميمة بين المدرسين، فكان يسري تيارها بين الطلاب والمدرسين، يذكيه ويشجعه مديرها القدير الأستاذ مصطفى عطار حفظه الله، كانت التقارير السنوية مشرفة عن عمل هؤلاء المدرسين، كان من نتائجها ترفيع معظم هؤلاء المدرسين إلى التدريس في مراحل تعليمية متقدمة، كان من جملتهم الأستاذ صديق عبدالمؤمن لشكر رحمه الله تعالى، انتقل مع بعض زملائه إلى التدريس بالمدرسة العزيزية الثانوية، شاءت إرادة المولى أن نتزامل في هذه المرحلة التعليمية المتقدمة أيضاً، يدير دفتها الإداري المحنك، الأديب الشاعر الأستاذ محمد الشبل حفظه الله، ووكيلاه القديران: فضيلة العلامة كبير سدنة الكعبة المشرفة الأستاذ طلحة بن حسن عبدالقادر الشيبي رحمه الله، والأستاذ القدير عبدالواحد طاشكندي، كانت تجربة جديدة ناجحة لكلينا، كان الأستاذ صديق لشكر فيها محمود العمل والسيرة، تزيده الأيام خبرة، وتصقل حياته التجارب، والعكوف على التدريس. أمضى عامين في التدريس في المدرسة العزيزية الثانوية، وقد رشحه عمله وجده وإخلاصه مع بعض الزملاء لأن ينتقل معيداً لتدريس مادة اللغة الإنجليزية بكلية التربية، فأمضى وزملاؤه عاماً واحداً في المعيدية، ثم صدر قرار وزير المعارف معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ رحمه الله تعالى بابتعاثه وزملائه إلى أمريكا وبريطانيا، كان ابتعاثه إلى الولايات المتحدة، وبعد أن حصل على الماجستير عاد إلى المملكة مدرساً بكلية التربية، وفي سبيل بره بوالدته الطاعنة في السن رحمها الله تعالى آثر البقاء بالبلاد، وعدم العودة لإتمام الدراسة، ظل رحمه الله تعالى يمارس مهنة التدريس في جامعة الملك عبدالعزيز -شطر مكة المكرمة- ثم جامعة أم القرى، وقد ترأس في فترة منها رئاسة قسم اللغة الإنجليزية، تخرج على يده أجيال من أساتذة اللغة الإنجليزية في المملكة العربية السعودية، وكبار أساتذة اللغة الإنجليزية في بعض الجامعات السعودية.
حمد طلابه في جميع هذه المراحل العلمية سيره بهم في تعليم اللغة الإنجليزية، على طريقة حديثة، وأسلوب محبب، ولإخلاص متفان، لم يؤثر عنه إلا كل سيرة حسنة، وحب وتقدير متبادل مع طلابه. أمضى حياته كلها في التدريس، وقد أحيل إلى التقاعد عام 1417هـ فترك ذكرى حسنة بين زملائه وطلابه، ومجتمعه الذي كان يعيشه.
كان رحمه الله تعالى مواظباً على الحضور إلى المسجد الحرام، كثير الطواف بالبيت حتى سنوات اعتلاله.
من الجوانب المشرقة في حياة الزميل الأستاذ صديق لشكر رحمه الله تعالى الذي تميزه به حياته، إنه كان ملازماً لحلقات العلماء بالمسجد الحرام، فلم يكن حبيس مادته في القراءة والاطلاع، والدراسة، له حضور دائم في دروس العلماء بالمسجد الحرام: يرتاد صباحاً حلقة درس العلامة الفقيه المحدث الشيخ خير محمد الباكستاني رحمه الله التي يعقدها بعد صلاة الصبح إلى بعد شروق الشمس في رواق باب الباسطية، فكان رحمه الله تعالى من جملة الحضور في كتاب الرسالة للإمام الشافعي في علم أصول الفقه، وكان من بين حضور هذا الدرس بعض كبار طلاب العلم وأعيان البلاد ومثقفيها منهم: الشيخ محمد رشيد فارسي، والشيخ جميل خشيفاتي رحمهما الله تعالى، وقد أفدت شخصياً الكثير من دروس هذا العلامة الكبير في دروس أصول الفقه، وبخاصة في كتاب الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
وفي المساء كان للزميل الأستاذ صديق لشكر حضور في دروس العلامة فضيلة الشيخ حسن محمد المشاط بحصوة باب المحكمة في الصيف، وبرواقها حين يعقد فيها دروسه بالشتاء.
كان للزميل الصديق صديق لشكر رحمه الله تعالى حضور في أكثر من حلقة درس بالمسجد الحرام فكان أحياناً يحضر دروس العلامة السيد أمين كتبي رحمه الله تعالى برواق باب الباسطية، وفضيلة الشيخ عبدالعزيز خان بحصوة باب أجياد وغيرهما.
كان لهذه الدروس العلمية آثارها في سعة آفاق ثقافته الشرعية، وسلوكه الحميد، وكان بذلك رحمه الله يزداد قرباً، وحباً من العلماء.
علاقته بالشيخين الفاضلين العلامة المشاط، وخير محمد علاقة قوية، يقوم ببعض شؤونهما، وبخاصة فضيلة العلامة الشيخ خير محمد الباكستاني، فقد كان له نعم العون والمؤازر في كثير من أموره الخاصة.
نشاطه الاجتماعي متعدد في المجتمع المكي، ورث حرفة الطوافة من والده رحمه الله، وكان من بين المطوفين النابهين الذين أسهموا في الارتفاع بمستوى الخدمة لهذه المهنة، فكان له جهوده مع الحجاج الذين يفدون إليه وباسمه، وبعد أن أصبحت مؤسسات.
الأستاذ صديق عبدالمؤمن لشكر رحمه الله تعالى ظل حبيس المنزل، طريح الفراش سبع سنوات دون أن يحظى بسؤال من المؤسسات العلمية التي عمل بها، فضلاً عن شيء من الرعاية، وكذا نهاية كل من أحيل إلى التقاعد في هذه المؤسسات مهما طال به الزمن في خدمتها، وأخلص في النهوض بها.
الأستاذ صديق لشكر أمضى زهرة شبابه في خدمة التعليم، مجاهداً مخلصاً، حميد الخصال، لم تؤثر عنه شكوى، أو ملامة، بعد أن خرج إلى التقاعد كان مصيره مصير غيره من المدرسين في التعليم العام، والجامعي كما لو لم يكن ينتسب إلى مؤسسة علمية ترعى شؤونه وتتفقد أحواله، بل في الكثير من الأحيان تتجاهل هذه الجهات جهود العاملين السابقين فيها، فتضن حتى بالتعريف لهم فيما لو احتاجوا إلى ذلك، وقد سمعنا بكثير من هذه الأمور لكبار الأساتذة في الجامعات والتعليم العام.
وفي الوقت الحاضر أستطيع أن أعد عدداً من الز ملاء في التعليم العام والتعليم الجامعي من أساتذة نابهين قد حل بهم من الأسقام ما هم بحاجة ضرورية إلى من أن يواسيهم في وضعهم، ويخفف من معاناتهم وآلامهم، ولو بكلمة طيبة، وزيارة لتفقد أحوالهم ومواساتهم ليكون هذا تطييباً، ومراعاة لأوضاعهم، وتخفيفاً لآلامهم.
إلى متى سيظل تجاهل هذه المؤسسات لمن بذل زهرة شبابه فيها من المدرسين والعاملين بها من قممها إلى فراشيها، الفنيين والإداريين، وأخلص للوطن وأبنائه، هذه المؤسسات التي نعدها منارات حضارية تنمي في أجيالنا روح الوفاء للبلاد، وللأمة والمجتمع؟!!
قد مضت أجيال وأجيال في بلادنا وهي تحمل بين جنبيها الأسى والألم من إهمال للإنسان العامل المخلص، وصدق الأديب الكبير الشيخ محمد حسين زيدان رحمه الله في مقولته: (نحن مجتمع دفان).
متى يشرق فجر اليوم الذي تهتم فيه هذه المؤسسات بالعاملين فيها، يستبدلون كابوس الإهمال بالعناية والاهتمام، حينها يحق أن ندعي بأننا أمة حضارة تهتم بالإنسان، وليس بالحيطان؟ فتنشئ إدارة خاصة بالعاملين بها القدماء، وليس بعنوان (المتقاعدين)، وكذلك قسماً خاصاً يربط المتخرجين منها ليظلوا أوفياء لها، مسهمين في نشاطاتها وتطورها، كما هو معروف في الجامعات والمؤسسات المدينة المتقدمة في البلاد الأخرى.
نتمنى أن يطل علينا فجر جديد يشرق ضياؤه في النفوس فيعيد بمؤسساته المدنية الأمل في تقدير العاملين أحياءً، ومرضى، وأمواتاً.
رحم الله الزميل العزيز الأستاذ صديق عبدالمؤمن لشكر الذي عاش غفلاً من مؤسسة عمل فيها ما يقارب الثلاثين عاماً دون أن يحظى بنظرة إنسانية، ولكنه وسواه من العاملين المخلصين سيلقون بلاشك من المولى جل وعلا الجزاء الأوفى كفاء جهادهم وجهودهم لما قدموه لأمتهم، ووطنهم، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
العزاء الجميل لأبنائه وأهل بيته، وذوي قرابته، ولأصدقائه بعامة، وصديقيه الحميمين بخاصة: معالي الدكتور محمد سعيد فارسي، والأستاذ محمد علي أمان حفظهما الله، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).