كتاب ومقالات

طلائع الأمريكان إلى بلادنا

محمود صباغ

اتصلت أمريكا ببلادنا أولا عبر ميناءي جدة؛ ميناء إعادة التصدير الأول بالبحر الأحمر، وميناء سالم بولاية ماساتشوستس؛ ميناء تجّار نيو-إنغلاند الأول.

جاء الأمريكان إلى البحر الأحمر لاستيراد البن العربي الذي كان استهلاكه الأمريكي يشهد نمواً متزايداً.

ومع عام 1800 كان نحو 16 ألف شوال من البن يجري شحنها إلى أمريكا سنويا منطلقة من جدة.. عبر ميناء السويس الجاف حتى وجهتها الأخيرة بالشرق الأمريكي.

ومن طلائع الأمريكان في البحر الأحمر، فرانسس بارثو، الذي رصده الضابط الأمريكي ويليام إيتون في 1805 ناشطاً في مثلث تصدير القهوة: المخا-جدة-السويس.

ظلّت القهوة العربية هاجس السفن الأمريكية حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية، كما في وصف جوزف أوزقوود، الملاّح الأمريكي الأسود الذي زار البحر الأحمر في 1850.

ولما رفعت المضاربة أسعار البن إلى 50 دولاراً، كانت سفن اليانكي الصغيرة تصطف على مضيق البحر الأحمر تبحث عن نصيبها المباشر من القهوة العربية.

كان الأمريكان يستوردون من الجزيرة العربية القهوة، والجلود، واللبان، والسنا المكّي. ويبيعون عليها في المقابل مشروب الرَم، ولاحقاً الأقطان الأمريكية بهوامش ربحية ضئيلة.

في 1832 دخلت الجزيرة العربية كسوق للأقطان الأمريكية، بعد أن منع تكتل تجّار سورات دخول الأنواع الأمريكية إلى الهند حماية لسوقهم.

ومع خفوت تجارة القهوة كسلعة إستراتيجية بالبحر الأحمر.. عاد نشاط السفن الأمريكية إليها مع صعود تجارة تصدير البترول.

راوحت مبيعات نفط بنسلفانيا في ميناء جدة حدود 65 ألف جنيه إسترليني في الفترة من 1892 إلى 1897.

على إثره ضغط مجموعة تجار نيو-إنغلاند لإنشاء تمثيل قنصلي أمريكي بجدة منذ 1897 كما تشير وثائق الأرشيف الوطني لمراسلات البعثة الأمريكية بعدن، لكن ذلك لم يحدث حتى أربعة عقود لاحقة سيبقى البترول فيها محور العلاقة بين الطرفين.

لمّا استأنفت شحنات البترول الأمريكي إلى ميناء جدة بعد الحرب العامة، في مايو 1919، جرى استقبال حافل على رصيف ميناء جدة بحضور رئيس البلدية سليمان قابل، ورئيس الغرفة التجارية محمود مراد.

وفي يناير 1923 وصل الثري الأمريكي، المحب للعرب، شارلز كراين إلى ميناء جدة.. في ذات السفينة التي حملت السلطان محمد وحيد الدين، آخر سلاطين العثمانيين في طريقه إلى منفاه في مكة.

جاء كراين مدفوعاً برغبة الحصول على امتيازات للموارد الطبيعية، لكن ارتباك الأوضاع السياسية آنذاك أجّل مشروعاته.

وعاد كراين إلى جدة في يناير 1927 لكنه فوّت لقاء الملك عبدالعزيز الذي كان قد ذهب إلى المدينة ومنها إلى نجد.

في مارس 1929 اُعتدي على ركب كراين بين الزبير والكويت، وأدانت صحيفة أم القرى الاعتداء على صفحتها الأولى.

لمّا التقاه الملك في فبراير 1931 عبّر له عن استيائه من حادثة الاعتداء، وأقرّه على تمويله لدراسات مسح المياه والتنقيب على المعادن. كان كراين وصل جدة على الباخرة الطائف، وأقيمت له مأدبة ملوكية ببناية دار البلدية بجدة.

أرسل كراين خبيراً جيولوجياً أمريكياً كان مسؤول استصلاح طريق للسيارات بين الحديدة وصنعاء برعايته، هو كارل تويتشل الذي وصل إلى جدة مع زوجته في أبريل 1931.

وفي 25 مايو 1933 وقع وزير المالية عبدالله السليمان اتفاقية امتياز الزيت مع شركة زيت ستندرد كاليفورنيا، بعد مفاوضات بدأها تويتشل يرافقه المستر هاملتون. تلاها في 17 نوفمبر 1933 توقيع أول اتفاقية سعودية-أمريكية في لندن بين حافظ وهبة وروبرت ورث بنجهام.

وكانت التجارة الأمريكية تصعد باطراد.

منذ 1927 انفردت الشركة الشرقية أو بيت فلبي بجدة بوكالة سيارات فورد، فيما اقتصر استيراد بيت جيلاتلي هنكي على سيارات شيفروليه.

وفي 1927 جلبت الشركة المساهمة السعودية الوطنية للنقل العام، مقرها جدة.. كميات من سيارات دودج من أمريكا مباشرة وصلت خلال 45 يوما، وأخرى من طراز بويك.

وجاء في إحصاء السيارات في البلاد السعودية في ذلك العام، تسجيل 238 سيارة، أغلبها سيارات أمريكية.

وكانت طلائع البعثات السياحية إلى ميناء جدة أمريكية.

في شتاء 1923 وصلت جدة أول بعثة سواح أمريكان بلغ عددهم 17 شخصاً.

وفي يناير 1934 رسا اليخت الأمريكي (كمارقو) في مياه جدة قادما من بورسعيد، يقل صاحبه المليونير يوليوس فليشمن من كبار أثرياء سنسناتي- بقصد السياحة والنزهة.

وروى القنصل الإنجليزي إلى جدة بولارد في مذكراته.. قصة سائح أمريكي مكث عنده، أراد تصوير ضريح أمنا حواء. فجعل بولارد معه دليلا، ولكنه في الطريق صادف امرأة أفريقية فقيرة تتبع عشش حارة نكتو تتسول نصف عارية، كادت رغبته إلى تصويرها تتسبب في أزمة.

كانت طلائع الزيارات تحكمها نظرة الاستشراق، تقابلها محلياً نزعات من التوجس والريبة.

في ديسمبر 1927 اجتاز مبشران أمريكيان الحدود الشمالية، وتوغلا داخل البلاد إلى أكثر من مئة ميل دون رخصة الحكومة، وقد قبضت عليهما الحكومة وأرسلتهما مخفورين إلى جدة حيث جرى إبعادهما.

لكن ثمة اتصال ثقافي أكثر عمقاً وإنسانية سيُفسح له المجال بنعومة.

اتصلت مكة وحركتها الأدبية الحديثة في الثلاثينات بأدب المهجر في نيويورك، وتأثّر شبان البلاد بأساليب القصيدة الحرّة لدى أقرانهم في أمريكا.

وكان جميل داود المسلمي، من شبان مكة، أول خريج سعودي من جامعة أمريكية هي أمريكية القاهرة، وقد عيّن عند عودته معاونا أول لوزارة الخارجية.

حتى المهندس تويتشل، إلى جانب نشاطه التجاري الحافل، أثرى الحركة المعرفية بتوثيقه للنقوش المبكرة، والآثار القديمة في بلادنا أثناء جولاته بالتعاون مع جامعة برنستون.

وفي 1922 جاء الصحافي الأمريكي المسيحي أمين الريحاني من نيويورك. وصل ميناء جدة، على باخرة تدفعها رياح المونسون، ومنها قام بجولاته الشهيرة في بلاد ملوك العرب.

وفي أبريل 1926 خطب الريحاني على عتبة بيت نصيف المعد لنزول الملك عبدالعزيز، في حفل استقبال ركبه القادم من مكة، قائلاً: «قدر لي أن أدخل مُلك ابن سعود من بابين من الخليج [العربي] والبحر الأحمر وعسى أن يكون الباب الثالث من بحر ثالث». لقد كان يشير إلى لقاء مؤتمر العقير عند وداع المندوب السامي كوكس، يومها أشار الملك إلى الريحاني قائلاً: «الأستاذ نجدي الآن، هو منّا».

وفي 2 ديسمبر 1946 زار الصحافي الشهير سي. إل. سالزبيرغر، الملك عبدالعزيز في مخيمه بوادي فاطمة، وأمضى معه يوما كاملاً محفوفاً بكرم الضيافة العربية. يومها صرّح العاهل السعودي للنيويورك تايمز عن محبته لروزفلت، وكراهيته لترومان.

وكان كراين، وتويتشل، وهاميلتون، وبيل لينهان أول ممثل لشركة زيت كاليفورنيا، وبقية طلائع الزوار الأمريكان إلى جدة ينزلون في بيت البغدادي الذي استحال وكالة لاستقبال كبار ضيوف المرفأ، فيما خصص قسمه الأكبر كمقر للشركة الشرقية.

ومع اتفاقية الزيت أجّره فيلبي على شركة زيت كاليفورنيا ستندرد (أرامكو فيما بعد)، ليكون أول مقر لها، قبل أن تنتقل الشركة إلى بيت باجنيد، الذي سيصبح اسمه «بيت أمريكاني».

هكذا بعد «دار الاعتماد البريطاني»، و«بيت فرنسا»، و«الجمعية الهولندية التجارية».. انضم إلى خريطة معالم جدة العمرانية «بيت أمريكاني» دلالة على تحوّل جيوسياسي جديد.

وكان «بيت أمريكاني» أول مبنى في جدة يضم في هندسته حمّامات أفرنجية. حدّ أن المستر لينهان اعتبر انتقاله إليه بمثابة حدث الأحداث في فترته بجدة.

لكن قاري أوين، الذي أعقب لينهان في منصبه، ووصل إلى جدة في 1941 حدد ثلاثة أحداث أكثر أهمية مرّت عليه أثناء مكوثه بالمدينة: هدم السور القديم، جلب المياه بالأنابيب من وادي فاطمة، وارتفاع إنتاج الزيت في شركة أرامكو ما زاد دخل الحكومة زيادة محسوسة.

وكان عقد الخمسينات قد شهد تطويراً صارماً في شركة أرامكو صعدت معه مبيعات النفط خمسة أضعاف.

رافق ذلك تواريخ من التمييز داخل الشركة ضد الموظفين المحليين، قوبلت بكفاح وطني مشرّف انخرط فيه الوزير، والعامل، والمجتمع المدني، والصحافي.

إلى جانب النفط، أسهم الأمريكان في تطوير عدة صناعات محلية، مثل الطيران عبر شركة تي. دبليو .إيه، والصيرفة عبر عائلة مورغان.

ومثلما منع السعوديون النفط عن أمريكا في السبعينات، سبقهم الأمريكان إلى منع الذهب عنها في سنوات التأسيس. أرادت السعودية استلام نصيبها من اتفاقة الزيت نقوداً ذهبية، لكن الحظر الذي فُرض على تصدير الذهب، وتعنت دين أشيسون وزير الخزانة إزاء طلب السعوديين في 1933 كاد يهدد الصفقة في مهدها، حتى صير إلى توفيره بحلول بديلة عبر فرع بنك مورغان بلندن.

بين سرادق قيظ أغسطس 1933، وأشباح خواء الخزانة إثر أزمة الكساد العظيم.. وقف وزير المالية الفذّ ابن سليمان على رصيف الخليج العربي يترقب في البحر الرهو اقتراب باخرة البننسلر آند أورينتال على متنها صناديق الذهب التي تساوي 35 ألف جنيه إسترليني، يريد بها إطفاء التزامات خزانته. كانت طليعة الصفقات الحاسمة في تاريخ بلادنا أمريكية.