آفة التميز والتفضيل والتخصص سنن سنها العلماء للفصل بينهم وبين الرعاع أو العوام أو السواد الأعظم الذين يتم وصفهم غالبا بالجهلة... وهكذا عبر الفقه سنوات طويلة من التعتيم بحجة أن هناك علما للخاصة وعلما ينثر على العامة وأن لا يناقش العلم الخاص على مسامع الدهماء خشية أن يفتنوا في دينهم.. هذا التميز والتفضيل لم يسقطا إلى الآن، مع أن الزمن مكن الناس من التعلم والإدراك والتفقه فيما أشكل عليهم، ولكي تظل الحماية للمتميزين جاء إلينا بعض العلماء بمفردات شبيهة بالعلماء الربانيين وأنهم هم الوحيدون من يفتى في أمور الدين، وجعلوا من الدين تخصصا لا يجوز لعالم الفيزياء أو الفلك أو الطب أو الهندسة الإفتاء في الأمور الشرعية ولهذا تم حجب كثير من الأمور المسيرة لحياة الناس وأقدم العلماء الربانيون بالبصم على التحريم بالرغم من (حليتها)، واذا حاججتهم بقوله تعالى:

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) سورة أل عمران)

أو ما حدث به أبو هريرة عن قول رسول الله: صلى الله عليه وسلم «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» ورواه ابن ماجه والترمذي وحسنه، وصححه الألباني..

عندها سيقف العالم الرباني ليقول لك وجوب إفشاء العلم وعدم كتمه ليس على الإطلاق، فإن فتحت فمك قائلا: لماذا يا شيخ؟ فسيرى سؤالك دليلا على أنك من الرعاع، عندها سينفخ صدره ويشيح ببصره عن جهلك المطبق قائلا:

- يجوز إفشاء العلم إذا صح بيانه، أما إذا لم يصح بيانه فيجوز أن تكتم ذلك العلم.

ومثل هذا القول: أحجية وأستار لم يعد لها معنى في ظل النهضة التعليمية وتدني مستوى الأمية ومقدرة كل متعلم على البحث عن الإجابات لما يعترض حياته من أسئلة سواء كانت شائكة أو سهلة..

فالتفقه في الدين ليس حكرا على أحد ودائما ما أردد أن مسائل الدين لا تحتاج إلى تخصص فالدين رسالة جماعية كل منا يمارسه ضمن ما يعرفه.. وإلا كان لزاما أن نسأل أو نمحص ماذا كان عليه الصحابة الذين أسلموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوا إلى بلدانهم من غير أن يزودوا بكل هذه الأحكام الفقهية التي تملأ آلاف المجلدات.