الطائرة تحمل هويتها الوطنيَّة.. فوق جناحي المضيف والمضيفة
السبت / 25 / رجب / 1438 هـ السبت 22 أبريل 2017 02:51
كميل حواء*
حين تمَّ الاتصال بِنَا كدار تصميم لتولي إخراج وطباعة كتاب عن حياة الطيَّار نهار النصّار - وهو قيد الإنجاز - تملكني شغف كبير تجاه فكرة هذا الكتاب لم يضاهه شغفي بفكرة أي كتاب آخر.
بدءاً باسمه الفريد، ثمَّ مهنته، وهو أوَّل طيَّار سعودي، وكان قد بدأ تدريبه في مصر على يد مدرَّبة طيران مصريَّة، مرورا بكونه أوَّل من عبر المحيط الأطلسي بطائرة نفّاثة. هذه الأخبار كلها كانت تزيدني شغفاً وولعاً بقصته، إلى أن ذُكر لنا ما مثّل بنظري تتويجاً لسيرة تستحق بلا شكٍّ أن تتحوَّل فيلماً وثائقيَّاً مشوِّقاً، وهو أنَّ نهار كان الطيَّار الخاص لأربعة ملوك.
يا للأبُّهة
ومما أثار إعجابي أيضا بسيرة هذا الطيَّار السعودي أنَّ ملوك المملكة، بدءاً بالملك سعود ـ يرحمهم الله ـ اختاروا أن يضعوا الطائرات التي تقلّهم - وبالتالي حياتهم - بين يدي هذا الطيَّار السعودي الشاب في زمن كان الطيران فيه جديد عهد.
في ما مضى بينما كنت أسافر بين مدن المملكة، على متن إحدى طائرات الشركة السعوديَّة، كنت أتساءل: هل سيقود هذه الطائرة يوماً قبطان سعودي؟. ورويداً رحت ألاحظ أنَّ هذا يحدث بالفعل، وبعكس ما قد يتوقَّع بعضنا منحني هذا شعوراً بالارتياح. فقد شعرت أنَّ طياراً سعوديَّاً يقود طائرة تحمل علم بلاده، إضافة الى التحدِّي المبدئي له كملتحق جديد بهذه المهنة المعاصرة، سوف يجعله أشدَّ حرصاً وعناية ويقظة من غيره. وهكذا كان، فخلال الرحلات المتتابعة أخذت ألاحظ أنَّ الرحلة التي تتميَّز بتحكُّمٍ أفضل بخاصة في مرحلة الهبوط، وبالتالي بدرجة أقل من الشدِّ والجذب، يقودها سعودي. وفِي إحدى المرَّات كان الهبوط على درجة مذهلة من حسن التحكُّم وكأنَّ الطائرة لم تلمس الأرض، فوجدت نفسي أمدُّ يدي بشكل تلقائي لأصافح قائد الطائرة مهنِّئاً.
كان هذا قبل أن أعرف قصة نهار النصَّار. وحين كنت أفكِّر في الأمر كنت أَجِد أسباباً إضافيَّة لتفوُّق الطيَّار السعودي، أظنُّها حقيقيَّة ومنطقيَّة، وهي أنَّه من بلد له تراث في الفروسيَّة وعبور الصحارى. وقد يصل بِنَا التحليل حتى إلى أنَّ الفروسيَّة تمنحه ذاك التكوين النفسي الأكثر ملاءمة لقيادة الطائرة، كما لو أنَّه فارس طائرته.
الطائرة سفيرة من نوع آخر
أتتني كل هذه الأفكار بينما كنت مسافراً من الدمَّام إلى جدَّة. وقرأت خلال الرحلة في الجريدة نبأ احتلال الطيران الحربي السعودي، ولا غرابة، مكانة مرموقة بين أقرانه. لكن مقالي هنا يبقى في إطار الطيران المدني، ولو أنَّ الشيء بالشيء يذكر. وليس الطيران المدني بحدِّ ذاته بقدر طاقم الطائرة بالتحديد. أعتقد أنَّ طيران الدول يُعتبر من الهيئات التي تنتمي إلى البلد كأنَّها جزء منه، يطير حاملاً شخصيَّة البلد ومزاجه وثقافته وحتى اُسلوب ضيافته ومعاملته للضيف، يحملها ثم يعود بها. وعادة إذا ما اختار مسافر طيراناً من بلد معيَّن فإنَّه يتوقَّع بشكل تلقائي أن يجد على متن الطائرة ما يعكس هويَّة البلد. فإذا اختار شركة «الاليطاليا» مثلاً يتوقع ترحيباً إيطالياً وألواناً إيطاليَّة وقائمة طعام إيطاليَّة. وكذلك «اللوفتهانزا» الألمانيَّة و«الإرفرانس» الفرنسيَّة.. إلخ، وسوف يخيِّب ظنَّ المسافر نوعاً ما ويشعر بأنَّه تعرَّض لغشٍّ إذا لم يجد هذه الضيافة ذات الهويَّة التي اختارها ويتوقَّعها. وكأنَّ الطائرة قطعة من بلدها تسبح في الفضاء، كما السفارات، وأظنُّها قانونياً كذلك.
لنقل إنَّ ما يجعل الهويَّة الوطنيَّة حاضرة هو طاقم المضيفين والمضيفات، بلباسهم وكلامهم وتحرُّكهم وكأنَّهم فريق فلكلوري أو منتخب كرة قدم، لا بد أن تظهر عليهم سمات هذا الانتماء. وهذا بلا شكٍّ هو أيضاً من خصائص العمل السياحي، التي للطيران الوطني حصة فيه. فأنت كسائح في مقهى أو مطعم فرنسي أو إسباني أو ياباني تتوقَّع ضيافة من أبناء البلد.
من الطيّار إلى المضيف وبالعكس.
وأنا أقول الكلام ليكون عوداً على بدء، إذ إنَّي بعدما استقر الانطباع الإيجابي لدي، حول حضور الطيَّار السعودي ومساعده بطبيعة الحال، طالعتني ظاهرة جديدة لافتة: فأفضل ضيافة واهتمام يقظ بالمسافر على متن الطائرة أجده من المضيفين السعوديين الشباب، من دون التقليل من دور المضيفات من الجنسيات المختلفة. إِلَّا أنَّه بحسب تجربتي وجدت أنَّ الفرق واضح وبيِّن. وقد وجدت عشرات من هؤلاء المضيفين الشباب يتمتَّعون بحميَّة ونشاط وتواضع واستعداد لا يكل عن التلبية الفعَّالة والمساعدة ما يفوق أي مضيفة. وكم كان هذا يعطيني شعوراً بالراحة والرضا. هؤلاء المضيفون، بعد الطيَّار طبعاً، بدأوا يجعلون الطائرة السعوديَّة طيراناً سعوديّاً. وبطبيعة الحال فالسؤال البديهي ما الذي يمنع أن نكمل النصف الآخر، خاصة مع هذا التوسُّع الكبير بتوظيف المرأة وحيث أصبحت هناك بائعات في السوق الحرَّة في المطار، ومستقبلة كفوءة عند مدخل قاعة الفرسان، وقبل ذلك هناك ممرضة وطبيبة وصحفيَّة ومذيعة. الحقيقة البلد يمرُّ بمرحلة متعطِّشة لكل ما يعزِّز ويغني ويبلور الحضور الوطني والشخصيَّة الوطنيَّة الجديدة. ووجود مضيفة سعوديَّة على متن الطائرة تشارك المضيف الاعتناء بالمسافرين وبراحتهم ومأكلهم، سوف يكون له أثر إيجابي كبير. تماماً كما أنَّ قصة مثل قصة نهار النصَّار وأمثاله، سواء في مجال الطيران أو في مجالات أخرى، هي من النوع الذي يمدُّ الروح الوطنيَّة بالمحتوى الذي تبحث عنه. آن الأوان.
* كاتب لبناني
بدءاً باسمه الفريد، ثمَّ مهنته، وهو أوَّل طيَّار سعودي، وكان قد بدأ تدريبه في مصر على يد مدرَّبة طيران مصريَّة، مرورا بكونه أوَّل من عبر المحيط الأطلسي بطائرة نفّاثة. هذه الأخبار كلها كانت تزيدني شغفاً وولعاً بقصته، إلى أن ذُكر لنا ما مثّل بنظري تتويجاً لسيرة تستحق بلا شكٍّ أن تتحوَّل فيلماً وثائقيَّاً مشوِّقاً، وهو أنَّ نهار كان الطيَّار الخاص لأربعة ملوك.
يا للأبُّهة
ومما أثار إعجابي أيضا بسيرة هذا الطيَّار السعودي أنَّ ملوك المملكة، بدءاً بالملك سعود ـ يرحمهم الله ـ اختاروا أن يضعوا الطائرات التي تقلّهم - وبالتالي حياتهم - بين يدي هذا الطيَّار السعودي الشاب في زمن كان الطيران فيه جديد عهد.
في ما مضى بينما كنت أسافر بين مدن المملكة، على متن إحدى طائرات الشركة السعوديَّة، كنت أتساءل: هل سيقود هذه الطائرة يوماً قبطان سعودي؟. ورويداً رحت ألاحظ أنَّ هذا يحدث بالفعل، وبعكس ما قد يتوقَّع بعضنا منحني هذا شعوراً بالارتياح. فقد شعرت أنَّ طياراً سعوديَّاً يقود طائرة تحمل علم بلاده، إضافة الى التحدِّي المبدئي له كملتحق جديد بهذه المهنة المعاصرة، سوف يجعله أشدَّ حرصاً وعناية ويقظة من غيره. وهكذا كان، فخلال الرحلات المتتابعة أخذت ألاحظ أنَّ الرحلة التي تتميَّز بتحكُّمٍ أفضل بخاصة في مرحلة الهبوط، وبالتالي بدرجة أقل من الشدِّ والجذب، يقودها سعودي. وفِي إحدى المرَّات كان الهبوط على درجة مذهلة من حسن التحكُّم وكأنَّ الطائرة لم تلمس الأرض، فوجدت نفسي أمدُّ يدي بشكل تلقائي لأصافح قائد الطائرة مهنِّئاً.
