أخبار

الدرويش.. إمبراطورية مالية ارتبطت بنفط قطر

استطاع اقتناص الفرص.. مناهضاً لـ«التردد»: يضيع الوقت

الملك سعود يتوسط عبدالله الدرويش وحاكم قطر الشيخ علي آل ثاني

قراءة د. عبدالله المدني*

تستخدم عائلة الدرويش القطرية اسم جدها «درويش» كلقب لها فيما لقبها الأصلي هو فخرو. وفخرو كما هو معروف عائلة ينتشر أفرادها في قطر والبحرين، إذ يحظون بمكانة اجتماعية كبيرة واحترام وتقدير من لدن الأسر الحاكمة وسائر العائلات والقبائل.

وفي البحرين برزت منهم شخصيات صاحبة تخصصات عالية أو مناصب رسمية مهمة أو صاحبة نفوذ في القطاع الخاص، فتركت بصماتها على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بل برز منهم أيضا من يعمل في جمعيات المعارضة البائسة أو من يحمل العصا من الوسط بين الحكومة والمعارضة.

يفرد البريطاني مايكل فيلد الصفحة 248 من كتابه الموسوم «التجار: العائلات التجارية الكبيرة في السعودية ودول الخليجThe Merchants: The Big Budiness Families of Saudi Arabia and the Gulf States» لشجرة عائلة آل درويش فخرو، فيتضح منها أن تسلسل العائلة بدأ من فخرو فقاسم فدرويش الذي أنجب أربعة أبناء ما بين عامي 1905 و1920 وهم: «جاسم والد أحمد ويوسف ومحمد»، و«محمد والد درويش»، و«عبدالله والد درويش وعلي وبدر»، و«عبدالرحمن والد عبدالعزيز ومحمد وناصر»

وعلى الرغم من أن الأولاد الأربعة امتلكوا طموحات تفوق طموحات أبيهم، تاجر المواد الغذائية الصغير، الذي لقي حتفه في حادثة حريق وهم صغار، وعلى الرغم من أنهم تلقوا تعليمهم معا في المدرسية الأثرية التي افتتحها الشيخ عبدالله بن جاسم آل ثاني في عام 1917 لتدريس أبناء الأسرة الحاكمة، فإن أولاد درويش قاسم فخرو البارزين ثلاثة وهم جاسم وعبدالله وعبدالرحمن الذين أسسوا منذ عام 1920 مجموعة شركات الدرويش التي وصلت قيمتها يوما ما إلى أكثر من ملياري دولار وكانت تحظى بحضور قوي في سائر الأقطار الخليجية وبعض الدول العربية والأوروبية.

فالأول، المولود في أواخر القرن 19، برز وأثرى من خلال الاشتغال بالطواشة وتصنيف اللؤلؤ والعمل كوكيل لاختيار أفضل أنواع اللؤلؤ الطبيعي لصالح الحاكم الشيخ عبدالله بن جاسم قبل أن ينصرف إلى التجارة مع إخوانه بعد كساد سوق اللؤلؤ، كما أنه بسبب دراسته للفقه وإتقانه للثقافة العربية ترأس لجنة المعارف القطرية (وزارة التربية والتعليم لاحقا) ما بين 1951 ــ 1956. والثاني برز من خلال الدخول في صفقة مع شركة النفط الآنغلوإيرانية لبيع الكيروسين في قطر نيابة عنها. أما الثالث فقد عمل، إلى جانب التجارة، مستشارا خاصا لحاكمين من حكام قطر وهما الشيخ علي آل ثاني وخليفته الشيخ أحمد بن علي آل ثاني.

المنعطف الأولي المهم في تاريخ الأعمال التجارية لآل درويش فخرو كان مع بدايات التنقيب عن النفط في قطر في عام 1939، إذ حصلت العائلة من شركة النفط على عقد لبناء عدة أبنية صغيرة داخل مجمع الشركة في منطقة جبل دخان. لكن لسوء الحظ اضطرت شركة النفط لإيقاف أعمالها وإعادة عمالها إلى إيران في عام 1940 بسبب الحرب العالمية الثانية. هنا فضـّل عبدالله الدرويش العودة لممارسة التجارة عبر الدخول في شراكة مع الابن الثاني للحاكم وولي عهده حمد بن عبدالله آل ثاني، خصوصا أن الرجلين كانا ذا طبيعة واحدة لجهة الصرامة والمهابة واقتناص الفرص وحسم الأمور دون تردد. هذه الشراكة بين عبدالله الدرويش والشيخ حمد منحت الأول نفوذا راح يتزايد ويتوطد مع الأيام حتى تجاوز نفوذ مقربين آخرين من العائلة الحاكمة مثل آل مانع، بل أمـّنت للدرويش موقع الساعد الأيمن للشيخ حمد.

