ثقافة وفن

تجلّى المبدعون.. فاشتعل الشغف في جنبات بهو «عكاظ»

في ليلة تمازج الكلمة والشعر والرسم والموسيقى

وزعت «عكاظ» أكثر من 800 كتاب على أكثر من 120 مثقفا في احتفائها بيوم الكتاب العالمي أخيراً. (تصوير: مديني عسيري)

حسام الشيخ (جدة)

hussamalshikh@

في مساء مختلف، اختلطت فيه نسمات الليل بمشاعر وأحاسيس الإبداع، أضاءت جنبات بهو «عكاظ»، وتحلقت المقاعد حول الموائد، وانتشرت الأنوار في كل جانب، بانتظار اللحظة، التي ستضفي على البهاء بهاء. وبدت «نافورة البهو» على غير عادتها. ازداد تواتر مائها، كحال فريق الاستقبال من أسرة «عكاظ»، ليحول المكان بنشاطه ودأبه إلى خلية نحل لا تهدأ، خلال احتفاء «عكاظ» السبت الماضي باليوم العالمي للكتاب، في منتدى «كيف صنعني الكتاب؟».

ولأن للمثقفين والمبدعين صفات وعادات لا تتغير، مهما كانت المناسبة، ففي الوقت الذي حدد فيه برنامج «عكاظ» السابعة، ساعة للحضور والاستقبال، ظل البهو فارغاً، إلا من حركة دؤوبة لبعض المدعوين والمكلفين بمتابعة وتصوير وتنسيق الحدث. ولأنه ليس جديدا على «عكاظ» أن تحتفي بأصحاب الإنجازات.. كان احتفاؤها هذه المرة مختلفا. فالاحتفاء بكوكبة من مداعبي الحواس كتابا ومثقفين وشعراء وفنانين، أمر لا يشبه سواه، إذ إن جمعتهم لم تكن يسيرة، فالحضور الذي شهدته المناسبة لم يكن عاديا، ناهيك عما نجحت فيه «عكاظ» من عمل «كوكتيل» مميز لم يكن ليتحقق لولا الجهود الحثيثة للقائمين على المناسبة.

ويبقى بهو «عكاظ» على موعد مع منتديات واحتفاءات أخرى، انتهجتها إدارة الصحيفة الأكثر مبيعا وتميزاً في المملكة، لتحقق بذلك صدارة من نوع مختلف، لتخرج عن «تابوه» الصحافة المعتاد، منتهجة نهجا جديدا سينقل الصحافة السعودية إلى خارج الصندوق، تتحسس فيه مستقبلا أكثر رحابة، وتواصلا مع المواطن صانع المنجزات بلا حدود.

الرائع في الأمسية، أنها خرجت عن المألوف، رغم تخصيصها للاحتفاء بالكتاب، إلا أن مثقفيها لم يتوانوا في هجائه، إذ أرجع سعيد السريحي، ضعف نظره، لكثرة القراءة، وملاصقته للكتاب ليل نهار، لدرجة أصبح هو نفسه محل تندر صديقه جمعة ساعد زميل صفه السادس الابتدائي، حين قال: تبغوني أصير أعمى مثله؟ ترى القراية الزايدة خلته خلاص ما عاد يشوف دربه، متذكرا كيف أنقذه من السقوط في حفرة كانت على الطريق. فيما أقر السريحي أن العمى بالمفهوم الرمزي يجعلنا ننظر إلى القراءة باعتبارها فعلا يفضي إلى حجبنا عن رؤية الواقع الذي نحياه، بينما هو يسلبنا براءة التعايش ودهشة تجربة من لا يقرأون. غير أن القارئ يملك السعادة التي لا يملكها غيره، متسائلا: إن لم يكن هناك ثأر بين من وقعوا في براثن القراءة، وبين الكتاب، فكيف أن نفهم قول العقاد حين رفع يديه ذات قهر يدعو: لا رحم الرحمن فيمن مضى.. من علم العالم أن يكتبوا.

ولم ينس الأديب والشاعر والصحفي اللبناني محمد علي فرحات الإشارة إلى أهمية قراءة الكتب، مصحوبة بمشاهدة المسرح ذي الأصل الأدبي، ومتابعة الفن التشكيلي الذي يعبر بالخط واللون وتطويع الكتلة الصماء، والموسيقى بمستوييها الكلاسيكي والفولكلوري مع ما يمكن أن يصحبها من غناء، علاوة على ما تجمعه السينما على شاشاتها من فنون متنوعة.

