كتاب ومقالات

جدة تعاني وتتساءل: مَنْ يُعطِّل مشاريع النقل فيها؟

غسان بادكوك

gbadkook@

لم أتردد في قبول دعوة أمين جدة الدكتور هاني أبوراس، لزيارة مقر شركة مترو جدة يوم السبت الماضي مع نخبة من كُتّاب الرأي؛ مدفوعاً بفضولٍ كبير لمعرفة ما تقوم به الشركة التي طالما مررت من أمام مبناها وأنا أتساءل عن الدور الذي تقوم به؟؛ خصوصاً مع عدم وجود أية مشاريع (قائمة) أو مظاهر (مُشاهدة) للنقل العام بجدة، رغم مرور 4 سنوات على صدور قرار مجلس الوزراء الموقر بتأسيس تلك الشركة، ورصد مبلغ 45 مليار ريال لمشاريع النقل في المدينة!.

وإذا كنتُ اليوم أكتبُ مُشيداً بأمانة جدة لجهودها المتميزة في (التجهيز) لمشروع النقل العام؛ فإن مَن يقرأ لي أو يتابعني يعرف بأنه لا حاجة بي لمحاباة الأمانة التي طالما انتقدتُ أداءها؛ سواء عبر بعض مقالاتي، أو من خلال حسابي على تويتر؛ باعتباري مواطناً من جدة؛ يعتقد بأن هناك الكثير مِمّا يتوجَّب على الأمانة القيام به، خصوصاً تجاه ترتيب أولوياتها؛ بدءا بإنشاء شبكة لتصريف مياه الأمطار، ومروراً بمعالجة تلوُّث شواطئها، وانتهاءً بفك ازدحامها المروري الخانق.

ورغم أن الأمانة استهدفت من الزيارة إطْلاع عدد من كُتَاب الصحف وصُنّاع الرأي العام على مستجدات بعض مشاريعها بجدة؛ وتحديداً مشروعا النقل العام، وتطوير واجهتها البحرية، إلّا أن الإنجازات التي شاهدتها كانت كفيلة بتبديد «بعض» انطباعاتي السلبية عنها، نظراً لوقوفي على جانب من الجهود الكبيرة التي تبذلها الأمانة للانتقال بمدينة جدة من وضعها الحالي المثقل بالتحديات، إلى آفاق تليق بمكانتها وموقعها الحضاري وأهميتها التجارية وعمقها التاريخي.

ونظراً لأن مقالاً واحداً لن يكفي لنقل صورة واقعية وموضوعية لما شاهدناه خلال زيارتنا، فسوف أخصص مقال اليوم للحديث فقط عن مشروع النقل العام، وسأؤجل الحديث عن مشروع تطوير الكورنيش لمقالي القادم إن شاء الله؛ بادئاً برؤية مدينة جدة كما رسمَتها أمانتها التي تنص على «تعزيز مكانة جدة الفريدة كبوابة للحرمين الشريفين، لتصبح مركزاً حضارياً للثقافة الإسلامية، ومقصداً تجارياً وسياحياً متميزاً؛ بيئياً وإنسانياً، عالمي المستوى؛ في ظل تنمية مستدامة».

وبالطبع فإن تنفيذ مثل تلك الرؤية الطموحة يتطلب إرادة قوية وإدارة متميزة ومقومات أخرى عديدة، وبالإضافة لكل ذلك فهي تتطلب بالتأكيد موارد مالية؛ بدون توفيرها (في التوقيت المناسب)، تصبح تلك الرؤية مجرد صورة تخيُّلية جميلة؛ لا تتجاوز الأمنيات، وهنا مربط الفرس؛ فرغم أن أمانة جدة قامت بما يتعين عليها القيام به من هياكل ومخططات لمشروع النقل العام، إلا أن ما يعيق البدء بتنفيذه هو تأخر تخصيص المبالغ اللازمة لبدء العمل بالمشروع.

وقبل الاسترسال في الحديث عن المعوقات، قد يكون من المهم إعطاء القارئ فكرة عامة عن مشروع النقل العام بجدة ومحطاته ومكوناته الرئيسية التي تتشكل من العناصر الخمسة التالية:

1ــ شبكة قطارات حديثة ستغطي أرجاء المدينة بمحاورها الرئيسية المختلفة، وستسهم في حل مشكلة الازدحام المزمن بشوارع جدة.

2ــ منظومة حافلات متطورة ستحل مكان النقل الجماعي المتهالك، وستضاهي أفضل المشاريع المشابهة في المدن المتقدمة؛ وستتحرك وفق جداول زمنية دقيقة.

3ــ خط ترام الكورنيش الذي سيسير في الجزيرة الوسطية لطريق الكورنيش؛ بمحاذاة الواجهة البحرية وسيعتبر أحد مصادر الجذب السياحي.