أما الشيخ حمد فقد استفاد ماديا من علاقته بالدرويش الذي كان يعمل في استيراد المواد الغذائية ويعرف أسرار ومواقيت صعود أسعارها أو انخفاضها والكميات المتاحة منها في البحرين وجنوب ايران والسعودية.

وقد استطاع عبدالله الدرويش بذكائه وفطنته أن يحتوي سريعا بعض الإشكالات التي حدثت في تلك السنوات بينه وبين شريكه حمد آل ثاني من جهة والمقيم السياسي البريطاني في بوشهر وحكومة الهند البريطانية من جهة أخرى.

وهكذا ظل آل درويش فخرو في السنوات التالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية لاعبين أساسيين في تجارة قطر مع الجوار والعالم الخارجي، ونجحوا في أعمالهم دون أي مشاكل مع الإنجليز.

وتوفي الشيخ حمد قبل أبيه في مايو 1949، وتم تنصيب أخيه علي وليا للعهد بدلا من ابن الشيخ حمد الصغير (الشيخ خليفة)، وقيل إنه تم الاتفاق على أن يُعين خليفة وليا لعهد الشيخ علي حينما يستلم الأخير الحكم خلفا لوالده. وبعد عام واحد تقريبا تنازل الشيخ عبدالله عن الحكم لولده علي، لكن خليفة لم يـُسم وليا للعهد كما هو معروف.

قلنا إن عبدالله الدرويش تميز في حياته بحسمه السريع للأمور دون تردد، انطلاقا من مبدأ أن التردد مضيعة للفرص. لذا نراه بمجرد تولي الشيخ علي آل ثاني حكم قطر يتقرب منه، الأمر الذي جعله صاحب نفوذ واسع، خصوصا مع قيام الشيخ علي بتعيين عبدالرحمن الدرويش مستشارا خاصا له.

1948.. المنعطف الأهم في تاريخ الأسرة التجاري

المنعطف الأهم في تاريخ عائلة درويش فخرو كان في بدايات حكم الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني. ففي عامي 1948 و1949 كانت شركة نفط قطر بصدد تنفيذ مشروعات إنشائية كبيرة ذات صلة بعملها مثل: مد خطوط الأنابيب عبر شبه جزيرة قطر إلى أمسيعيد، بناء محطات حقن الغاز، إقامة خزانات ومحطات شحن بحرية، بناء مساكن لموظفيها الغربيين، مد الطرق المعبدة، إنشاء الورش الصناعية، وغيرها. كانت هذه الأعمال تتطلب انتقال الأيدي العاملة يوميا ما بين الدوحة وأماكن عملها، فمنحت شركة النفط عبدالله درويش عقدا لنقل العمال بواسطة ثلاث شاحنات ضخمة كان يملكها. غير أن العملية شابها الاضطراب بسبب تخلف بعض العمال عن اللحاق بالشاحنات في الوقت المناسب، وأحيانا غياب قادة الشاحنات عن العمل، الأمر الذي رأت معه الشركة النفطية أنه من الأفضل لها أن توكل للدرويش عمليتي توظيف العمالة ونقلها معا مقابل 11.5 روبية للرأس.

استطاع عبدالله الدرويش خلال عامين أن يوظف وينقل ويتكفل بإعاشة نحو 15000 عامل، محققا ربحا صافيا تجاوز المليون روبية. ويقال إن نجاح الرجل في هذه الصفقة فتح له باب صفقات أخرى مع شركة نفط قطر، بل وعزز أيضا علاقاته الشخصية مع مديريها وعلى رأسهم المسؤول الميداني عن الحقول النفطية الأمريكي «بوتس لانغهام» الذي كان يبحث عن رجل يحقق النتائج ولا يتحدث عن كيفية تحقيقها فوجد ضالته في عبدالله الدرويش الذي كان ــ كما سبق وأنْ ذكرنا ــ قادرا على قراءة أفكار وثقافة الآخرين.

