المستقبل الغامض للبنان ومؤسساته الأمنية
الثلاثاء / 24 / شوال / 1438 هـ الثلاثاء 18 يوليو 2017 00:49
أحمد عدنان
حين أوقفت الحكومة السعودية هبتها المليارية للجيش اللبناني في فبراير 2016، أعلن البيان الرسمي أن السبب هو الموقف الحكومي اللبناني الرافض للتضامن مع المملكة بعد اعتداء إيران على البعثة الدبلوماسية في طهران ومشهد، وقال البيان أيضا إن العلاقات السعودية ــ اللبنانية ستخضع لمراجعة شاملة.
وجد القرار السعودي ــ آنذاك ــ تفاعلات جارفة، أهمها أن الاستثمار في الجيش هو الخيار الوحيد لتحجيم الميليشيا المسماة بحزب الله أو استئصالها، وأن هذه النظرية هي التي دفعت المملكة أصلا لتقديم الهبة المليارية، وبعض التفاعلات رأت أن المملكة بقرارها وضعت الجيش تحت رحمة الحزب الإلهي ودفعت لبنان نحو الهاوية الإيرانية.
العودة لموضوع الهبة مهم بعد فاجعتين، الأولى قيام مدير مخابرات جنوب لبنان بتنظيم زيارة لطلاب الكلية العسكرية إلى «متحف» تابع لحزب الله يروي انتصارات الحزب وأمجاده، فالجيش يجب أن يعلو ولا يعلى عليه، والثانية هي ما جرى في عرسال قبل برهة، حيث داهم الجيش اللبناني مخيم النور بعد قيام 5 لاجئين بتفجير أنفسهم، وتم اعتقال 350 شخصا هم سكان المخيم، اتهم 40 منهم بالإرهاب، والمؤسف أن عددا منهم (4 أو 6) ماتوا في ظروف غامضة، فجثثهم مشوهة ومدموغة بآثار تعذيب مريع.
إن إيقاف الهبة سبقته علامات ــ وفق دبلوماسي خليجي سابق ــ : تمنيات غير مباشرة بإنهاء ما يسمى بسرايا المقاومة التي أوغلت في السنة إذلالا وتنكيلا، وإنهاء سياسة التمييز الواضحة بين أنصار حزب الله وأنصار خصومه، فتكون الحرب على الإرهاب جدية لا وسيلة لتغيير ديمغرافي ــ كما يخطط حزب الله لقرية عرسال الحدودية السنية وسط الشريط الشيعي ــ أو تصفية لحسابات طائفية وسياسية أو لافتة لتنفيذ أهداف إيرانية طامعة وهدامة أهمها تحويل لبنان لقاعدة تستهدف دول الخليج والعرب، وتحدث وزير الخارجية عادل الجبير عن الحكم المائع الذي أصدرته المحكمة العسكرية على الإرهابي الموالي لسورية ميشال سماحة المدان باستهداف شخصيات أمنية وسياسية ودينية لبنانية ــ تستثني العلويين والشيعة ــ تنفيذا لتوجيهات بشار الأسد.
في تلك المرحلة أيضا ازدادت سخونة ملف الضوابط الاقتصادية الأمريكية على لبنان، وسببها توقيف شبكة دولية تابعة لحزب الله تنشط في غسل الأموال والاتجار بالمخدرات، ويشمل نشاط هذه الشبكة: فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، الولايات المتحدة وغير دولة في القارة اللاتينية، إذ تم القبض على عناصر تنتمي صراحة لحزب الله، منهم محمد نور الدين وعلي زبيب ومازن الأتات وأسامة فحص، وأخيرا أوقف رجل الأعمال اللبناني قاسم تاج الدين في المغرب.
أساس الضوابط الاقتصادية ــ وهي في حقيقتها عقوبات على حزب الله ــ قيام الحزب الإلهي بغسل الأموال وترويج المخدرات على المستوى الدولي، ويشرف على الملف «قسم الأعمال التجارية في جهاز الأمن الخارجي التابع لحزب الله»، وهو شعبة ضمن الحزب الإلهي مهمتها تمويل شراء الأسلحة ونشاطات الحزب في لبنان وسورية والعراق واليمن ودول الخليج، وقد أسس هذا الذراع «التجاري» الإرهابي عماد مغنية المغتال قبل سنوات في دمشق، وأداره عبدالله صفي الدين وأدهم طباجة.
العلاقة بين الضوابط الاقتصادية على لبنان وأداء الجيش وبقية أجهزة الأمن ستصبح مثار تساؤل في القريب، خصوصا مع التقسيم الطائفي غير الرسمي لأجهزة الأمن اللبنانية، إذ يتم تمويل وتسليح الميليشيات الإيرانية في سورية عبر بابين: الحدود العراقية والحدود اللبنانية، وحين تتوالى الأسئلة يجب على الأجهزة الأمنية في لبنان وفي العراق تقديم إجابات مقنعة، فهذا التمويل والتسليح الذي يمر أمام أعين الجميع منبعه دماء الأمريكيين والأوروبيين الذين قتلتهم المخدرات.
هذا الملف المعقد مرتبط بملف ساخن، الصحوة الإقليمية والدولية إزاء نشاطات قطر الداعمة للإرهاب، فتمويل قطر للحشد الشعبي في العراق بمئات الملايين ــ والذريعة تحرير 26 صيادا قطريا ــ لإحداث القلاقل شرق السعودية، له سوابق مشابهة مع الحزب الإلهي، ودخول عناصر إرهابية تنتمي إلى داعش والقاعدة بجوازات سفر قطرية إلى المملكة سبقه دخول عناصر لبنانية تنتمي لحزب الله إلى البحرين بجوازات سفر قطرية أو بجوازات لبنانية سليمة لكنها غير صحيحة، وهذه الممارسات لها ما يشبهها في اليمن لدعم الحوثيين، وفي هذا الباب نلاحظ تقاطع قطر مع الميليشيات الإيرانية على أمن السعودية والخليج.
في العهد الأمريكي الأوبامي، كان هناك تغاض متعمد على الإرهاب المنتسب زورا للشيعة، مقابل دحر الإرهاب المنتسب زورا للسنة، وهذه النظرية أثبتت فشلها، لأنها قوت الإرهابيين معا، وكانت أهم مخرجات القمة السعودية العربية الإسلامية الأمريكية في الرياض عدم التمييز بين إرهاب وإرهاب وأن الحرب على الإرهاب يجب أن لا تستثني أحدا، وهذه الخلاصة ستضع الجيش اللبناني في مأزق، إذ إن التعاون العلني القائم بين الجيش والحزب الإلهي لن يصبح مستساغا، والواضح أن قتلى عرسال لم يكونوا ضحايا الجيش اللبناني ــ رغم كونهم في عهدته ــ بل ضحايا حزب الله، وهذا أخطر، فقد أعطت هذه الضبابية دفعة معنوية للتطرف، وأضفت المصداقية على الزاعمين بأن الجيش قناع للحزب الإلهي وأجندة إيران، ومزاج الشارع السني تغير، فالدعم المطلق للجيش أصبح مشروطا، والثقة المطلقة غلبها الارتياب، والسني العادي فسر الموقف بتراكم أحقاد التعصب الماروني والشيعية الخمينية على الاعتدال السني، كما فعل نوري المالكي في العراق يوم حارب السنة بدلا من مكافحة الإرهاب، وما كانت حملة التشنيع على اللاجئين السوريين التي تبناها التيار الوطني الحر إلا امتدادا لحملته التاريخية على السنة وضغطا على الدولة اللبنانية للتواصل مع بشار الأسد مجددا كما قال رضوان السيد، مع العلم بأن المساعدات الدولية والعربية التي نالها لبنان بشأن اللاجئين فاقت حصة تركيا والأردن.
مر الجيش اللبناني بمرحلتي تأسيس، الأولى قام بها فؤاد شهاب، الذي أسس جيشا على أسس غربية حديثة، كان ميل أي عسكري لأي جهة سياسية كفيلا بإزاحته مهما كان متفوقا، وحتى حين قام الرائد سعد حداد بالانشقاق خلال الحرب الأهلية وتأسيس «جيش لبنان الحر» المناهض للفلسطينيين أغلق جيشه في وجه العناصر المسيسة.
التأسيس الثاني تم على يد العماد إميل لحود، وهنا اختل معيار حياد الجيش عن السياسة لعوامل مفهومة، منها الوصاية السورية على لبنان، ومنها الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، ومنها أن حزب الله قبل سنة 2005 حظي بشعبية لبنانية وعربية حقيقية قبل انكشاف نواياه، ومنها الفرق بين شهاب ولحود.
حظي الجيش بتطور إيجابي حين خلف لحود العماد ميشال سليمان الأقرب لمدرسة فؤاد شهاب، ويحسب لسليمان دعم ثورة الأرز بحياد الجيش، ويحسب له مواجهة تنظيم فتح الإسلام الإرهابي بتغطية وتوجيه الرئيس فؤاد السنيورة.
اليوم، يتعرض الإجماع الوطني على الجيش اللبناني لتحديات حقيقية، ومهما كانت المبررات، يبدو مستغربا لأصدقاء الجيش والأجهزة الأمنية قبل خصومهم، الأمن الانتقائي المعتمد خلال سنوات مضت، فلم يبذل أي جهد حقيقي لتوقيف المطلوبين للمحكمة الدولية بعد اتهامهم باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه من ثوار 14 آذار لأن المتهمين من حزب الله، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتوقيف محمود حايك (عنصر الحزب) المطلوب من القضاء اللبناني لاتهامه بمحاولة اغتيال النائب بطرس حرب، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتوقيف قتلة الشابين زياد غندور وزياد قبلان الذين يؤويهم حزب الله، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتحديد وتوقيف عنصر حزب الله الذي قتل النقيب الطيار سامر حنا، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتحديد مصير موظف المطار المختطف في الضاحية (جوزيف صادر)، وتم طي ملف تفجير انطلياس 2011 لأن انتحارييه كانوا من حزب الله. والسؤال الأساس: كيف يتعاون الجيش مع ميليشيا قتلت من المسلمين والمسيحيين اللبنانيين على الأقل 4 عسكريين و5 نواب وصحافيا ووزيرا ورئيس حكومة ورئيس حزب، واحتلت بيروت وروعت الجبل؟!، مع أن الحل المنطقي هو استدعاء قوات دولية جديدة لتأمين الحدود الشرقية كما هو الحال مع الحدود الجنوبية.
الشواهد السابقة لا يتحمل مسؤوليتها الجيش منفردا، لكن حين نقرأ حالات أخرى، تضافرت القوى الأمنية ــ على حق ــ لمواجهتها، مثل أحداث النهر البارد وحالة الإرهابي أحمد الأسير والإرهابيين الفارين إلى المخيمات الفلسطينية، ونضيف المقارنة بين التعامل الصارم مع قرية عرسال السنية في قضاء بعلبك ــ الهرمل أمام التهاون مع عصابات الخطف والسرقة والتهريب والمخدرات من طائفة أخرى في نفس القضاء، يحق للمراقبين طرح الأسئلة.
واجهت الأجهزة الأمنية اللبنانية إرهابيين ينتمون لدول عربية وخليجية، كل هؤلاء الإرهابيين مطلوبون في بلدانهم، ولم تسهل بلدانهم أو تشجع دخولهم للبنان، وفي المقابل فإن عناصر لبنانية دخلت إلى دول الخليج، بجوازات سفر لبنانية صحيحة وغير صحيحة أو بجوازات قطرية للتجسس والإرهاب، وهؤلاء يحاكمون ويلاحقون ــ هذه الأيام ــ في السعودية والإمارات والبحرين والكويت واليمن، والمشكلة الصارخة أن هؤلاء ينتمون لحزب الله الشريك في الحكومة وفي البرلمان والمتغلغل في بعض الأجهزة الأمنية والعسكرية وبعض القصور السيادية.