4ــ جسر جدة المُعلّق الذي سيربط بين أبحر الجنوبية والشمالية وهو أوّل جسر سينشأ فوق الشرم، وسيختصر المسافة والوقت لروّاد وساكني شمال جدة، وسيصبح معلْماً فيها.

5ــ التاكسي البحري وهو عبارة عن رحلات ترددية في البحر بواسطة مراكب أو أبوات تنقل السائحين وراغبي النزهات البحرية من شمال المدينة لجنوبها وبالعكس.

وفي عام 1436هـ، صدر أمرٌ سامٍ بتكليف وزارة الاقتصاد والتخطيط باستكمال تنفيذ وتشغيل مشاريع النقل العام وتطوير الشراكة مع القطاع الخاص، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو عن سبب تأخير الوزارة (الملحوظ) في دراسة المشروعين الرئيسيين وهما القطار والحافلات؛ اللذان يعتبران (أساس) مشروع النقل العام، في الوقت الذي قامت فيه شركة مترو جدة بتهيئة المشاريع الثلاثة الأخرى للطرح؛ بمشاركة القطاع الخاص، وهي مشاريع (ترام الكورنيش والتاكسي البحري وجسر أبحر)، التي تعتبر بمثابة مشاريع مساندة ومكمِّلة للمشروعين الأوّلين.

اللافت والمؤلم معاً هو أن جميع تلك المشاريع لا تزال معطّلة؛ بانتظار توجيه وزارة الاقتصاد والتخطيط لطرح عناصر المشروع للمقاولين؛ وهو ما سيعتبر بمثابة إشارة بدء العمل فيها، يحدث ذلك رغم أن شركة مترو جدة قد استكملت منذ عام ونصف جميع التصاميم التفصيلية الخاصة بها وكذلك كراسات المنافسات، وقد شاهدنا على الطبيعة مخططاتها التنفيذية والمجسمات التي تحاكي ما ستكون عليه بعد تنفيذها، إضافة لمخططات المحطات الخاصة بكلٍ منها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك لجنتين تشرفان على أعمال شركة مترو جدة؛ أولهما هي اللجنة العليا التي يرأسها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، وعضوية وزراء الشؤون البلدية والقروية، والنقل، والمالية، أما اللجنة الثانية فهي اللجنة التحضيرية برئاسة أمين جدة، وتضم في عضويتها كلاً من إمارة المنطقة، ووزارة المالية، ووزراة النقل، والإدارة العامة للمرور، وهيئة النقل العام. تبقى جزئية هامة أود التأكيد عليها وهي أن مشاريع النقل العام عموماً، وخطوط المترو على وجه الخصوص هي من المشاريع غير المربحة؛ لذلك فهي تحتاج عادةً للدعم الحكومي كي تتمكن من تغطية تكاليف تشغيلها وصيانتها، لذا فإنني أتوجه اليوم باستفسار لوزير الاقتصاد والتخطيط المهندس عادل فقيه أقول له فيه: هل لا تزال الوزارة مقتنعة بقدرة القطاع الخاص (بمفرده) على تحمُّل كامل تكاليف مشروع النقل العام بجدة؟.

والأكيد هو أن الوزارة أعرف من غيرها بأن مشروع النقل العام بجدة بحاجة إلى قيام الدولة بتحمُّل تكاليف بنيتة التحتية؛ فضلاً عن القيمة الباهظة لنزع الملكيات، خصوصاً أن بالإمكان توزيع تكاليف المشروع على دفعات سنوية من ميزانية الدولة أو من خلال التمويل من البنوك، وبالتالي تشجيع القطاع الخاص ليشارك في تشغيل وصيانة تلك الأنظمة، وهذا ما تؤكده جميع التجارب العالمية.

ختاماً، أود لفت النظر إلى أن بعض شقيقاتنا الخليجيات قد تجاوزن مرحلة تأسيس مشاريع القطارات التقليدية وبدأن في إقامة مشاريع الـ(هايبر لوب)؛ وهي قطارات تنطلق في أنابيب مُفرّغة من الهواء وتسير بسرعة تفوق سرعة الصوت وتختصر زمن النقل إلى الرُّبع!، كما أُذكِّر معاليه بأن ما يخشاه أهالي جدة الآن هو أن يطول صمت الوزارة عن هذا الملف، أو أن يصدر التوجيه بتحّميل القطاع الخاص كامل التكاليف.

لو حدث ذلك فسيؤدي لتأخير مشاريع النقل (الحتمية) لمدينة رئيسية بحجم ومكانة وأهمية جدة، وبعد هدر المزيد من الوقت في انتظار توجيه الوزارة (المتأخِّر)، قد تضطر الحكومة لدعم تلك المشاريع؛ حينها ستكون مشكلة الازدحام قد تفاقمت، والتكاليف قد تضاعفت، وسيصبح تخطيطنا حينئذٍ مضرب الأمثال في عدم مواكبة الاحتياجات التنموية.

gbadkook@yahoo.com