ثقافة وفن

كيف صرت كاتبة؟

إيزابيل الليندي

ترجمة: عبدالله عبيد*

اللغة شيء أساسي وشخصي للكاتب مثل الدم تماما، إنني أقيم في كالفورنيا وهي مكان يتحدث الإنجليزية ولكنني أستطيع فقط الكتابة بالإسبانية، في الحقيقة.. كل الأمور المحورية في حياتي تحدث بالإسبانية كتوبيخي لأحفادي، وطبخي، وحتى ممارستي للحب.

وربما هذه هي النقطة التي أود أن تخبركم كيف؟ ولماذا صرت كاتبة؟!

يبدو أن حياتي تدور حول الألم، والخسارة، والحب، والذاكرة. الألم والخسارة هما المعلمان اللذان يجعلاني أكبر، بينما الحب يساعدني على التحمل ويمنحني الفرح (أعلم أن هذا يبدو مبتذلاً). الذاكرة هي المادة الخام لكل كتاباتي.

لقد ولدتُ أثناء الحرب العالمية الثانية. (إنني أبدو جيدة مقارنة بعمري، وهذا يكلفني الكثير من المال والعمل) نعم.. أنا شمطاء وأبدو من بقايا الأهرامات ولكن الشيخوخة لم تداهمني بعد. لقد نشأت في عائلة بطريركية إذ كان جدي في المرتبة الثانية فيها بعد (). أمي تزوجت رغما عن جدي الرجل الخطأ، والذي صار فيما بعد أبي. أثناء قضائهما لشهر العسل كان أبي يشعر بدوار البحر ومع ذلك تمكنتْ أمي من أن تحبل بي. في السنوات الثلاث التي تلتْ هذا انفصلا كثيرا عن بعضهما، ولكنْ التقاؤهما القليل جعلهما يحظيان بطفلين آخرين. (الخصوبة عالية في عائلتي، أنا محظوظة لأنني أصبحت أنثى ناضجة في عصر حبوب منع الحمل).

كان زواج والديّ كارثيا منذ البداية، ففي أحد الأيام وفي عيد ميلادي الثالث، ذهب أبي لشراء السجائر ولم يعد أبدًا. كانت تلك أولى خساراتي العظيمة في الحياة، ولذلك ربما لا أستطيع أبدا الكتابة عن الآباء. هناك العديد من الأطفال اللقطاء في كتبي والذين أستطيع أن أبتدئ بهم دارًا للأيتام. ترك أبي أمي عالقة في بلد أجنبي وبرفقتها ثلاثة أطفال صغار. ما جعل الأمور أكثر سوءا، أنه لم يكن يوجد طلاق في دولة تشيلي، إنها الدولة الوحيدة في المجرة دون طلاق (أصبح الطلاق في تشيلي أخيرا قانونيا في عام 2004).

بطريقة ما تمكنت أمي من فسخ زواجها، وبالتالي أصبحتْ أمّاً وحيدة مع ثلاثة أطفال غير شرعيين. لم يكن لديها المال، كانت تملك القليل من التعليم ولا تملك أي مهارات خاصة.

كان خيارها الوحيد هو أن تعود إلى أبيها لتحصل على مساعدته، وهو ما فعلته.

كان منزل جدي وجدتي.. حيث قضيت طفولتي مليئا بالحيوانات البرية والبشر الغريبين، وكذلك بالأشباح الطيبة. كانت جدتي سيدة ساحرة ومن اللواتي لهن اهتمام بسيط بالعالم المادي. فقد أمضت معظم حياتها بتجربة التخاطر والتحدث إلى أرواح الموتى من خلال جلسات تحضير الأرواح التي كانت تقيمها. هذه هي السيدة المستبصرة التي يمكن لها أن تحرك الأشياء دون أن تلمسها، وهي نموذج لـشخصية «كلارا ديل فالي» التي كانت في أولى رواياتي «بيت الأرواح». ماتت جدتي منذ وقت طويل وفي سن مبكرة ولكنها مثل ابنتي «باولا» وجودها مستمر في حياتي. جدي كان باسكيا صلبا وكما كان أيضا عنيدا كالبغل، وكان درسا حقيقيا لي في الانضباط. كان يمكن أن يتذكر المئات من الحكايات الشعبية والقصائد الملحمية الطويلة، وكما كان حكيما أيضا. عاش جدي قرنا من الزمان، وخلال الجزء الأخير من حياته قام بقراءة الكتاب المقدس مرات عديدة من الغلاف إلى الغلاف، كما قرأ الموسوعة البريطانية «بريتانيكا» كاملة من الألف إلى الياء، لقد منحني جدي حب اللغة والقصص. لم تكن للسعادة أي علاقة بعائلتي. فقد ذهل جدي كما ذهلت جدتي عندما علما أن الناس ينفقون المال على العلاج لكي يتغلبوا على تعاستهم. بالنسبة لهم كان الألم الحياة بشكلها الطبيعي، وكل ما عدا ذلك هراء. إن الارتياح أتى من فعلنا للشيء الصحيح في الأسرة، والشرف، والخدمة، والتعلم باستمرار. أما عن الفرح فبالطبع كان حاضرا في نواحٍ كثيرةٍ من حياتنا، ولم يكن الحب آخر شيء فيها، ولكننا لم نكن نتحدث عن الحب لأنه كان محرجا للغاية. المشاعر كانت تتدفق بصمت، لم يكن هناك الكثير من اللمس أو التقبيل. كان الأطفال بلا إشادة أو تدليل، وكان يُعْتقد في منزلنا أن هذا الفعل غير صحي، لقد تم تجاهل الجسد ووظائفه في عائلتنا. كانت جريمة ذات طعم سيئ لو اضطررنا للحديث عن الدين، والسياسة، والصحة، وقبل كل شيء.. المال. ورغم هذا مارست عائلتي فعل الخير بكثرة مع حرص شديد على التكتم، كان دافعها هو الكرم لا الفضيلة، كانت تفعل ذلك من باب الواجب لا التباهي.