صفحة مطويّة من تاريخ الإخوان المسلمين
السبت / 08 / رمضان / 1438 هـ السبت 03 يونيو 2017 02:25
د. يوسف بن أحمد العثيمين
التالي هي سطور جرى إعدادها وكتابتها منذ (10) سنوات، وتتناول مشهداً عن تمدّد إمبراطورية الإخوان المسلمين عبر القارات، كيف تمدّد التنظيم، وأين انتشر، والأهّم ما هي إستراتيجيته، لأن المشهد يتغير، ولكن الإستراتيجية بقيت كما كانت منذ أكثر من (80) عاماً..
المؤكد أن المشهد التاريخي الوارد في هذه الورقة قد تغيّر الآن، وتنبّهت عدد من الحكومات في المنطقة هنا وغيرها إلى خطرهم على الدولة والمجتمع، واتخذت عدداً من الإجراءات وصلت إلى حد تصنيفها كجماعة إرهابية، وبعض الحكومات حدّت من نشاطها إلى حدّ كبير، وقيّدت حركتها ولكن البعض ما زال حفيّا بها!
أما السبب الذي يدعو إلى إعادة قراءة هذه الورقة ومدى مناسبتها بعد مرور هذه السنوات عليها، رغم تقادم بعض معلوماتها، فهو أمران: الأول، أن تنظيم الإخوان مازال يستخدم نفس الإستراتيجية التي سار عليها وطبّقها منذ نشأته، بل واستفاد من أدوات العصر التي لم تكن متاحـة له عـبر (50) عامـاً خلت، مثل التواصـل الإلكتروني، وما نسميه (الإرهاب الناعم)، ووجد التنظيم في مواقع التواصل الاجتماعي ضالته لتسهيل انتشاره وتغلغله ليس في البلد الواحد؛ بل عبر القارات – وهذا ما يزيد من خطورته..!
الأمر الثاني، وهو بيت القصيد، أن تخلّق القاعدة وظهور داعش وأخواتها من رحمها جعل من الأهمية بمكان ضرورة إعادة قراءة هذه الورقة، رغم تقادم الزمن على بعض معلوماتها – ذلك أن ظهور داعش جعل تنظيم الإخوان وخطره يأخذ حيِّزاً أقّل من الاهتمام السياسي والإعلامي والأكاديمي.. ولولا أن بعض أحداث المنطقة هذه الأيام فرضت نفسها؛ ربما استمر استتار هذا التنظيم في زوايا النسيان عدا لدى بعض الدول التي اكتوت بناره بشكل مباشر.
ما أريد قوله صراحة ودون مواربة، هو أن تنظيم الإخوان المسلمين أشدّ خطورة من داعش -رغم خطورته ووحشيته وإساءته للدين والأوطان– لأن تنظيم الإخوان أكثر استتاراً من داعش، ونافذٌ أكثر في مفاصل الدول والمجتمعات، ويعتمد على إستراتيجية البدء من الأسفل إلى الأعلى لتشكل إمبراطوريته ووصوله إلى السلطة ومواقع التأثير، كما أن أغلب من ينتمي إليه ليسوا مثل الدواعش، الذين يغلب على خلفيتهم ضحالة الفكر، وتدنّي المعرفة، وكون أغلبهم من خريجي سجون، أو مجرمين، أو مدمني مخدرات، أو عاطلين عن العمل، أو غير متكيّفين مع مجتمعاتهم سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة.. بل من ينتمي إلى تنظيم الإخوان هم مزيج من شرائح متنوعة من أوسـاط المجتمعات، ومـن ذوي التخصصات والمهن المرموقة –أحيانا– وفيهم علماء شرعيون، وسياسيون وبرلمانيون وأكاديميون، وأساتذة جامعات، وأطباء، ومهندسون، ونقابيون، ورجال أعمال.. إلخ، وللتنظيم شبكات مالية غاية في التنظيم والتعقيد كشفت عنها بعض التحقيقات الدولية والإعلامية، كما أن التنظيم يتكئ على إستراتيجية (النفس الطويل) لتحقيق أهدافه.. ثم –وكما ذكرت– زاد خطر التنظيم الآن حيث بدأ يستفيد من وسائل لم تكن متاحة له من قبل، كوسائل التواصل الاجتماعي للتجنيد والتشويش والتأثير وتهييج المجتمعات ضد الحكومات.. وإذا أضفنا إلى ذلك كون عمر التنظيم يمتد إلى أكثر من (80) عاماً؛ فنحن أمام تنظيم اكتسب من الخبرات التنظيمية وأساليب المراوغة والتحوّل ما يجعله عصيّاً على الاندثار بطرفة عين أو رصاصة قنّاص ماهر.. ومن يشكك في خطورة هذا التنظيم ما عليه سوى الرجوع للحديث الشهير الذي أدلى به قبل (10) سنوات المرحوم الأمير نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية السعودي آنذاك، عن هذا التنظيم.. فهل من مدّكر!.
هذه مقدمة ضرورية لتجعل هذه الورقة في سياق تاريخي وظرف سياسي يدعو لقراءتها وتأملها من جديد وإليكموها:
يتناول هذا التقرير (النفوذ الاجتماعي) الهائل للجماعات الإسلامية في بعض البلاد العربية.. ويتحدث التقرير عن (الآليات) التي استطاعت عبرها هذه الجماعات ذات التوجهات السياسية من (التغلغل) في مؤسسات الدولة وفي شرايين المجتمع، ووصلت إلى درجة التأثير المباشر على عقول وقلوب ووجدان (السواد الأعظم) من بسطاء تلك المجتمعات، الأمر الذي مكّن هذه الجماعات من تشكيل التوجهات السياسية والاجتماعية لشرائح واسعة من المجتمع..
لقد كان الاعتقاد السائد هو أن الجماعات الإسلامية المسيّسة (تدخل) على المجتمعات، وتؤثر في الشباب والشابات عبر البوابة (السياسية)، أو (التعليمية)، أو (الدعوية).. ولكن التقرير الذي بين أيديكم يوضح بجلاء أن هناك (بوابة) غير ظاهرة للعيان تدخل عبرها هذه الجماعات لـ(اختراق) المجتمعات والتأثير فيها.. ألا وهي بوابة (العمل الاجتماعي الخيري): تنظيماً وتجنيداً وتمويلاً، وبأسلوب جذاب لبسطاء الناس، (وصولاً) بعد ذلك لتحقيق (الأجندة السياسية) لهذه الجماعات وهي الوصول والسيطرة على مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، ثم –أخيراً – الوصول إلى السلطة وسدة الحكم.. وهذا (الهدف النهائي) لا تخفيه هذه الجماعات الإسلامية المسيّسة، بل تعتبر أن تبنّي (العمل الاجتماعي الخيري) من قبل هذه الجماعات ما هو إلاّ وسيلة مثالية لتحقيق هذا الغرض.