كان هذا قبل أن أعرف قصة نهار النصَّار. وحين كنت أفكِّر في الأمر كنت أَجِد أسباباً إضافيَّة لتفوُّق الطيَّار السعودي، أظنُّها حقيقيَّة ومنطقيَّة، وهي أنَّه من بلد له تراث في الفروسيَّة وعبور الصحارى. وقد يصل بِنَا التحليل حتى إلى أنَّ الفروسيَّة تمنحه ذاك التكوين النفسي الأكثر ملاءمة لقيادة الطائرة، كما لو أنَّه فارس طائرته.
الطائرة سفيرة من نوع آخر
أتتني كل هذه الأفكار بينما كنت مسافراً من الدمَّام إلى جدَّة. وقرأت خلال الرحلة في الجريدة نبأ احتلال الطيران الحربي السعودي، ولا غرابة، مكانة مرموقة بين أقرانه. لكن مقالي هنا يبقى في إطار الطيران المدني، ولو أنَّ الشيء بالشيء يذكر. وليس الطيران المدني بحدِّ ذاته بقدر طاقم الطائرة بالتحديد. أعتقد أنَّ طيران الدول يُعتبر من الهيئات التي تنتمي إلى البلد كأنَّها جزء منه، يطير حاملاً شخصيَّة البلد ومزاجه وثقافته وحتى اُسلوب ضيافته ومعاملته للضيف، يحملها ثم يعود بها. وعادة إذا ما اختار مسافر طيراناً من بلد معيَّن فإنَّه يتوقَّع بشكل تلقائي أن يجد على متن الطائرة ما يعكس هويَّة البلد. فإذا اختار شركة «الاليطاليا» مثلاً يتوقع ترحيباً إيطالياً وألواناً إيطاليَّة وقائمة طعام إيطاليَّة. وكذلك «اللوفتهانزا» الألمانيَّة و«الإرفرانس» الفرنسيَّة.. إلخ، وسوف يخيِّب ظنَّ المسافر نوعاً ما ويشعر بأنَّه تعرَّض لغشٍّ إذا لم يجد هذه الضيافة ذات الهويَّة التي اختارها ويتوقَّعها. وكأنَّ الطائرة قطعة من بلدها تسبح في الفضاء، كما السفارات، وأظنُّها قانونياً كذلك.
لنقل إنَّ ما يجعل الهويَّة الوطنيَّة حاضرة هو طاقم المضيفين والمضيفات، بلباسهم وكلامهم وتحرُّكهم وكأنَّهم فريق فلكلوري أو منتخب كرة قدم، لا بد أن تظهر عليهم سمات هذا الانتماء. وهذا بلا شكٍّ هو أيضاً من خصائص العمل السياحي، التي للطيران الوطني حصة فيه. فأنت كسائح في مقهى أو مطعم فرنسي أو إسباني أو ياباني تتوقَّع ضيافة من أبناء البلد.
من الطيّار إلى المضيف وبالعكس.
وأنا أقول الكلام ليكون عوداً على بدء، إذ إنَّي بعدما استقر الانطباع الإيجابي لدي، حول حضور الطيَّار السعودي ومساعده بطبيعة الحال، طالعتني ظاهرة جديدة لافتة: فأفضل ضيافة واهتمام يقظ بالمسافر على متن الطائرة أجده من المضيفين السعوديين الشباب، من دون التقليل من دور المضيفات من الجنسيات المختلفة. إِلَّا أنَّه بحسب تجربتي وجدت أنَّ الفرق واضح وبيِّن. وقد وجدت عشرات من هؤلاء المضيفين الشباب يتمتَّعون بحميَّة ونشاط وتواضع واستعداد لا يكل عن التلبية الفعَّالة والمساعدة ما يفوق أي مضيفة. وكم كان هذا يعطيني شعوراً بالراحة والرضا. هؤلاء المضيفون، بعد الطيَّار طبعاً، بدأوا يجعلون الطائرة السعوديَّة طيراناً سعوديّاً. وبطبيعة الحال فالسؤال البديهي ما الذي يمنع أن نكمل النصف الآخر، خاصة مع هذا التوسُّع الكبير بتوظيف المرأة وحيث أصبحت هناك بائعات في السوق الحرَّة في المطار، ومستقبلة كفوءة عند مدخل قاعة الفرسان، وقبل ذلك هناك ممرضة وطبيبة وصحفيَّة ومذيعة. الحقيقة البلد يمرُّ بمرحلة متعطِّشة لكل ما يعزِّز ويغني ويبلور الحضور الوطني والشخصيَّة الوطنيَّة الجديدة. ووجود مضيفة سعوديَّة على متن الطائرة تشارك المضيف الاعتناء بالمسافرين وبراحتهم ومأكلهم، سوف يكون له أثر إيجابي كبير. تماماً كما أنَّ قصة مثل قصة نهار النصَّار وأمثاله، سواء في مجال الطيران أو في مجالات أخرى، هي من النوع الذي يمدُّ الروح الوطنيَّة بالمحتوى الذي تبحث عنه. آن الأوان.
* كاتب لبناني