مركز دراسات المستقبل لم يعد ترفاً
الخميس / 02 / رجب / 1438 هـ الخميس 30 مارس 2017 01:31
علي حسن التواتي
alitawati@
لم تعد مراكز دراسات المستقبل ترفا ثقافيا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للدول النامية التي تواجه تحولات كبرى مثل المملكة العربية السعودية. وسبب عودتي لطرح مقترح إنشاء «مركز وطني» لهذا النوع من الدراسات مرة أخرى بعد سنين، هو تقرير حديث عن سوق العمل المستقبلية في الولايات المتحدة وبريطانيا نشرت نتائجه ميل أون لاين (لندن- المملكة المتحدة) بتاريخ 24 مارس 2017.
فالتقرير يعطي لسوق العمل في 2030 صورة مغايرة عما خبرناه وعهدناه حتى الآن. واستيعاب مضمونه يتطلب ممن يمسكون بدفة القرار الاقتصادي إعادة دراسة هيكلية السوق المستقبلية في ضوء المتغيرات المتلاحقة التي نحتاج للإحاطة بها وإعداد وتعديل الخطط والسياسات بموجبها. فهناك مخاوف حقيقية من أن 4 من كل 10 وظائف حالية يشغلها موظفون مهددة بإحلال آلات (روبوتات) محلهم في أمريكا وأن 38% من وظائف سوق العمل ستشغل بهذه الروبوتات. أما في بريطانيا فهناك 10.4 مليون وظيفة مهددة تمثل نحو 30% من إجمالي وظائف سوق العمل البريطانية في نفس التاريخ.
أما الوظائف المهددة فهي موزعة على عدة قطاعات في مقدمتها القطاع المصرفي، ومنها قطاعات تجارة الجملة والتجزئة والتخزين وسلاسل الإمداد والتصنيع والخدمات الإدارية والمساندة، وذلك في ضوء تنامي حجم التجارة الإلكترونية. ومنها أيضا قطاع المواصلات الذي تسيّر فيه العديد من الوسائل حاليا بشكل آلي. وحتى وظائف سائقي السيارات الخاصة والعامة أصبحت مهددة أكثر من أي وقت مضى في ضوء التجارب التي تجري حاليا في أكثر من دولة لتسيير سيارات مسيرة ذاتيا ولا تحتاج لسائقين.
وقد يظن البعض بأن الحديث عن مثل هذه المخاوف مبكر جدا بالنسبة لبلادنا، ولكن من رأى سيارات أحد المصارف السعودية المتصلة بالأقمار الصناعية وهي تجوب الأرياف لتقديم كافة الخدمات المصرفية وكأنها فروع كاملة يجب أن يعيد النظر، ومن يجدد استمارة سيارته وجواز سفره ويحصل على معظم خدمات وزارات الداخلية والعدل والبلديات والتعليم عبر الإنترنت عليه أن يعيد النظر أيضا..
وبالتأكيد فإن معرفة مبكرة بأي تطورات مستقبلية ستكون لها آثار مباشرة في التخطيط المستقبلي للمجال الذي تحدث فيه، كما هو الحال في فقدان الوظائف في المجالات التي ذكرناها، إضافة إلى آثار متعدية من أهمها هنا التخطيط للدراسات المهنية والجامعية التي يجب أن تعاد هيكلتها من أجل «سوق العمل المستقبلي وليس الحالي».
ولا بد من التنويه هنا مرة أخرى بأن إنشاء مركز لدراسات المستقبل السعودي كان ضمن اهتمامات الأمير سلطان بن عبدالعزيز -يرحمه الله- وشكل له لجنة من الوزارات السيادية الثلاث (الدفاع، الداخلية، الخارجية) تشرفت بعضويتها سنة 1421هـ ممثلا لوزارة الدفاع إلى جانب اللواء الدكتور فيصل حسن حامد ممثلا لوزارة الداخلية والدكتور صالح بن عبدالله الراجحي ممثلا لوزارة الخارجية. ولقد قامت اللجنة باستكمال المرحلة الأولى من الدراسة التي شملت مسحا ميدانيا لكافة الجامعات والوزارات ذات العلاقة. وبعد عرض النتائج على الأمير سلطان – يرحمه الله – استأنس برأي المستشارين في شعبة الخبراء الدكتور مطلب النفيسة والدكتور مساعد العيبان اللذين أبديا إعجابهما بما أنجز واقترحا على سموه ضرورة استكمال اللجنة - بنفس الأعضاء - للجانب الدولي من الدراسة بزيارة مراكز دولية قائمة شملت بريطانيا وأمريكا والسويد وفنلندا والدنمارك ومصر والإمارات، وذلك على أمل أن يقوم المركز المقترح بمهامه «كأداة فعالة سريعة تستخدمها القيادة العليا في استقراء اتجاهات الظواهر والأحداث المحلية والدولية حتى يمكن التدخل في الوقت المناسب لمساندة الاتجاهات الإيجابية، وتعديل المسارات غير المرغوبة، واستكمال المتطلبات الضرورية لمواجهة الأزمات المحتملة والتعامل معها».
