كتاب ومقالات

القضية الفلسطينية.. ضمير العالم ووجدانه

طلال صالح بنان

في الوقت الذي تتراجع فيه القضية الفلسطينية في سلم أولويات المنطقة، بل حتى عند بعض الفلسطينيين أنفسهم؛ نتيجة ما يعتري المنطقة من تطورات غير تقليدية مستعرة فرضها واقع عنيف وغير مستقر، نجد أن القضية الفلسطينية ما زالت تفرض حقيقتها الأخلاقية والإنسانية على ضمير العالم، ووجدانه الحر.

يوم الخميس الماضي وقف المندوب الإسرائيلي في جلسة لمنظمة اليونسكو أكدت فيها إنكار أحقية اليهود في مدينة القدس، طالباً في نهاية كلمته الوقوف دقيقة صمت على أرواح ما زعم من ستة ملايين يهودي راحوا ضحية المحرقة المزعومة، التي ارتكبها النازي أثناء الحرب الكونية الثانية! انبرت مندوبة كوبا لهذا التجاوز من قبل المندوب الإسرائيلي لبروتوكول العمل في داخل المنظمة، ولمحاولته الخبيثة لتسييس المسألة، قائلة: إنه لا يحق للمندوبين أن يطلبوا الوقوف دقيقة صمت، وإن ذلك فقط من حق رئيس اللجنة. ومن ثَمّ طلبت بالمقابل: الوقوف دقيقة صمت على أرواح الفلسطينيين الذين سقطوا نتيجة الاحتلال الإسرائيلي.. وما كان من الحضور إلا أن وقفوا.. وضجت القاعة بالتصفيق.

موقف يعكس مدى الرسوخ الأخلاقي والتجذر الإنساني في ضمير العالم ووجدان الإنسانية للقضية الفلسطينية. موقف المندوبة الكوبية هذا ما كان يفوت على المندوبين العرب، أيام كانت القضية الفلسطينية، بحق، هي القضية المركزية للعرب، بل وللعالم الحر. أما الآن، وقد توارت القضية الفلسطينية، في سلم أولويات النظام العربي الرسمي، لا يُستبعد أن بعض المندوبين العرب الحضور في تلك الجلسة استجابوا، بوعي أو من غير وعي، لطلب المندوب الإسرائيلي لتأبين ضحايا ما يسمى بالهولوكوست! وأنهم بالتأكيد: أصيبوا بالحرج من موقف مندوبة كوبا، ولم يكن أمامهم سوى الاستجابة لطلبها بالوقوف دقيقة صمت على أرواح الفلسطينيين، الذين سقطوا وروت دماؤهم الطاهرة أرض فلسطين المرابطة، لأكثر من 70 عاماً، من الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

هذا التصرف الواعي (العالي المهنية) لمندوبة كوبا في اليونسكو، يثبت جلياً التفوق الأخلاقي والإنساني والقِيَمِي للقضية الفلسطينية، بما يفوق اهتمام أصحابها بها.. ويهدم الفرضية السائدة في كثير من الأوساط السياسية، في المنطقة والعالم، القائلة: إن القضية الفلسطينية هي قضية فلسطينية بامتياز! وأن العالم ليس له إلا أن يقبل بما يقبل به الفلسطينيون، أو بعضهم، نتيجة لمفاوضات مباشرة وغير متكافئة مع الصهاينة.

كما أن هذا الموقف من مندوبة كوبا في اليونسكو يؤكد التزام العالم السياسي والأخلاقي بالقضية الفلسطينية، حتى لو اضطر أصحابها للتنازل عن بعض استحقاقاتها؛ فالقضية الفلسطينية لن يقبل العالم بأن تُختزل لتصبح قضية صراع محدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

إذا كان للدول وللأنظمة السياسية قراراتها التي تعكس مصالحها المتغيرة غير الثابتة، فإن لضمير العالم ووجدانه، المتمثل في خيارات الشعوب وإرادتها الحرة، ثوابته الأخلاقية والوجدانية والإنسانية، التي لا يستقيم استقرار العالم وسلامه، إلا باحترامها ووضعها بين حساباته.

قد لا يكون من قبيل المصادفة أن يأتي تصرف مندوبة كوبا في اليونسكو، المعبر عن وجدان الإنسانية وضميرها تجاه القضية الأخلاقية الأولى في عالم اليوم، متزامناً مع سلوك آخر حدث في الوقت نفسه وله علاقة مباشرة بالقضية نفسها، إلا أنه يعكس منطق الدول ومصالحها؛ إذ في الأسبوع نفسه، قام رئيس وزراء الهند مارنديرا مودي بأول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لإسرائيل. تطور نوعي في علاقات إسرائيل الدولية والإقليمية، لا شك في أهميته السياسية والإستراتيجية لإسرائيل. الهند بتاريخها الحافل بدعم القضية الفلسطينية يزور رئيس وزرائها إسرائيل لأول مرة، دون أن يفكر في زيارة رام الله، حتى لو «صورياً» من باب الدعم التاريخي لقضية الشعب الفلسطيني، الذي طالما حظيت به من الهند «صديقة» الفلسطينيين والعرب!

مثل هذه السلوكيات الرسمية، التي يبدو أنها تطور في صالح «شرعنة» وجود الدولة العبرية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، هو ما شجع المندوب الإسرائيلي في اليونسكو أن يحول النقاش ويسيسه في جلسة لها علاقة بممارسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، إلى مسألة جدلية تصل لحد الأسطورة، استغلالاً لغفلة من العالم عن القضية الفلسطينية، ظناً منه ومن يدعم كيان دولته، أنه في صدد إعلان انتصار أخلاقي لأسطورة الهولوكوست على حقيقة القضية الفلسطينية المترسخة في ضمير العالم ووجدان الإنسانية.

التاريخ لا يأخذ بالأساطير، وإن أوردها فإنه يذكرها كما هي (أساطير). التاريخ لا يدون في صفحاته إلا الحقائق، حتى ولو كتبه في غفلة من ضمير العالم ووجدانه، قوى الشر، التي يخيل لها في عصور الظلام والغفلة، أنها انتصرت على الحق والحقيقة.

القضية الفلسطينية ستبقى حية في ضمير العالم ووجدانه، وفي ذاكرة وحركة الشعب الفلسطيني وقوى الحق والحريّة في العالم. إسرائيل، في المقابل: ستظل كياناً «لقيطاً»، من سقط متاع التاريخ، يفتقر لأدنى مقومات الشرعية الأخلاقية والسياسية والتاريخية والجغرافية.