ثقافة وفن

بحثاً عن البراءة: عجلة القدر تدهسنا جميعا

عبده خال

درويش..

العجوز نوار..

عبدالله أبو حية...

يحيي شخابيط..

حسين مشرف

جليلة...

شفيق...

فتون...

مبخوت...

قطوف..

فائز...

وفاء...

طارق فاضل...

هؤلاء قلة ممن يطاردونني صباح مساء، يقفون بين العصب والعصب.. بين المتخيل وبين الواقع.. بين الظلم وبين العدل

يبحثون عن الإنصاف... ويصحون مجتمعين:

- أيها المجرم!

أفزع وأخشى أن أجد الدرك يطوقون علي المكان، فانسحب مسرعا علني أنجو ممن يطاردونني، وكلما أسرعت وجدتهم في خيالي يفتشون عن قطعة ضمير تبقىت لدي.... وفي ركضي تبرع درويش لإعلان عما كانوا يبحثون عنه:

- يا أصحاب ليس لديه رأفة مطلقا فدعوه لمصيره!

تكالبت أجساد ورقية حولي وكل منها يهم بشطبي من الوجود وهم يستظلون بمقولة مبخوت الذي أظهر حكمة على فراش الموت:

- أول ما تأخذه من الدنيا شهقة هواء وآخر ما تتركه من الدنيا زفير هواء! هذا هو العدل: إنك تعيد ما أخذت.

** **

يجتاحني -بعض الأوقات- لوم ناقم، تصل درجة غليانه أن يطفق الدم من قحف الجمجمة ويسد جريانه الرؤيا يتبعه ارتداد عكسي يُذهب الإدراك.. يمحو الزمن.. يرسخك لاستعادة اللحظة الكتابية مع نعوت تفقدك الاعتداد بإنسانيتك.. ويجتث صبرك فلا تقوى على الحوار وعندما أتمالك نفسي واستوطن الهدوء أهجس بثقة:

- ما بالك هؤلاء لا يعدون كونهم شخصيات من ورق.

** **

على شاطئ جدة حيث كان الجو رطبا وأزيز السيارات ينفث ضيق الركاب ويوزعها في مقصورة القيادة وعلى الأرصفة المستلقية المتخمة ببقايا فضلات المتنزهين، كنت نائيا أتظلل بمظلة قماشية أنفث كربا طارئا في جوف البحر شاعرا بالخلاص مما ران على القلب من صدأ.

ربت على كتفي:

- أتشعر بالارتياح؟

استدرت، إذ بقامة مديدة بملامح غائمة تنتظر إجابتي:

- من أنت؟

أطلق قهقهة عالية:

- إذا كنت تؤمن بالأسماء لماذا لم تمنحني اسما؟

قابلت قهقهته وسؤاله بتهكم مقابل:

- وهل تظنني مكتبا لتسجيل المواليد؟

تثنى بقامته مفتعلا الرقص:

- هذه الرقصة ألا تذكرك بشيء؟ ألا تذكرك بمأساة كنت أنت خلف افتعالها؟... انظر لظلي!

تذكرت هذه الشخصية التي تركتها في رواية الطين معلقة بلا اسم.

كان محدثي ناقما وعلى مسافة منه بزغت تلك الشخصيات الورقية من خلف الأمواج المتكاسلة، بزغت مجففة ملابسها ومحرضة:

- امسك به... فهو المجرم

وجدت نفسي وحيدا أمام أبخرة البحر ونوارسه وأرصفة ليس بها أحد وشخصيات ورقية تتعرج خطواتها للوصول إلى رقبتي:

- أنت الظالم!

** **

كل يوم أخب في منحنيات الحياة وسؤال عالق في الذاكرة:

- هل أقدار الشخصيات الروائية هي القدر الذي يكتبه الكاتب أم أنها قدرية القدر ذاته في تثبت تلك المصائر؟

** **

كنت أقول أن أقدار الشخصيات الروائية يكتبها الرواة لتظل الأقدار خالدة بمشيئة الراوي، وإذا ما خضعت للقراءة تتجدد في زمنية القارئ حتى إذا انتهى من القراءة عادت الشخصيات إلى قدرها الخالد، وهذا عكس الشخصية الواقعية فقدرها غير ثابت إذ يظل متغيرا إلى لحظة القبر.

فهل هذا القدر الروائي المكتوب هو نفسه القدر في دائرته الشمولية أم أن الكاتب استطاع الخروج عن النظام الشمولي ليمثل ثورة صغيرة على مركزية القدر العام؟

ليس من السهولة القفز على هذا السؤال قفزة اعتباطية أو مستعجلة..

غالبا من يكتب رواية تكون الشخصية الروائية لديه خاضعة لقدرية معروفة مسبقا، قدرية مختارة في تجاويف مخيلة الكاتب، وأثناء الكتابة تتحور الشخصية وتذهب إلى قدر لم يفكر فيه الكاتب أصلا.. فأين قدرية الكاتب؟ وأين دائرية القدرية فيما آلت إليه الشخصية الروائية؟

أثناء الكتابة يمكن لكلمة واحدة أن تغير من مسار الشخصية، فهل تغير تلك المفردة هو قدر الكاتب أم قدر الشخصية المكتوبة؟

وهذا ما يدخلنا إلى مصنع (عجين الكلمات).. فالكلمات جاءتك عبر تجارب لغوية أحدثت دلالاتها في وجدانك فلا تستكين في التعبير عن حالة ما إلا بمفردة بعينها لها حمولات ما تشعر به من أثر أو ردة فعل، فكل لسان يتشكل وفق جغرافية مكانية وتضاريس نفسية ومناخ يسم المكان بالرطوبة أو الجفاف، ولهذا اللسان أصوات وكلمات يصنع بها قدره، ونحن ننسى دائما أن الكون جاء من كلمة.. فالكلمة تحدث أفعالا وتكون الأفعال قدرا، فالقدر كلمة نلقيها قصدا أو سهوا فتتحول إلى مصائر وأحلام وأمانٍ.