وبعد استكمال اللجنة للدراسة على المستويين المحلي والدولي سنة 1424هـ، حدد الأمير سلطان - يرحمه الله - موعدا لأعضاء اللجنة لإيجازه عن التفاصيل والتوصيات، ولكن حلول الأجل المحتوم علينا جميعا لم يمهل الأمير وقتا لتحويل الحلم إلى حقيقة.
ومراكز دراسات المستقبل لمن يهمه التكييف الشرعي لها لا تدخل في علم الغيب ولا تعتمد على التنجيم والتخمين والشعوذة، بل هي عبارة عن مجسات استشعار للتعرف المبكر على اتجاه التطورات في مختلف المجالات عن طريق المتابعة والاستقراء بهدف التعرف على مساراتها والتدخل عند اللزوم لتصحيح المسار السلبي منها وتعزيز الإيجابي، وذلك باستخدام الأدوات العلمية المناسبة لكل مجال ولكل حالة على حدة. وتدخل دراسات المستقبل بحسب ما أفادنا الوكيل الأسبق للجامعة الإسلامية للدراسات العليا في المدينة المنورة الشيخ الدكتور محمد بن حمود الوائلي، أثناء زيارتنا للجامعة حينها، بأنها تدخل في نطاق (الفقه التقديري) أو (الفرضي) الذي يقوم على افتراض حالات وأوضاع قد تحدث في المستقبل وتصور أحكاما لها في حال وقوعها.
ويبقى أن أختم بأن الدراسة موجودة ومازالت الحاجة لها قائمة، بل أصبحت ملحة بمرور الأيام. كما أن من قاموا بها ومن شجعوا على استكمالها مازالوا على قيد الحياة، ولكن البيروقراطية هي التي تسأل عن حبسها في الأدراج والدفع بها في دهاليز النسيان. ولذلك آمل أن تبعث الدراسة من جديد بتبنيها مرة أخرى من القيادة العليا لما فيه مصلحة البلاد والعباد خاصة في ضوء رؤية 2030 للتحول الوطني..
*أستاذ الاقتصاد والتمويل المساعد في جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة
altawati@gmail.com
لم تعد مراكز دراسات المستقبل ترفا ثقافيا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للدول النامية التي تواجه تحولات كبرى مثل المملكة العربية السعودية. وسبب عودتي لطرح مقترح إنشاء «مركز وطني» لهذا النوع من الدراسات مرة أخرى بعد سنين، هو تقرير حديث عن سوق العمل المستقبلية في الولايات المتحدة وبريطانيا نشرت نتائجه ميل أون لاين (لندن- المملكة المتحدة) بتاريخ 24 مارس 2017.
فالتقرير يعطي لسوق العمل في 2030 صورة مغايرة عما خبرناه وعهدناه حتى الآن. واستيعاب مضمونه يتطلب ممن يمسكون بدفة القرار الاقتصادي إعادة دراسة هيكلية السوق المستقبلية في ضوء المتغيرات المتلاحقة التي نحتاج للإحاطة بها وإعداد وتعديل الخطط والسياسات بموجبها. فهناك مخاوف حقيقية من أن 4 من كل 10 وظائف حالية يشغلها موظفون مهددة بإحلال آلات (روبوتات) محلهم في أمريكا وأن 38% من وظائف سوق العمل ستشغل بهذه الروبوتات. أما في بريطانيا فهناك 10.4 مليون وظيفة مهددة تمثل نحو 30% من إجمالي وظائف سوق العمل البريطانية في نفس التاريخ.
أما الوظائف المهددة فهي موزعة على عدة قطاعات في مقدمتها القطاع المصرفي، ومنها قطاعات تجارة الجملة والتجزئة والتخزين وسلاسل الإمداد والتصنيع والخدمات الإدارية والمساندة، وذلك في ضوء تنامي حجم التجارة الإلكترونية. ومنها أيضا قطاع المواصلات الذي تسيّر فيه العديد من الوسائل حاليا بشكل آلي. وحتى وظائف سائقي السيارات الخاصة والعامة أصبحت مهددة أكثر من أي وقت مضى في ضوء التجارب التي تجري حاليا في أكثر من دولة لتسيير سيارات مسيرة ذاتيا ولا تحتاج لسائقين.