ورغم تلعثم كلماته، إثر تعرضه لأكثر من وعكة صحية، تظل كتابات صاحب النتاج الغزير الروائي السعودي عبده خال، ذات قيمة، بقدر ما تحدثه من جدل. فيما اعتبر «أبو وشل» أن الجحيم يختبئ بين دفتي الكتاب، بعدما اكتشف أن صحبته ليست آمنة، ما لم يكن قارئه جلدا ليعبر مفازة الأفكار وصولا إلى قناعته الخاصة، ويبدو أن انفتاحه على أفكار تصطدم بثقافته السائدة، أدت إلى فشل محاولاته نزع نفسه من ذلك الجحيم المستعر؛ مستشهدا بكلمات رواية البوكر «ترمي بشرر»: (كل فِكر هو فخ لمن ضل عن إيمانه الخاص).

وأنشد الشاعر مسفر الغامدي قصيدة «قبلة» التي شعر فيها أنه عاجز إلى درجة أنني لم أعرف كيف أقطف القبلة من فمها.. ذات يوم شاهدت فيلما.. أرادت أن تهديه فمها.. مالت علي قليلا.. ولأنني قروي ولم أشاهد فيلما أو حتى قبلة في حياتي.. ارتبكت.. فسقطت القبلة قبل أن ألتهمها بقليل.. لذلك ظل فمي جائعا طيلة هذه السنين. كما قال في نصه العصا: سألت أبي.. كيف تريني ما لا يرى.. قال لي: ليست عصا.. حين قرر الله أن يخلقه أعمى قطف له غصنا من أغصان الجنة وضعه في يده.لكن الشاعر عبدالرحمن الشهري انحاز إلى عمال النظافة قائلاً: أتخيلهم ساعة القيل.. يمدون أرجلهم.. ويؤمنون للعابرين الطريق.. وقد كوموا ما تناثر من ورق.. وما خلف السيل من أتربة.. لا أكاد أراهم بلا تعب عندما يحملون مكانسهم صوب أحلامهم ويغوصون في عرق لا يجف.. ونحن الذين نشاهدهم يصعدون إلى الباص عند الغروب.. سوف نكنسهم بمصابيحنا ونكومهم خارج الذاكرة. فيما تألق الشاعر والزميل عبدالله عبيان في أمسيته التي قال فيها: تعالي بحر جـده كسـر خاطـر الـزوار.. ولافيـه غيـرك لا لفـى يجبـر احزانـه.. عطيني يمينك والشـوارع زهـر وامطـار.. نطـوف السحـاب ويفتـح الفجـر بيبانـه.. مثل معطفك لا فـل ريشـه وشـب النـار.. وجمّـع يدينـا البـارده تحـت جنحـانـه.. نطير وسمانا حلم غيمـه وطيـش صغـار.. جمعهم مصير(ن) تجهل الشمـس عنوانـه. وفي قصيدته لصديقه عبدالحكيم السوداني بعد ادعاء الأخير بأن أوباما من أصل سوداني: واليا دخلت البيت الابيض غيّر السـور القديـم.. وارسم على جداره غصن زيتون وانهار وحمام.. وسولف لباحاته عن الضيقات في صدر الحليـم.. وقصة عجوز القاع والشيب الرمـادي واللثـام. وبلا غرو، خلق الفنان فيصل العمري تماهيا من نوع مختلف، حين واءم بين الكلمة واللحن، في ليلة لم تخلُ من عبق الإبداع، ومفردات أضافت بهاء غير مسبوق؛ فخطف قلوب الحضور، متجليا شعراً ولحناً وموسيقى، فيما أهدى الفنان التشكيلي صالح سالم، لوحتين لـ«عكاظ» رسم إحداهما أثناء المناسبة. وعن المناسبة أكد الملحق الثقافي السعودي في فرنسا سابقا الناقد الدكتور عبدالله الخطيب، أن الاحتفاء كان رائعا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. قائلا: أحدث نفسي في صباحه التالي عن أثره الصادق في نفوس الآخرين، رغم أنها أول مرة أزور فيها هذا الصرح الإعلامي الوزان، إلا أن ألق وأريحية «الذيابي» و«الخشرمي» وكل من ساهم في إنجاح الاحتفاء، صعد بنا فوق السائد، وفي كل مرة تؤكد التجربة أن إنسانيّة المسؤول هي السبيل الوحيد نحو صناعة الفرق على المستويين الأخلاقي والعملي.