وأثناء الكتابة يحدث الفصل بين القدر في دائرته العليا وبين دائرة مشيئة الكاتب صوريا بينما جوهر الكتابة ثمة تفاعلات قسرية تحدث في (مصنع عجين الكلمات) لا تظهر على السطح، يحدث تفاعلات أشبه بتفاعلات العناصر في الكون إذ أن كل عنصر يؤثر على بقية العناصر كما يحدث في التوازن البيئي وإدخال أي فعل (صادر من كلمة) على ذلك التوازن تختل المعادلة وتؤدي إلى نتيجة مختلفة تماما.

ودخول أي كلمة في النص الروائي تحدث عاصفة في بنية النص وتغير وتشكل العمل الروائي بما تحملها من دلالات ومعانٍ يكون لها الأثر في الشخصية الروائية إذ أن الكلمة تشق دروبا جديدة لم تخطر على بال الروائي أن يحدثها في عمله.

فمجيء الكلمة هو الشرارة التي تطلق عنان الأحداث باتجاهات مختلفة، فكلما حضرت كلمة بدلا عن أخرى تغيرت قدرية الشخصية الروائية..

ولو طبقت هذا على بداية رواية فسوق، وكتبت هذا السطر:

- هربت من مصيرها المشؤوم.

وقبل المواصلة في الكتابة طرأ للكاتب تغيير (مصيرها المشؤوم) وكتب:

- هربت من قبرها..

سنجد أن مفردة (القبر) انحرفت بقدرية البطلة الروائية منذ البدء وصنعت قدرا مختلفا عما فكر به الروائي نفسه، فالكلمة هنا غيرت قدرية الشخيصة وفرضت أحداثا جديدة، فهل تغير كلمة (قبرها) حدث بإرادة الكاتب للشخصية أم حدث التغير على قدرية الكاتب نفسه لأن يكتب عملا بهذه الصورة لا كما كان يتصور هو؟

وفي الجملة الأولى يمكن اختيار المصير (المقدر) المشؤوم بشكل مطلق إذ يكون الهروب من زواج أو مصيدة ديون أو التورط في جريمة إنما هربت من قبرها تكون المفردة (القبر) قد ختمت على الشخصية بأقدار أخرى (غير المصير المشؤوم) وشكلت فضاء الرواية الذي يبدأ من المقبرة.

وصيغة الجملة الروائية تتحرك بين ذاتية الكاتب وذاتية الشخصية الروائية ولكل منهما ذات مفكرة وذات أيدولوجية وذات لها فلسفة ورغبات وأحلام وانكسارات، وبهذه الكيفية تكون الرواية مشطورة بين الذاتين لكل منهما مقدرة استيعابية، وكلما اتسعت هذه المقدرة تصارعت وكل منها يريد فرض الأحداث والنتائج وثمة خيط رفيع جدا تنسج منه أقدار الشخصية الروائية ومن لا تنبه لذلك الفاصل يفوت على نفسه فرصة الحكم أن كلتا المقدرتين خاضعة لحركية عجلة ضخمة اسمها القدر.

وعندما يقود الحالة الروائية الروائي العليم فهذا لا يعني مقدرته على تسيير الشخصيات بعلمه، فالشخصية الروائية تكون أعلم بالأحداث التي تسلم لها نفسها وتقبل أن تكتب وفق مزاجها الشخصي، وليس وفق مزاج الراوي بأي ضمير كتب الرواية..

كما أن استيعاب الروائي للمكان والزمان والأحداث (مهما ادعى ذلك) ليس دقيقا أثناء الكتابة لأن الشخصية الروائية عندما تضعها في مكانها وزمنها تتحرك بانسيابية أكثر مما يفرضه الروائي عليها... ويجب الإشارة إلى أن الشخصية الروائية لها استقلالية تسعى دائما لإثباتها أمام الروائي فتنفر وتنجذب وفق ميول مزاجها، فإذا أراد الروائي إجبارها على فعل حدث بعينه -وهي غير ميالة- تستعصي على الانقياد وهي في هذا تكون خاضعة للقدر الشمولي.

والشخصية الروائية تجنح إلى طرق الأحداث المألوفة والانسياق إلى الأساليب المعهودة، وكلما ركنت لهذه العادة يكون الكاتب في حالة بحث عن أحداث جديدة لم تكتب فيدفع شخصياته إلى الإتيان بأحداث غريبة ينتج عنها قدر مغاير تسير إليه الشخصية الروائية، وفي هذه الحالة يكون الكاتب مجذوبا لقدره، فنتجذب الشخصية لهذا القدر الشمولي.

عند هذا الحد يكون (عجين الكتابة) مهيأ لأن يوضع في القالب المعد له من قبل الكاتب حتى إذا صب الكلمات راغبا في إخراج ما كان يتصوره -كحتمية لشخوص رواياته- تداخلت الكلمات وامتزجت مكتسبة ليونة أو قسوة فيكون مزيج الكلمات غير متطابق مع القالب المعد، وإنما متخذة قالبا خاصا بها، فيثبت القدر الشمولي تلك الشخصية فتبقى سجينة قدرها طوال الزمن كالإنسان تماما بعد الموت.

* روائي وكاتب سعودي

الورقة التي كان من المفترض إلقاؤها في معرض الرياض للكتاب الدولي