نفد صبر دول الخليج على قطر وما بينهما أعمق وأكبر وأكثر مما يجمع دول الخليج بلبنان، ومع ذلك فإن أمن الدول المكافحة للإرهاب كان أهم من قواسم الجوار والمصير، ولم يقبل أحد أن تكون ذريعة السيادة القطرية سببا لتمويل الإرهاب وتشجيعه، وفي المستقبل القريب لن تشفع ذريعة حماية الوحدة الوطنية لتساهل الدولة اللبنانية مع حزب الله. لماذا تكون محاربة الإرهاب «السني» تعزيزا للسلم الأهلي بينما تكون محاربة الإرهاب «الشيعي» تهديدا للوحدة الوطنية؟!. هذا السؤال يحدد هوية داعمي الإرهاب وخصومه الصادقين، ويحدد هوية من يريد إخراج السنة من منطق الدولة والاعتدال إلى هستيريا الفوضى والتطرف.
التسوية السياسية التي أعادت الأنفاس للدولة اللبنانية أثبتت فشلها بعد تهاوي مبرراتها، حزب الله ضاعف هجومه على دول الخليج وأصبح يتحدث علنا عن مؤامراته ويهدد لبنان باستيراد ميليشيات جديدة من العراق وإيران، وتوثقت علاقته بحلفائه بدلا من إضعافها، واستبد بالدولة أكثر بدلا من الانفصال عنها أو الخضوع لها، ثم يصدر تصريح رسمي يقول «الجيش اللبناني ضعيف وحزب الله ضرورة» أدى إلى إلغاء زيارة رسمية خليجية رفيعة للبنان وإثارة غضب مجلس الأمن، واستمرار التصريحات الرسمية العنصرية ضد اللاجئين السوريين يثير فزعا دوليا عززته أحداث عرسال الأخيرة، وكل ما سبق سيؤدي إلى تشديد العقوبات الاقتصادية على لبنان (حزب الله خصوصا وحلفائه) وإلى تخفيف الدعم لأجهزته الأمنية وعلى رأسها الجيش، خصوصا بعد الانتهاكات الملموسة للقرار الأممي 1701، وقد تضع الولايات المتحدة خيارا آخر: استمرار دعم الجيش مقابل شروط أقسى ومراقبة أدق ومطالب جديدة على الحزب الإلهي لمصلحة إسرائيل. وهنا لا ننسى غضب الولايات المتحدة من استعراض حزب الله في القصير السورية (نوفمبر 2016) حيث استخدم معدات ثقيلة وهبتها أمريكا إلى الجيش اللبناني فاستخدمها الحزب!.
حزب الله يطمح لتكرار مشهد عراقي، استعراض مشترك بين الجيش النظامي والحشد الشعبي الذي تم تشريعه برلمانيا، ومن أجل ذلك نجح في إقرار قانون انتخابي يؤمن له أغلبية نيابية بعد أن أتى برئيس من حلفائه، لكن ما يغيب عن الحزب الإلهي، أن الكيل بمكيالين هو عين السياسة الأمريكية خصوصا مع التصاق الحزب بحدود إسرائيل، وأن الأغلبية البرلمانية المنتظرة ستمزق الغشاء الرقيق بينه وبين الدولة، الغشاء الذي حمى الحزب وحمى الدولة من غضب العرب والغرب.
حين طلب دبلوماسي خليجي مرموق من بعض قادة 14 آذار التحالف مجددا لمواجهة حزب الله، أجابوا بأنهم يريدون تعهدا صريحا بالدعم الشجاع والشامل والدائم في المعركة، خصوصا أن إهمال لبنان منذ بدأ الربيع العربي بسط النفوذ الإيراني في بلادهم وخنقهم، لكن ما غاب عن الطرفين أن المسألة لبنانيا وإقليميا تجاوزت «الصراع في الدولة» إلى «الصراع على الدولة»، فلا بد من فك الارتباط نهائيا بين الحزب الإلهي والدولة اللبنانية.