إن خطر (اختراق) المجتمعات عبر بوابة (العمل الاجتماعي والخيري) من قبل هذه الجماعات ذات التوجهات السياسية يكمن (خطره) في أنه (لا يثير انتباه الحكومات) كالعمل السياسي أو الدعوي أو الإعلامي أو التعليمي أو الثقافي؛ لأن هذه النشاطات (ظاهرة) ومباشرة لمراقبة الدولة، أما العمل الاجتماعي والخيري والإنساني فيمكن لهذه الجماعات التحرك فيه دون ضجيج.. وهذا ما يتطلب (فطنة) الساسة، والتعاطي مع هذا الأمر إما بالاحتواء، أو الحذر، أو التوجيه، أو إيجاد البديل الموثوق به في المجال الاجتماعي والخيري.
يدور هذه الأيام، جدل سياسي وفكري وصحافي حول فوز (الإخوان المسلمين) بنسبة ملفتة للنظر في مقاعد الانتخابات البرلمانية في مصر تصل إلى أكثر من (25%) من المقاعد.. هذا (رغم) التضييق الشديد عليهم، والمضايقات التي تعرضوا لها من السلطة، ورغم أن الحزب الحاكم، أيضاً، لديه من الإمكانات (أدوات الدولة) ما يفوق ما لدى (الإخوان المسلمين).. فما الذي يفسِّر هذا النجاح والاكتساح غير المتوقع؟!
يذهب عددّ من المحللين إلى أن (القدرات التنظيمية) التي يتمتع بها الإخوان هي السبب، بينما يرى آخرون أن (بساطة الرسالة) السياسية التي وجهها الإخوان للناخب المصري (الإسلام هو الحل) هو السبب المباشر لهذا الفوز.. في حين يعتقد البعض أن الرسالة (الغيبية) الإخوانية والتي لها جاذبية كبيرة لدى شرائح كبرى في المجتمع المصري هي السبب الرئيس.. كما ذهب آخرون إلى أن إفلاس البرنامج السياسي والاقتصادي للنظام العربي والأحزاب القائمة هو ما يدعو المواطن العربي البسيط للتوجه للجماعات الإسلامية بحثاً عن مخرج لهذا الانسداد في الأفق السياسي والاقتصادي.. بينما يرى البعض أن المنابر والمساجد والمدارس وأدوات الإعلام، التي تغلغل فيها الإسلاميون وسيطروا عليها في الثلاثين سنة الأخيرة، هي السبب.
النفس الطويل والهدوء
تقدم هذه الورقة (أطروحة) أساسية مفادها أن (الضجيج) السياسي والحزبي والتنظيمي والإعلامي والدعوي للجماعات الإسلامية قد يفسر (جزءاً) من النجاحات التي تحققت لتلك الجماعات.. ولكن ما لم ينتبه لأهميته الكثير من السياسيين والمحللين هو أن هناك (سبباً هادئاً مستتراً)، هو الذي يقف وراء اكتساح الجماعات الإسلامية للساحة السياسية والتأثير في الرأي العام، بل وفي تشّكل توجهاته السياسية والاجتماعية.. إنه – ببساطة- (تنفّذ) الحركات الإسلامية في البناء الاجتماعي، وقدرتها على (التمدّد) في بنية المجتمع، ومفاصله ومراكزه العصبية عبر (بوابة العمل الاجتماعي والخيري والتطوعي)، وحسن استغلال الجماعات الإسلامية لأدواته: تحفيزاً وتجنيداً وتنظيماً وتطوعاً وتمويلاً، وبأداء رائع منظم، يتسم بالانضباط، والمتابعة، والنفس الطويل، وعدم الملل والكلل، والابتكار والإبداع، وجودة الإخراج، وعرضه بأسلوب شائق وجذاب لقطاع واسع من شرائح المجتمع – خاصة بين الشباب والفئات المحتاجة وما دون الطبقة المتوسطة.. وفوق كل ذلك ما يظهره أفراد (الجماعات الإسلامية) من نظافة اليد، ونزاهة في التعاملات، وطهورية أفراد (الجماعات الإسلامية) من نظافة اليد، ونزاهة التعاملات، وطهورية في المظهر والتصرفات.. الأمر الذي مكنهّم –عبر الزمن– للوصول إلى ما وصلوا إليه في عددٍ من الدول.
وهناك نموذجان عصريان يقدمان لنا (أفضل) مقاربة حقيقية للطريقة التي تتشكّل بها (الإمبراطوريات الاجتماعية) للحركات الإسلامية، في بلدين في غاية الأهمية هما: مصر والأردن، وجعلت من الجماعات الإسلامية قوى مؤثرة وضاغطة على سياسات الحكومات في تلك الدول، إن لم تكن مقدمة للوصول إلى مؤسسات الدولة الرسمية، ثم الحصول على (الحكم).
منجم للباحث
لقد نجح (منتصر الزيات) وهو (إخواني) في رسم صورة من الداخل للكيفية التي استطاعت عبرها (الجماعات الإسلامية) من التغلغل في المجتمع المصري عبر بوابة (العمل الاجتماعي التطوعي الخيري)، ولعل كتابه (الجماعات الإسلامية.. رؤية من الداخل) (منجم) للباحث في الجماعات الإسلامية، وأساليبيها المبتكرة للتأثير في المجتمع.. لقد شرح في كتابه (القدرات التواصلية الهائلة) التي تتوفر عليها الجماعات الإسلامية لـ(التواصل) والتمّاس مع بسطاء الناس، وأساليبهم في جمع (التبرعات)، وتقدم (المساعدات) للفقراء، وإنشاء (محلات البيع المخفضة)، وتقديم (البازارات الاجتماعية) للبضائع الأساسية التي تحتاجها الأسر الفقيرة، وإعطاء (الدروس المجانية) لأبناء الفقراء.. كل ذلك في (منظومة متكاملة) توضح لنا الكيفية التي استطاعت بها تلك الجماعات الإسلامية السيطرة على النشاط الاجتماعي في المجتمع المصري.
كما يقدم لنا (بسام بدارين) قراءة مفصلة في إمبراطورية (النفوذ الاجتماعي) للحركة الإسلامية في الأردن، وكيف تمكّنت هذه الجماعات عبر الزمن من إدارة (1000) مسجد، وتعاملت باستثمارات تجاوزت (مئات الملايين) من الدينارات الأردنية، والإشراف المباشر، أو المستتر، على (500) جمعية خيرية في البلاد.
ويقدم لنا الكاتب صورة وصفية دقيقة لتغلغل الجماعات الإسلامية في (النسيج الاجتماعي) في المجتمع الأردني.. فقد استطاعت هذه الجماعات السيطرة على المجلس البلدي، ثم بدأوا بتعيين مراقبين حكوميين (إخوانيين) على المحلات التجارية التي يمكلها بسطاء الناس وتبيع (الأرزاق)، حيث يُشير الكاتب إلى أن هؤلاء المراقبين (الإخوانيين) لا يحررون المخالفات بقصد الحصول على (رشوة) من هؤلاء الباعة الفقراء.. بل يدخلون المحلات، ويجرون –باحترام شديد– تفتيشهم الصحي، ويتأكدون من سلامة البضائع، ثم يغادرون المحلات دون أن (يطلبوا شيئاً) من الباعة.. بينما، في السابق، كان المراقب البلدي ينغّص على هؤلاء الباعة البسطاء حياتهم، إذ يضطر الباعة لإعطاء المراقبين كميات من بضائعهم (مجاناً) حتى لا يضايقوهم، أو يحرروا المخالفات بحقهم.
وتجربة هؤلاء الباعة البسطاء بسيطة جداً بالمقارنة مع (آلاف) المحلات التجارية الكبيرة التي ترحب بمراقبي البلدية من الإسلاميين الإخوان لما يتمتعون به من صلاح، مما جعل أداء قادة المجتمع المحلي الإسلاميين يحقق استرخاءً كبيراً في صفوق الفقراء وبسطاء الناس.
تبرز الجماعات الإسلامية محلياً على صعيد العمل الاجتماعي والخيري، وتبني (بصمت) إمبراطورية (الإعجاب الشعبية) بـ(أدائهم النظيف) ومحاربتهم للرشوة وفساد الذمم، وبناء (شبكة واسعة للرعاية الاجتماعية) عبر الجمعيات واللجان الخيرية في البلاد.. فالنشطاء الاجتماعيون من الجماعات الإسلامية على (تماس مباشر) بالسواد الأعظم من الناس، وبأغلبية الفقراء، ويعرفهم الناس أكثر من السياسيين وموظفي الحكومة، وأكثر من منظري السياسة ورواد الصالونات الأدبية والاجتماعية والسياسة.. والمفارقة أن الجماعات الإسلامية (تتقصّد) باحتراف (عدم إثارة الأضواء) على نشاطاتها الاجتمـاعية الممتدة في المجتمع، والتي تنافس فيها -وبجدارة- المؤسسات الاجتماعية للدولة.. هذه النشاطات تُنظم (دون ضجيج أو إعلام)، بل إن البعض يعتقد أن الجماعات الإسلامية قد نجحت في (التمويه) على نشاطاتها الاجتماعية والخيرية عبر (تسليط) الأضواء، بين الحين والآخر، على نشاطاتها ذات (الطابع السياسي) التي انشغلت بها الصحافة والحكومة، فيما كانت تُجري ترتيبات (أكثر عمقاً) من قبل هذه الجماعات على المستوى الجماهيري والاجتماعي والخيري لبناء إمبراطوريتهم، وتوسيع نفوذهم لحين الوقت المناسب للاقتراب من المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية للدولة.. وأخيراً الحكم.
ووفقاً للكاتب، فقد استطاعت الجماعات الإسلامية تمويل بناء ما يقارب من (1000) مسجد من بين (2500) مسجد مرخصة من قبل وزارة الأوقاف، أغلبها بتبرعات أهلية شاركت بها الجماعات الإسلامية، فيما تشير المعلومات إلى أن اللجان التنظيمية لهذه الجماعات هي (المسيطر الأول) على نشاطات الوعظ والإرشاد، وعلى جمعيات تحفيظ القرآن، وعلى الخطابة في أغلب المساجد.
نفوذ المساجد
ليس هذا فحسب، بل إن تيار الجماعات الإسلامية أصبح (أكثر نفوذاً) داخل المساجد من وزارة الأوقاف نفسها، وأخيراً تنبّهت الوزارة لذلك، وحاولت زعزعة هذا النفوذ عبر تنظيم جديد للوعظ والإرشاد، وعبر استبعاد خطباء الإخوان، ومحاولة تفكيك نفوذهم داخل المساجد، لكن ما حصل أكثر إثارة فقد (اكتشفت) الحكومة بأن الإخوان (متنفّذون) –أيضاً– داخل الوزارة نفسها ولجانها، وأنهم يديرون (عن بُعد) تبرعات تجمعها اللجان الحكومية للزكاة، وأن هذه الجماعات، شاءت الوزارة أم أبت، يكونّون جزءاً أساسياً من بنية الوزارة نفسها.
وتتبع الجماعات الإسلامية خططاً مُحكمة للحفاظ على نفوذها، فهم يدفعون أعضاءهم ومموليهم للمشاركة في نشاطات الحكومة ذات الطابع الديني في الوقت الذي يحتفظون فيه بنشاطاتهم الذاتية ولجانهم التي يتجاوز عددها ما بين لجنة مركزية أو فرعية (1500) لجنة، وعلى (صلة يومية) مباشرة بالناس.. ولا أحد يجرؤ على التشكيك بذمم الجماعات المالية، أو على توجيه استفسارات حول طريقية تمويلهم لهذه الشبكة العملاقة من اللجان والأنشطة، لأن الجميع يعرف أنهم (الأنظف مالياً) وفوق ذلك تُفاجأ الحكومة –يومياً- بأن الجماعات الإسلامية متنفذة في أحد القطاعات المهمة والمنسية في الوقت الذي يستهدف فيه نفوذهم وتمددهم إلى قطاع آخر.
وتدير الجماعات الإسلامية –بنفسها– وبكفاءة عالية (استثماراتها التجارية وإمبراطوريتها المالية)، ويحركون على نحوٍ أو آخر نشاطات المال لـ(البنك الإسلامي) الوحيد في الأردن، علماً بأنهم لا يملكون هذا البنك لكنه يدعم أعمالهم، ويموِّل الكثير من (تعاملاتهم الشرعية)..
ويُدار العمل الاجتماعي والخيري للجماعة الإسلامية من قبل جمعية مركزية خيرية عملاقة تعتبر دون منازع الجمعية الأكثر أهمية في الأردن، وهي تشكل العصب الحيوي للتيار، وصاحبة الفضل الأساسي في إمبراطورية العمل الخيري والاجتماعي في البلاد.. وتُسمى الجمعية «المركز الإسلامي»، وتقدّر أصولها المالية وعملياتها الاستثمارية بـ(100) مليون دينار أردني (150 مليون دولار).. وتدير هذه (الجمعية الخيرية) أعمالها على أُسس تجارية واستثمارية بحتة، وتنفق على نشاطاتها من عوائد استثمارين عملاقين هما (المستشفى الإسلامي) في عمّان وبقية المدن، وهو من أهم مشافي القطاع الخاص في الأردن، ومدارس (دار الأرقم)، وهي من أهم شركات الاستثمار في المجال التعليمي.
وفي (المشفى الإسلامي) كادر كبير من الأطباء والممرضين والإداريين الذين ينتمون لتيار الجماعة الإسلامية، أما (مدارس الأرقم) فتوفر (فرص عمل) لشباب الجماعة المؤهلين تربوياً والذين يعمل بعضهم –أيضاً– في مدارس التربية والتعليم الحكومية، وفي المستشفى تعمل نخبة من أهم (الأطباء الإسلاميين) وأشهر المتخصصين في مجال الأعصاب والنسائية والأمراض الباطنية ومجال طب الأطفال.. ويتميز الأطباء الإسلاميون (بسمعة طيبة) في وسط الجمهور دون غيرهم.. وتشير مطبوعات (الجمعية الخيرية) أن مبلغ الإعفاءات التي دُفعت من قِبل (صندوق الفقير) التابع للمستشفى، ولسنة واحدة فقط، تجاوز (5.000.000) دولار دُفعت بدل مرضى فقراء لم يستطيعوا دفع فواتير علاجهم.. كما توفر الجماعة الإسلامية عبر (صندوق المريض) للفقير علاجاً مجانياً إذا أثبت المواطن ضعف حالته المالية، أما (مدارس الأرقم) فتتعامل و(تدعم) سلسلة كبيرة من المدارس الإعدادية والثانوية والابتدائية ومدارس رياض الأطفال التي وفرت التعليم لعشرات الآلاف من التلاميذ، وتتمتع هذه المدارس بسمعة طيبة للغاية بين مدارس القطاع الخاص.. وفي المجال التعليمي –أيضاً– تسيطر الجماعة الإسلامية على إدارة كليتين متوسطتين، إضافة إلى جامعة تابعة للقطاع الخاص هي (الجامعة الهاشمية).
ويشير التقرير السنوي للجمعية الخيرية عن وجود عشرات النشاطات والفروع تابعة للجمعية في مختلف محافظات الأردن، أما العاصمة عمّان فتحتضن وحدها (20) فرعاً.. وتقوم هذه الفروع جميعها بنشاطات مختلفة ضمن خطط تنسيقية موحدة تشمل: (كفالة الأيتام)، و(جمع الزكوات)، وتحصيل (التبرعات المحلية)، ومراكز لـ(جمع الصدقات)، وبناء (المستوصفات)، وإنشاء (مراكز التدريب المهني)، ودور (الرعاية الاجتماعية)، و(المدارس الإسلامية).. وفي جميع الفروع أُقيمت (مساجد صغيرة)، فيما تعمل داخل كل فرع عدة (لجان شعبية) تتألف من (3 – 5) أشخاص في نطاق الحي، أو المنطقة، أو القرية، أو الضاحية الواحدة، وتعمل بأسلوب (الخلايا) الصغيرة المنظمة.
و(جمعية المركز الخيرية) ليست وحدها في تيار الجماعة الإسلامية، لكنها الأهم، ومعها تعمل (العشرات) من الجمعيات والمراكز غير المعلنة باسم الجماعة لكنهم يسيطرون عليها، وتدير الجماعة الإسلامية –أيضاً– جمعيات (تحفيظ القرآن) المنتشرة في مختلف المدن والمحافظات، ويديرون –أيضاً– أكثر من (100) لجنة مختصة بجمع (الزكاة والصدقات)، فضلاً عن وجودهم المستتر في اللجان الحكومية لنفس الغرض.
وتدير جمعية (عز الدين القسّام الخيرية) التابة للجماعة الإسلامية نشاطات اجتماعية وخيرية – خاصة في مجال رعاية وكفالة الأيتام، وتشير التقارير إلى أن هذه الجماعات تنفق على عدد كبير من الأيتام (يفوق) كثيراً (دور الأيتام) التابعة للدولة، كما أنهم يديرون لجاناً لجمع التبرعات للفلسطينيين، ولدعم العراق والسودان وليبيا، واستطاعوا استقطاب وجهاء العشائر وقادة بعض القبائل.
الحضور الاجتماعي
وفي إطار سعي الجماعات الإسلامية لـ(الإحاطة بكافة مناحي الحضور الاجتماعي) كونوا (جمعية العفاف) المتخصصة بشؤون الزواج، وهي جمعية ذات سمعة دولية بسبب نشاطاتها في ابتكار أسلوب (الزواج الجماعي)، ونظمت هذه الجمعية عدة حفلات للزواج الجماعي ربطت أكثر من (400) عائلة أردنية مع بعضها البعض، في سنة واحدة.
وأخيراً، استعرضت الجماعة الإسلامية عضلاتها التنظيمية فنظمت (حفل إفطار أيتام) ضم (1000) يتيم دفعة واحدة، (تحدياً) لنشاطات مماثلة لمؤسسات الدولة التي نظمت إفطارات ضمت (200) يتيم على الأكثر.. وقالوا إنهم خططوا لضم (5000) يتيم في حفل إفطار جماعي لولا مضايقة الحكومة لهم.. وأخيراً تتحدث التقديرات عن وجود أكثر من (500) جمعية ولجنة وهيئة ومؤسسة خيرية تشرف عليها الجماعات الإسلامية –بشكل أو بآخر– عبر الأردن.
إن الدرس المُستفاد –من استعراض التجرية المصرية والأردنية– هو أن الجماعات الإسلامية وتأثيرها على المشهد السياسي في الدول، وقدرتها على التغلغل في بنية المجتمعات العربية والإسلامية ليس بـ(الضرورة) أن يأتي عبر (البوابة السياسية) الواضحة للجميع عن طريق الانتخابات، أو عبر (البوابة الثقافية) من خلال الكتاب والشريط والمحاضرة، أو عبر (البوابة الإعلامية) من خلال الصحيفة والبرنامج الإذاعي أو التلفازي، أو عبر (البوابة الدعوية) من خلال المسجد والمنبر، أو (البوابة التعليمية) عبر المناهج والمعلمين.
إنما يمكن أن يأتي هذا التأثير الهائل، والتغلغل العميق، للجماعات الإسلامية في المجتمع، ومن ثم تحقيق أهدافها (أجندتها) عبر (البوابة الهادئة) التي لا يلحظها المراقب عن بُعد، ولا تُحدث (ضجيجاً) يُلفت الانتباه لها، ومع ذلك قد يكون لها التأثير الأبلغ، والتغلغل الأعمق، والتمدد الأوسع في شرايين المجتمع، والوصول لمختلف الشرائح من المواطنين – خاصةً الشباب والفتيات.. إنها البوابة الأوسع: (بوابة العمل الاجتماعي والخيري والتطوعي والإنساني).. هذا ما يجب أن (يفطن) إليه الساسة، ويعملوا على التعاطي معه إما بـ(الاحتواء)، أو (الحذر)، أو (التوجيه).
المؤكد أن المشهد التاريخي الوارد في هذه الورقة قد تغيّر الآن، وتنبّهت عدد من الحكومات في المنطقة هنا وغيرها إلى خطرهم على الدولة والمجتمع، واتخذت عدداً من الإجراءات وصلت إلى حد تصنيفها كجماعة إرهابية، وبعض الحكومات حدّت من نشاطها إلى حدّ كبير، وقيّدت حركتها ولكن البعض ما زال حفيّا بها!
أما السبب الذي يدعو إلى إعادة قراءة هذه الورقة ومدى مناسبتها بعد مرور هذه السنوات عليها، رغم تقادم بعض معلوماتها، فهو أمران: الأول، أن تنظيم الإخوان مازال يستخدم نفس الإستراتيجية التي سار عليها وطبّقها منذ نشأته، بل واستفاد من أدوات العصر التي لم تكن متاحـة له عـبر (50) عامـاً خلت، مثل التواصـل الإلكتروني، وما نسميه (الإرهاب الناعم)، ووجد التنظيم في مواقع التواصل الاجتماعي ضالته لتسهيل انتشاره وتغلغله ليس في البلد الواحد؛ بل عبر القارات – وهذا ما يزيد من خطورته..!
الأمر الثاني، وهو بيت القصيد، أن تخلّق القاعدة وظهور داعش وأخواتها من رحمها جعل من الأهمية بمكان ضرورة إعادة قراءة هذه الورقة، رغم تقادم الزمن على بعض معلوماتها – ذلك أن ظهور داعش جعل تنظيم الإخوان وخطره يأخذ حيِّزاً أقّل من الاهتمام السياسي والإعلامي والأكاديمي.. ولولا أن بعض أحداث المنطقة هذه الأيام فرضت نفسها؛ ربما استمر استتار هذا التنظيم في زوايا النسيان عدا لدى بعض الدول التي اكتوت بناره بشكل مباشر.
ما أريد قوله صراحة ودون مواربة، هو أن تنظيم الإخوان المسلمين أشدّ خطورة من داعش -رغم خطورته ووحشيته وإساءته للدين والأوطان– لأن تنظيم الإخوان أكثر استتاراً من داعش، ونافذٌ أكثر في مفاصل الدول والمجتمعات، ويعتمد على إستراتيجية البدء من الأسفل إلى الأعلى لتشكل إمبراطوريته ووصوله إلى السلطة ومواقع التأثير، كما أن أغلب من ينتمي إليه ليسوا مثل الدواعش، الذين يغلب على خلفيتهم ضحالة الفكر، وتدنّي المعرفة، وكون أغلبهم من خريجي سجون، أو مجرمين، أو مدمني مخدرات، أو عاطلين عن العمل، أو غير متكيّفين مع مجتمعاتهم سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة.. بل من ينتمي إلى تنظيم الإخوان هم مزيج من شرائح متنوعة من أوسـاط المجتمعات، ومـن ذوي التخصصات والمهن المرموقة –أحيانا– وفيهم علماء شرعيون، وسياسيون وبرلمانيون وأكاديميون، وأساتذة جامعات، وأطباء، ومهندسون، ونقابيون، ورجال أعمال.. إلخ، وللتنظيم شبكات مالية غاية في التنظيم والتعقيد كشفت عنها بعض التحقيقات الدولية والإعلامية، كما أن التنظيم يتكئ على إستراتيجية (النفس الطويل) لتحقيق أهدافه.. ثم –وكما ذكرت– زاد خطر التنظيم الآن حيث بدأ يستفيد من وسائل لم تكن متاحة له من قبل، كوسائل التواصل الاجتماعي للتجنيد والتشويش والتأثير وتهييج المجتمعات ضد الحكومات.. وإذا أضفنا إلى ذلك كون عمر التنظيم يمتد إلى أكثر من (80) عاماً؛ فنحن أمام تنظيم اكتسب من الخبرات التنظيمية وأساليب المراوغة والتحوّل ما يجعله عصيّاً على الاندثار بطرفة عين أو رصاصة قنّاص ماهر.. ومن يشكك في خطورة هذا التنظيم ما عليه سوى الرجوع للحديث الشهير الذي أدلى به قبل (10) سنوات المرحوم الأمير نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية السعودي آنذاك، عن هذا التنظيم.. فهل من مدّكر!.
هذه مقدمة ضرورية لتجعل هذه الورقة في سياق تاريخي وظرف سياسي يدعو لقراءتها وتأملها من جديد وإليكموها:
يتناول هذا التقرير (النفوذ الاجتماعي) الهائل للجماعات الإسلامية في بعض البلاد العربية.. ويتحدث التقرير عن (الآليات) التي استطاعت عبرها هذه الجماعات ذات التوجهات السياسية من (التغلغل) في مؤسسات الدولة وفي شرايين المجتمع، ووصلت إلى درجة التأثير المباشر على عقول وقلوب ووجدان (السواد الأعظم) من بسطاء تلك المجتمعات، الأمر الذي مكّن هذه الجماعات من تشكيل التوجهات السياسية والاجتماعية لشرائح واسعة من المجتمع..
لقد كان الاعتقاد السائد هو أن الجماعات الإسلامية المسيّسة (تدخل) على المجتمعات، وتؤثر في الشباب والشابات عبر البوابة (السياسية)، أو (التعليمية)، أو (الدعوية).. ولكن التقرير الذي بين أيديكم يوضح بجلاء أن هناك (بوابة) غير ظاهرة للعيان تدخل عبرها هذه الجماعات لـ(اختراق) المجتمعات والتأثير فيها.. ألا وهي بوابة (العمل الاجتماعي الخيري): تنظيماً وتجنيداً وتمويلاً، وبأسلوب جذاب لبسطاء الناس، (وصولاً) بعد ذلك لتحقيق (الأجندة السياسية) لهذه الجماعات وهي الوصول والسيطرة على مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، ثم –أخيراً – الوصول إلى السلطة وسدة الحكم.. وهذا (الهدف النهائي) لا تخفيه هذه الجماعات الإسلامية المسيّسة، بل تعتبر أن تبنّي (العمل الاجتماعي الخيري) من قبل هذه الجماعات ما هو إلاّ وسيلة مثالية لتحقيق هذا الغرض.
إن خطر (اختراق) المجتمعات عبر بوابة (العمل الاجتماعي والخيري) من قبل هذه الجماعات ذات التوجهات السياسية يكمن (خطره) في أنه (لا يثير انتباه الحكومات) كالعمل السياسي أو الدعوي أو الإعلامي أو التعليمي أو الثقافي؛ لأن هذه النشاطات (ظاهرة) ومباشرة لمراقبة الدولة، أما العمل الاجتماعي والخيري والإنساني فيمكن لهذه الجماعات التحرك فيه دون ضجيج.. وهذا ما يتطلب (فطنة) الساسة، والتعاطي مع هذا الأمر إما بالاحتواء، أو الحذر، أو التوجيه، أو إيجاد البديل الموثوق به في المجال الاجتماعي والخيري.
يدور هذه الأيام، جدل سياسي وفكري وصحافي حول فوز (الإخوان المسلمين) بنسبة ملفتة للنظر في مقاعد الانتخابات البرلمانية في مصر تصل إلى أكثر من (25%) من المقاعد.. هذا (رغم) التضييق الشديد عليهم، والمضايقات التي تعرضوا لها من السلطة، ورغم أن الحزب الحاكم، أيضاً، لديه من الإمكانات (أدوات الدولة) ما يفوق ما لدى (الإخوان المسلمين).. فما الذي يفسِّر هذا النجاح والاكتساح غير المتوقع؟!
يذهب عددّ من المحللين إلى أن (القدرات التنظيمية) التي يتمتع بها الإخوان هي السبب، بينما يرى آخرون أن (بساطة الرسالة) السياسية التي وجهها الإخوان للناخب المصري (الإسلام هو الحل) هو السبب المباشر لهذا الفوز.. في حين يعتقد البعض أن الرسالة (الغيبية) الإخوانية والتي لها جاذبية كبيرة لدى شرائح كبرى في المجتمع المصري هي السبب الرئيس.. كما ذهب آخرون إلى أن إفلاس البرنامج السياسي والاقتصادي للنظام العربي والأحزاب القائمة هو ما يدعو المواطن العربي البسيط للتوجه للجماعات الإسلامية بحثاً عن مخرج لهذا الانسداد في الأفق السياسي والاقتصادي.. بينما يرى البعض أن المنابر والمساجد والمدارس وأدوات الإعلام، التي تغلغل فيها الإسلاميون وسيطروا عليها في الثلاثين سنة الأخيرة، هي السبب.
النفس الطويل والهدوء
تقدم هذه الورقة (أطروحة) أساسية مفادها أن (الضجيج) السياسي والحزبي والتنظيمي والإعلامي والدعوي للجماعات الإسلامية قد يفسر (جزءاً) من النجاحات التي تحققت لتلك الجماعات.. ولكن ما لم ينتبه لأهميته الكثير من السياسيين والمحللين هو أن هناك (سبباً هادئاً مستتراً)، هو الذي يقف وراء اكتساح الجماعات الإسلامية للساحة السياسية والتأثير في الرأي العام، بل وفي تشّكل توجهاته السياسية والاجتماعية.. إنه – ببساطة- (تنفّذ) الحركات الإسلامية في البناء الاجتماعي، وقدرتها على (التمدّد) في بنية المجتمع، ومفاصله ومراكزه العصبية عبر (بوابة العمل الاجتماعي والخيري والتطوعي)، وحسن استغلال الجماعات الإسلامية لأدواته: تحفيزاً وتجنيداً وتنظيماً وتطوعاً وتمويلاً، وبأداء رائع منظم، يتسم بالانضباط، والمتابعة، والنفس الطويل، وعدم الملل والكلل، والابتكار والإبداع، وجودة الإخراج، وعرضه بأسلوب شائق وجذاب لقطاع واسع من شرائح المجتمع – خاصة بين الشباب والفئات المحتاجة وما دون الطبقة المتوسطة.. وفوق كل ذلك ما يظهره أفراد (الجماعات الإسلامية) من نظافة اليد، ونزاهة في التعاملات، وطهورية أفراد (الجماعات الإسلامية) من نظافة اليد، ونزاهة التعاملات، وطهورية في المظهر والتصرفات.. الأمر الذي مكنهّم –عبر الزمن– للوصول إلى ما وصلوا إليه في عددٍ من الدول.
وهناك نموذجان عصريان يقدمان لنا (أفضل) مقاربة حقيقية للطريقة التي تتشكّل بها (الإمبراطوريات الاجتماعية) للحركات الإسلامية، في بلدين في غاية الأهمية هما: مصر والأردن، وجعلت من الجماعات الإسلامية قوى مؤثرة وضاغطة على سياسات الحكومات في تلك الدول، إن لم تكن مقدمة للوصول إلى مؤسسات الدولة الرسمية، ثم الحصول على (الحكم).
منجم للباحث
لقد نجح (منتصر الزيات) وهو (إخواني) في رسم صورة من الداخل للكيفية التي استطاعت عبرها (الجماعات الإسلامية) من التغلغل في المجتمع المصري عبر بوابة (العمل الاجتماعي التطوعي الخيري)، ولعل كتابه (الجماعات الإسلامية.. رؤية من الداخل) (منجم) للباحث في الجماعات الإسلامية، وأساليبيها المبتكرة للتأثير في المجتمع.. لقد شرح في كتابه (القدرات التواصلية الهائلة) التي تتوفر عليها الجماعات الإسلامية لـ(التواصل) والتمّاس مع بسطاء الناس، وأساليبهم في جمع (التبرعات)، وتقدم (المساعدات) للفقراء، وإنشاء (محلات البيع المخفضة)، وتقديم (البازارات الاجتماعية) للبضائع الأساسية التي تحتاجها الأسر الفقيرة، وإعطاء (الدروس المجانية) لأبناء الفقراء.. كل ذلك في (منظومة متكاملة) توضح لنا الكيفية التي استطاعت بها تلك الجماعات الإسلامية السيطرة على النشاط الاجتماعي في المجتمع المصري.
كما يقدم لنا (بسام بدارين) قراءة مفصلة في إمبراطورية (النفوذ الاجتماعي) للحركة الإسلامية في الأردن، وكيف تمكّنت هذه الجماعات عبر الزمن من إدارة (1000) مسجد، وتعاملت باستثمارات تجاوزت (مئات الملايين) من الدينارات الأردنية، والإشراف المباشر، أو المستتر، على (500) جمعية خيرية في البلاد.