من بين أوائل الصفقات الضخمة التي حصل عليها آل درويش فخرو من شركة نفط قطر صفقة لبناء مساكن ومكاتب وملحقاتها كالمطاعم والنوادي والملاعب ومراكز التسوق، وصفقة أخرى لتزويد مرافق شركة النفط بالمياه الصالحة للشرب والتي جلبها عبدالله الدرويش من عيون البحرين العذبة داخل خزانات تحملها مراكب مملوكة له.

على أن الصفقة الأضخم في حجمها ومردودها المالي كانت في عام 1953 حينما فرضت شركة النفط على عبدالله الدرويش الدخول في شراكة مع شركة «كات» اللبنانية وذلك بهدف الاستفادة من نفوذ الدرويش المحلي من جهة، والخبرات الفنية والإنشائية للشركة اللبنانية من جهة أخرى، علما بأن شركة «كات» كان يملكها المليونير والنائب اللبناني الراحل إميل بستاني، وكانت ذات سمعة محترمة في ميدان مد أنابيب النفط في سورية والعراق.

وهكذا احتكرت الشركة الجديدة (كات ـ الدرويش) سوق الأعمال الإنشائية في قطر على مدى الأعوام الخمسة عشرة التالية، وشملت أعمالها تنفيذ بناء أول مستشفى في البلاد ما بين عامي 1954 و1956، وإقامة أول محطة لتحلية المياه وأول محطة للطاقة الكهربائية، شق شبكات الطرق وتعبيدها، تنفيذ جزء من ميناء تحميل النفط في أمسيعيد، وبناء العديد من قصور الأسرة الحاكمة، إضافة إلى إنشاء «فندق الواحة» بهدف إسكان أطقم الرحلات الجوية لشركات الطيران التي كان آل درويش قد استحوذوا على وكالاتها الحصرية.

في الستينات.. لا صوت يعلو فوق الدرويش وشركائهم

حتى منتصف الستينات لم تكن هناك مؤسسة إنشائية أو هندسية كبرى في قطر تستطيع منافسة آل درويش وشركائهم أو تفكر في تحديهم، بما في ذلك شركة المقاولات التي أسسها التاجر علي بن علي في أواخر الخمسينات مع الشيخ ناصر بن خالد آل ثاني للدخول في المناقصات الإنشائية لشركة نفط قطر، والشركة الأخرى التي أسسها جاسم جيدة بعد تحويل تجارة والده من المواد الغذائية إلى بيع أدوات البناء وتنفيذ المقاولات الإنشائية.

في هذا المنعطف قويت شوكة ونفوذ آل درويش أكثر، وذلك بحصول عبدالله الدرويش على منصب ممثل الحاكم في شركة النفط، طبقا لمادة في عقد الامتياز لعام 1935 كانت تجيز للحاكم حق تعيين ممثل له في شركة نفط قطر براتب شهري ضخم.

وبسبب منصبه هذا قام عبدالله الدرويش بحفظ بنود عقد الامتياز عن ظهر قلب كي لا تفوته أدنى فرصة لطرح مبادرات أو مطالبات من أجل تحقيق مكاسب ومداخيل إضافية لبلده. لكن

هذا المنصب خلق له أعداء وحسادا كثرا ممن كانوا أقل ثراء وأقل نفوذا منه، فآثر حينذاك أن ينفي نفسه اختياريا إلى الدمام، إذ عاش بالدمام في حماية الأمير سعود بن جلوي أمير المنطقة الشرقية الذي كان الدرويش قد تعرف عليه زمن الملك عبدالعزيز آل سعود، وكان كثير التردد عليه في الخمسينات. وفي الدمام تملك عبدالله الدرويش العقارات وأسس مكاتب للسفر والسياحة، وأشرف منها على أملاكه في لبنان.

بعد عام ونصف العام من تولي الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني مقاليد الحكم في الدوحة انفرط عقد مجموعة شركات الدرويش وتقاسم الإخوة الأربعة أصولها المتجسدة في فندق الواحة، والدرويش للهندسة (تكونت بعد حل الشراكة مع «كات» اللبنانية في عام 1967)، والدرويش للسفر والسياحة، وكالة سيارات فيات الإيطالية، مخازن برادات قطر، ومتاجر البيت الحديث. وهكذا صار آل درويش مجرد جزء من كل وسط قطاع المال والأعمال في قطر بعدما كانوا يوما ما سادة القطاع ورواده والمتحكمين فيه بلا منازع.

* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين