كتاب ومقالات

تناقضات شيخ الدم

أشواك

عبده خال

في ظل التقلبات السياسية الراهنة تقبع المجتمعات العربية بين خطابين متنازعين، هما الخطاب السياسي والخطاب الديني، وكل منهما يستهدف جمع الأتباع والمؤيدين وفي هذه المنافسة تكون خسائر الخطاب الديني أكثر وضوحا لاختلاف تثمين المشاهد للخطابين، فسقوط السياسي لا يعد فشلا ذريعا؛ إذ إن السياسة حالة متغيرة ويمكن تكيف ذلك السقوط وتبريره مع مجريات تلك المتغيرات، بينما سقوط الخطاب الديني لا يتم التسامح معه كون النظرة للداعية الممتهن للسياسة نظرة طوباوية لا تقبل منه تلونات وخروقات وألاعيب السياسي.

ومن نافلة القول إن موقف السياسي متغير تحكمه توازنات ورؤية تتأسس صرامتها في تسيير مصالح الدولة من أجل جني مكاسب وطنية ويكون تحركه الداخلي قائما على إيجاد آليات تفاعلية بين أفراد وأطياف مجتمعه والتعامل مع جميع الأطياف والوقوف معها في تحقيق رغباتها؛ إذ إن تحركاته تكون متخففة من آحادية النظرة ولا يحمل تفريقا عقائديا أو مذهبيا بين أفراد المجتمع وهدفه هدف متقلب وفق ظرفية العملية السياسية، بينما خطاب رجل الدين السياسي يكون خطابا آحاديا يتحرك وفق منظومة فكرية محددة لا تقبل النقض أو الاستبدال، كون الوعاء الذي يتحرك فيه يقدس قيما أخلاقية لا يمكن اختراقها بالتلون أو الانتقال من قيمة أخلاقية إلى قيمة أخلاقية مقابلة على الأقل في ذهنية التابع لذلك الخطاب، ولهذا نشاهد سقوط رجال دين اشتغلوا بالسياسة كموجهين، والنموذج الأبرز في هذا المجال يمثله الدكتور يوسف القرضاوي الذي كان عرابا لثورات الربيع العربي يساندها بالفتوى وجواز الخروج على الحاكم حتى أنه تجرأ بفتوى هدر دم زعماء مسلمين كالقذافي وبشار الأسد علانية ومن غير تحرز في مسألتين تعدان من جوهر معتقدات أهل السنة والجماعة، وهي عدم جواز الخروج على الحاكم والوقوف الصارم من سفك دم المسلم والتشديد في حرمة ذلك.

ومع جريان المتغيرات السياسية كان خطاب الدكتور القرضاوي يتكشف عن جوهره الإخواني، وهو جوهر جماعة سياسية وليس جوهر الدين.

ولأن السياسة متغيرة نجد أن من دخل مرتديا اللبوس الديني قد تورط في تلك المتغيرات، فاصطفاف التيارات الإسلامية السياسية قائم في الأساس على محاربة العدو، وهي الفكرة التي استفادت منها أمريكا في محاربة الاتحاد السوفيتي وإسقاطه - في زمن الحرب الباردة - وعندما انكشفت اللعبة للتيارات الإسلامية استبدلت العدو بأمريكا والغرب وبالغت (هذه التيارات) في تكفير أي سياسي يستعين بالغرب المسيحي، وجميعنا يذكر ماذا حدث في الحرب ضد صدام بعد احتلال الكويت وكيف تم تلوين العالم الإسلامي بكفرة ومؤمنين، وهذا التصنيف كان معتمدا على الموقف من الاستعانة بالغرب، هذه الحدية من الآخر (العدو الغربي) تغيرت تماما مع مقدم ثورات الربيع العربي، فالقرضاوي ذاته أيد تلك الثورات تأييدا يتنافى مع جوهر خطابه الديني؛ إذ كان أكثر المتحمسين لتدخل الناتو في ليبيا، ولم يقف تحمسه عند هذا الحد بل قال: «لو بُعث محمد صلى الله عليه وسلم من جديد لوضع يده بيد الناتو».

وقد أكد الاستعانة بالعدو الأول مرة أخرى شاكرا لأمريكا صنيعها حين قال في إحدى خطبه: (نشكر الولايات المتحدة الأمريكية على تقديمها السلاح للمقاتلين بقيمة 60 مليون دولار، ونطلب المزيد).

ونذكر منافحته عن الحكم الإخواني في تركيا، وفي كل الحالات كان الدكتور القرضاوي يسير مع خطاب جماعته وليس مع جوهر الخطاب الديني الحق.

وآخر مواقفه كان إصدار فتوى بتحريم استجابة الشعب المصري لدعوة الفريق أول عبدالفتاح السيسي للتظاهر اليوم لتفويضه بالتصدي «للإرهاب».

ولا يمكن لمتابع فتوى الدكتور القرضاوي إلا اكتشاف تناقضاته في استخدام الخطاب الديني المسيس، فكما أجاز الخروج على الحاكم إبان الثورات العربية لماذا حرم الخروج على الدكتور مرسي.. وقد نجد العذر لتلونات خطاباته كون الإخوان (جماعته) طرفا في كل الحالات، فهم من خرج في تظاهرات ملأت العواصم العربية رافضة إخراج صدام حسين بواسطة الغرب وهم من يطالبون الغرب الآن بنصرة كل الثورات الإخوانية..

****

عليّ الاعتراف أن هذه المقالة كتبت إبان الثورات العربية حينما كان صوت الدكتور يوسف القرضاوي يحرق الدنيا بمساندته لثورات الإخوان في كل العالم العربي ويحرض على القتل وسفك الدم، حينها أطلقت عليه شيخ الدم، ولكن لم يكن الواقع راضيا عن نشر المقال؛ ولأن الحق غلاب ها هو شيخ الدم يقع في مصيدة داعمي الإرهاب، وسوف أجد نفسي مصدقا لما كتبت قبل سقوط الأقنعة.. لذلك سوف أحرص على نشر المقال كما هو (ليكون ابن وقته الماضوي) وابن وقته الآن تصديقا لما جاء في المقال فقط أغير العنوان من (تناقضات القرضاوي) إلى عنوان (تناقضات شيخ الدم القرضاوي).