ويقدم لنا الكاتب صورة وصفية دقيقة لتغلغل الجماعات الإسلامية في (النسيج الاجتماعي) في المجتمع الأردني.. فقد استطاعت هذه الجماعات السيطرة على المجلس البلدي، ثم بدأوا بتعيين مراقبين حكوميين (إخوانيين) على المحلات التجارية التي يمكلها بسطاء الناس وتبيع (الأرزاق)، حيث يُشير الكاتب إلى أن هؤلاء المراقبين (الإخوانيين) لا يحررون المخالفات بقصد الحصول على (رشوة) من هؤلاء الباعة الفقراء.. بل يدخلون المحلات، ويجرون –باحترام شديد– تفتيشهم الصحي، ويتأكدون من سلامة البضائع، ثم يغادرون المحلات دون أن (يطلبوا شيئاً) من الباعة.. بينما، في السابق، كان المراقب البلدي ينغّص على هؤلاء الباعة البسطاء حياتهم، إذ يضطر الباعة لإعطاء المراقبين كميات من بضائعهم (مجاناً) حتى لا يضايقوهم، أو يحرروا المخالفات بحقهم.
وتجربة هؤلاء الباعة البسطاء بسيطة جداً بالمقارنة مع (آلاف) المحلات التجارية الكبيرة التي ترحب بمراقبي البلدية من الإسلاميين الإخوان لما يتمتعون به من صلاح، مما جعل أداء قادة المجتمع المحلي الإسلاميين يحقق استرخاءً كبيراً في صفوق الفقراء وبسطاء الناس.
تبرز الجماعات الإسلامية محلياً على صعيد العمل الاجتماعي والخيري، وتبني (بصمت) إمبراطورية (الإعجاب الشعبية) بـ(أدائهم النظيف) ومحاربتهم للرشوة وفساد الذمم، وبناء (شبكة واسعة للرعاية الاجتماعية) عبر الجمعيات واللجان الخيرية في البلاد.. فالنشطاء الاجتماعيون من الجماعات الإسلامية على (تماس مباشر) بالسواد الأعظم من الناس، وبأغلبية الفقراء، ويعرفهم الناس أكثر من السياسيين وموظفي الحكومة، وأكثر من منظري السياسة ورواد الصالونات الأدبية والاجتماعية والسياسة.. والمفارقة أن الجماعات الإسلامية (تتقصّد) باحتراف (عدم إثارة الأضواء) على نشاطاتها الاجتمـاعية الممتدة في المجتمع، والتي تنافس فيها -وبجدارة- المؤسسات الاجتماعية للدولة.. هذه النشاطات تُنظم (دون ضجيج أو إعلام)، بل إن البعض يعتقد أن الجماعات الإسلامية قد نجحت في (التمويه) على نشاطاتها الاجتماعية والخيرية عبر (تسليط) الأضواء، بين الحين والآخر، على نشاطاتها ذات (الطابع السياسي) التي انشغلت بها الصحافة والحكومة، فيما كانت تُجري ترتيبات (أكثر عمقاً) من قبل هذه الجماعات على المستوى الجماهيري والاجتماعي والخيري لبناء إمبراطوريتهم، وتوسيع نفوذهم لحين الوقت المناسب للاقتراب من المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية للدولة.. وأخيراً الحكم.
ووفقاً للكاتب، فقد استطاعت الجماعات الإسلامية تمويل بناء ما يقارب من (1000) مسجد من بين (2500) مسجد مرخصة من قبل وزارة الأوقاف، أغلبها بتبرعات أهلية شاركت بها الجماعات الإسلامية، فيما تشير المعلومات إلى أن اللجان التنظيمية لهذه الجماعات هي (المسيطر الأول) على نشاطات الوعظ والإرشاد، وعلى جمعيات تحفيظ القرآن، وعلى الخطابة في أغلب المساجد.
نفوذ المساجد
ليس هذا فحسب، بل إن تيار الجماعات الإسلامية أصبح (أكثر نفوذاً) داخل المساجد من وزارة الأوقاف نفسها، وأخيراً تنبّهت الوزارة لذلك، وحاولت زعزعة هذا النفوذ عبر تنظيم جديد للوعظ والإرشاد، وعبر استبعاد خطباء الإخوان، ومحاولة تفكيك نفوذهم داخل المساجد، لكن ما حصل أكثر إثارة فقد (اكتشفت) الحكومة بأن الإخوان (متنفّذون) –أيضاً– داخل الوزارة نفسها ولجانها، وأنهم يديرون (عن بُعد) تبرعات تجمعها اللجان الحكومية للزكاة، وأن هذه الجماعات، شاءت الوزارة أم أبت، يكونّون جزءاً أساسياً من بنية الوزارة نفسها.
وتتبع الجماعات الإسلامية خططاً مُحكمة للحفاظ على نفوذها، فهم يدفعون أعضاءهم ومموليهم للمشاركة في نشاطات الحكومة ذات الطابع الديني في الوقت الذي يحتفظون فيه بنشاطاتهم الذاتية ولجانهم التي يتجاوز عددها ما بين لجنة مركزية أو فرعية (1500) لجنة، وعلى (صلة يومية) مباشرة بالناس.. ولا أحد يجرؤ على التشكيك بذمم الجماعات المالية، أو على توجيه استفسارات حول طريقية تمويلهم لهذه الشبكة العملاقة من اللجان والأنشطة، لأن الجميع يعرف أنهم (الأنظف مالياً) وفوق ذلك تُفاجأ الحكومة –يومياً- بأن الجماعات الإسلامية متنفذة في أحد القطاعات المهمة والمنسية في الوقت الذي يستهدف فيه نفوذهم وتمددهم إلى قطاع آخر.
وتدير الجماعات الإسلامية –بنفسها– وبكفاءة عالية (استثماراتها التجارية وإمبراطوريتها المالية)، ويحركون على نحوٍ أو آخر نشاطات المال لـ(البنك الإسلامي) الوحيد في الأردن، علماً بأنهم لا يملكون هذا البنك لكنه يدعم أعمالهم، ويموِّل الكثير من (تعاملاتهم الشرعية)..
ويُدار العمل الاجتماعي والخيري للجماعة الإسلامية من قبل جمعية مركزية خيرية عملاقة تعتبر دون منازع الجمعية الأكثر أهمية في الأردن، وهي تشكل العصب الحيوي للتيار، وصاحبة الفضل الأساسي في إمبراطورية العمل الخيري والاجتماعي في البلاد.. وتُسمى الجمعية «المركز الإسلامي»، وتقدّر أصولها المالية وعملياتها الاستثمارية بـ(100) مليون دينار أردني (150 مليون دولار).. وتدير هذه (الجمعية الخيرية) أعمالها على أُسس تجارية واستثمارية بحتة، وتنفق على نشاطاتها من عوائد استثمارين عملاقين هما (المستشفى الإسلامي) في عمّان وبقية المدن، وهو من أهم مشافي القطاع الخاص في الأردن، ومدارس (دار الأرقم)، وهي من أهم شركات الاستثمار في المجال التعليمي.