وقد يظن البعض بأن الحديث عن مثل هذه المخاوف مبكر جدا بالنسبة لبلادنا، ولكن من رأى سيارات أحد المصارف السعودية المتصلة بالأقمار الصناعية وهي تجوب الأرياف لتقديم كافة الخدمات المصرفية وكأنها فروع كاملة يجب أن يعيد النظر، ومن يجدد استمارة سيارته وجواز سفره ويحصل على معظم خدمات وزارات الداخلية والعدل والبلديات والتعليم عبر الإنترنت عليه أن يعيد النظر أيضا..
وبالتأكيد فإن معرفة مبكرة بأي تطورات مستقبلية ستكون لها آثار مباشرة في التخطيط المستقبلي للمجال الذي تحدث فيه، كما هو الحال في فقدان الوظائف في المجالات التي ذكرناها، إضافة إلى آثار متعدية من أهمها هنا التخطيط للدراسات المهنية والجامعية التي يجب أن تعاد هيكلتها من أجل «سوق العمل المستقبلي وليس الحالي».
ولا بد من التنويه هنا مرة أخرى بأن إنشاء مركز لدراسات المستقبل السعودي كان ضمن اهتمامات الأمير سلطان بن عبدالعزيز -يرحمه الله- وشكل له لجنة من الوزارات السيادية الثلاث (الدفاع، الداخلية، الخارجية) تشرفت بعضويتها سنة 1421هـ ممثلا لوزارة الدفاع إلى جانب اللواء الدكتور فيصل حسن حامد ممثلا لوزارة الداخلية والدكتور صالح بن عبدالله الراجحي ممثلا لوزارة الخارجية. ولقد قامت اللجنة باستكمال المرحلة الأولى من الدراسة التي شملت مسحا ميدانيا لكافة الجامعات والوزارات ذات العلاقة. وبعد عرض النتائج على الأمير سلطان – يرحمه الله – استأنس برأي المستشارين في شعبة الخبراء الدكتور مطلب النفيسة والدكتور مساعد العيبان اللذين أبديا إعجابهما بما أنجز واقترحا على سموه ضرورة استكمال اللجنة - بنفس الأعضاء - للجانب الدولي من الدراسة بزيارة مراكز دولية قائمة شملت بريطانيا وأمريكا والسويد وفنلندا والدنمارك ومصر والإمارات، وذلك على أمل أن يقوم المركز المقترح بمهامه «كأداة فعالة سريعة تستخدمها القيادة العليا في استقراء اتجاهات الظواهر والأحداث المحلية والدولية حتى يمكن التدخل في الوقت المناسب لمساندة الاتجاهات الإيجابية، وتعديل المسارات غير المرغوبة، واستكمال المتطلبات الضرورية لمواجهة الأزمات المحتملة والتعامل معها».
وبعد استكمال اللجنة للدراسة على المستويين المحلي والدولي سنة 1424هـ، حدد الأمير سلطان - يرحمه الله - موعدا لأعضاء اللجنة لإيجازه عن التفاصيل والتوصيات، ولكن حلول الأجل المحتوم علينا جميعا لم يمهل الأمير وقتا لتحويل الحلم إلى حقيقة.
ومراكز دراسات المستقبل لمن يهمه التكييف الشرعي لها لا تدخل في علم الغيب ولا تعتمد على التنجيم والتخمين والشعوذة، بل هي عبارة عن مجسات استشعار للتعرف المبكر على اتجاه التطورات في مختلف المجالات عن طريق المتابعة والاستقراء بهدف التعرف على مساراتها والتدخل عند اللزوم لتصحيح المسار السلبي منها وتعزيز الإيجابي، وذلك باستخدام الأدوات العلمية المناسبة لكل مجال ولكل حالة على حدة. وتدخل دراسات المستقبل بحسب ما أفادنا الوكيل الأسبق للجامعة الإسلامية للدراسات العليا في المدينة المنورة الشيخ الدكتور محمد بن حمود الوائلي، أثناء زيارتنا للجامعة حينها، بأنها تدخل في نطاق (الفقه التقديري) أو (الفرضي) الذي يقوم على افتراض حالات وأوضاع قد تحدث في المستقبل وتصور أحكاما لها في حال وقوعها.
ويبقى أن أختم بأن الدراسة موجودة ومازالت الحاجة لها قائمة، بل أصبحت ملحة بمرور الأيام. كما أن من قاموا بها ومن شجعوا على استكمالها مازالوا على قيد الحياة، ولكن البيروقراطية هي التي تسأل عن حبسها في الأدراج والدفع بها في دهاليز النسيان. ولذلك آمل أن تبعث الدراسة من جديد بتبنيها مرة أخرى من القيادة العليا لما فيه مصلحة البلاد والعباد خاصة في ضوء رؤية 2030 للتحول الوطني..
*أستاذ الاقتصاد والتمويل المساعد في جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة
altawati@gmail.com