وفي (المشفى الإسلامي) كادر كبير من الأطباء والممرضين والإداريين الذين ينتمون لتيار الجماعة الإسلامية، أما (مدارس الأرقم) فتوفر (فرص عمل) لشباب الجماعة المؤهلين تربوياً والذين يعمل بعضهم –أيضاً– في مدارس التربية والتعليم الحكومية، وفي المستشفى تعمل نخبة من أهم (الأطباء الإسلاميين) وأشهر المتخصصين في مجال الأعصاب والنسائية والأمراض الباطنية ومجال طب الأطفال.. ويتميز الأطباء الإسلاميون (بسمعة طيبة) في وسط الجمهور دون غيرهم.. وتشير مطبوعات (الجمعية الخيرية) أن مبلغ الإعفاءات التي دُفعت من قِبل (صندوق الفقير) التابع للمستشفى، ولسنة واحدة فقط، تجاوز (5.000.000) دولار دُفعت بدل مرضى فقراء لم يستطيعوا دفع فواتير علاجهم.. كما توفر الجماعة الإسلامية عبر (صندوق المريض) للفقير علاجاً مجانياً إذا أثبت المواطن ضعف حالته المالية، أما (مدارس الأرقم) فتتعامل و(تدعم) سلسلة كبيرة من المدارس الإعدادية والثانوية والابتدائية ومدارس رياض الأطفال التي وفرت التعليم لعشرات الآلاف من التلاميذ، وتتمتع هذه المدارس بسمعة طيبة للغاية بين مدارس القطاع الخاص.. وفي المجال التعليمي –أيضاً– تسيطر الجماعة الإسلامية على إدارة كليتين متوسطتين، إضافة إلى جامعة تابعة للقطاع الخاص هي (الجامعة الهاشمية).
ويشير التقرير السنوي للجمعية الخيرية عن وجود عشرات النشاطات والفروع تابعة للجمعية في مختلف محافظات الأردن، أما العاصمة عمّان فتحتضن وحدها (20) فرعاً.. وتقوم هذه الفروع جميعها بنشاطات مختلفة ضمن خطط تنسيقية موحدة تشمل: (كفالة الأيتام)، و(جمع الزكوات)، وتحصيل (التبرعات المحلية)، ومراكز لـ(جمع الصدقات)، وبناء (المستوصفات)، وإنشاء (مراكز التدريب المهني)، ودور (الرعاية الاجتماعية)، و(المدارس الإسلامية).. وفي جميع الفروع أُقيمت (مساجد صغيرة)، فيما تعمل داخل كل فرع عدة (لجان شعبية) تتألف من (3 – 5) أشخاص في نطاق الحي، أو المنطقة، أو القرية، أو الضاحية الواحدة، وتعمل بأسلوب (الخلايا) الصغيرة المنظمة.
و(جمعية المركز الخيرية) ليست وحدها في تيار الجماعة الإسلامية، لكنها الأهم، ومعها تعمل (العشرات) من الجمعيات والمراكز غير المعلنة باسم الجماعة لكنهم يسيطرون عليها، وتدير الجماعة الإسلامية –أيضاً– جمعيات (تحفيظ القرآن) المنتشرة في مختلف المدن والمحافظات، ويديرون –أيضاً– أكثر من (100) لجنة مختصة بجمع (الزكاة والصدقات)، فضلاً عن وجودهم المستتر في اللجان الحكومية لنفس الغرض.
وتدير جمعية (عز الدين القسّام الخيرية) التابة للجماعة الإسلامية نشاطات اجتماعية وخيرية – خاصة في مجال رعاية وكفالة الأيتام، وتشير التقارير إلى أن هذه الجماعات تنفق على عدد كبير من الأيتام (يفوق) كثيراً (دور الأيتام) التابعة للدولة، كما أنهم يديرون لجاناً لجمع التبرعات للفلسطينيين، ولدعم العراق والسودان وليبيا، واستطاعوا استقطاب وجهاء العشائر وقادة بعض القبائل.
الحضور الاجتماعي
وفي إطار سعي الجماعات الإسلامية لـ(الإحاطة بكافة مناحي الحضور الاجتماعي) كونوا (جمعية العفاف) المتخصصة بشؤون الزواج، وهي جمعية ذات سمعة دولية بسبب نشاطاتها في ابتكار أسلوب (الزواج الجماعي)، ونظمت هذه الجمعية عدة حفلات للزواج الجماعي ربطت أكثر من (400) عائلة أردنية مع بعضها البعض، في سنة واحدة.
وأخيراً، استعرضت الجماعة الإسلامية عضلاتها التنظيمية فنظمت (حفل إفطار أيتام) ضم (1000) يتيم دفعة واحدة، (تحدياً) لنشاطات مماثلة لمؤسسات الدولة التي نظمت إفطارات ضمت (200) يتيم على الأكثر.. وقالوا إنهم خططوا لضم (5000) يتيم في حفل إفطار جماعي لولا مضايقة الحكومة لهم.. وأخيراً تتحدث التقديرات عن وجود أكثر من (500) جمعية ولجنة وهيئة ومؤسسة خيرية تشرف عليها الجماعات الإسلامية –بشكل أو بآخر– عبر الأردن.
إن الدرس المُستفاد –من استعراض التجرية المصرية والأردنية– هو أن الجماعات الإسلامية وتأثيرها على المشهد السياسي في الدول، وقدرتها على التغلغل في بنية المجتمعات العربية والإسلامية ليس بـ(الضرورة) أن يأتي عبر (البوابة السياسية) الواضحة للجميع عن طريق الانتخابات، أو عبر (البوابة الثقافية) من خلال الكتاب والشريط والمحاضرة، أو عبر (البوابة الإعلامية) من خلال الصحيفة والبرنامج الإذاعي أو التلفازي، أو عبر (البوابة الدعوية) من خلال المسجد والمنبر، أو (البوابة التعليمية) عبر المناهج والمعلمين.
إنما يمكن أن يأتي هذا التأثير الهائل، والتغلغل العميق، للجماعات الإسلامية في المجتمع، ومن ثم تحقيق أهدافها (أجندتها) عبر (البوابة الهادئة) التي لا يلحظها المراقب عن بُعد، ولا تُحدث (ضجيجاً) يُلفت الانتباه لها، ومع ذلك قد يكون لها التأثير الأبلغ، والتغلغل الأعمق، والتمدد الأوسع في شرايين المجتمع، والوصول لمختلف الشرائح من المواطنين – خاصةً الشباب والفتيات.. إنها البوابة الأوسع: (بوابة العمل الاجتماعي والخيري والتطوعي والإنساني).. هذا ما يجب أن (يفطن) إليه الساسة، ويعملوا على التعاطي معه إما بـ(الاحتواء)، أو (الحذر)، أو (التوجيه).