الجيش اللبناني يجب صونه من الانقسام وتكريس ارتقائه كأيقونة وطنية جامعة لكل اللبنانيين، وكل الدعم مستحق له في مواجهة داعش والقاعدة، والتنبه هنا واجب؛ فالربط العنصري التعسفي بين اللاجئين والإرهاب سيضاعف الإرهابيين، والتمييز بين الإرهاب الإيراني وغيره سيوسع المناخات الحاضنة للإرهاب، وأي انسياق خلف مزاعم إيران بأن السنة كلهم ووحدهم إرهابيون سيؤدي إلى الانهيار.
من نتائج قمة الرياض، أن حزب الله سيعامل إقليميا ودوليا تماما كمعاملة داعش والقاعدة، وعلى الدولة اللبنانية أن تتأهب للقيام بمسؤولياتها مهما كانت قاسية ومؤلمة، وإن عجزت عن ذلك ليس عيبا أن تطلب مساعدة الدول الداعية لمكافحة للإرهاب (السعودية، مصر، الإمارات والبحرين) تحت غطاء الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، وإلا فإن السيناريو الأسوأ أن يتم التعامل مع لبنان لا كدولة ذات سيادة إنما كقاعدة لميليشيا حزب الله الإرهابية.
وجد القرار السعودي ــ آنذاك ــ تفاعلات جارفة، أهمها أن الاستثمار في الجيش هو الخيار الوحيد لتحجيم الميليشيا المسماة بحزب الله أو استئصالها، وأن هذه النظرية هي التي دفعت المملكة أصلا لتقديم الهبة المليارية، وبعض التفاعلات رأت أن المملكة بقرارها وضعت الجيش تحت رحمة الحزب الإلهي ودفعت لبنان نحو الهاوية الإيرانية.
العودة لموضوع الهبة مهم بعد فاجعتين، الأولى قيام مدير مخابرات جنوب لبنان بتنظيم زيارة لطلاب الكلية العسكرية إلى «متحف» تابع لحزب الله يروي انتصارات الحزب وأمجاده، فالجيش يجب أن يعلو ولا يعلى عليه، والثانية هي ما جرى في عرسال قبل برهة، حيث داهم الجيش اللبناني مخيم النور بعد قيام 5 لاجئين بتفجير أنفسهم، وتم اعتقال 350 شخصا هم سكان المخيم، اتهم 40 منهم بالإرهاب، والمؤسف أن عددا منهم (4 أو 6) ماتوا في ظروف غامضة، فجثثهم مشوهة ومدموغة بآثار تعذيب مريع.
إن إيقاف الهبة سبقته علامات ــ وفق دبلوماسي خليجي سابق ــ : تمنيات غير مباشرة بإنهاء ما يسمى بسرايا المقاومة التي أوغلت في السنة إذلالا وتنكيلا، وإنهاء سياسة التمييز الواضحة بين أنصار حزب الله وأنصار خصومه، فتكون الحرب على الإرهاب جدية لا وسيلة لتغيير ديمغرافي ــ كما يخطط حزب الله لقرية عرسال الحدودية السنية وسط الشريط الشيعي ــ أو تصفية لحسابات طائفية وسياسية أو لافتة لتنفيذ أهداف إيرانية طامعة وهدامة أهمها تحويل لبنان لقاعدة تستهدف دول الخليج والعرب، وتحدث وزير الخارجية عادل الجبير عن الحكم المائع الذي أصدرته المحكمة العسكرية على الإرهابي الموالي لسورية ميشال سماحة المدان باستهداف شخصيات أمنية وسياسية ودينية لبنانية ــ تستثني العلويين والشيعة ــ تنفيذا لتوجيهات بشار الأسد.
في تلك المرحلة أيضا ازدادت سخونة ملف الضوابط الاقتصادية الأمريكية على لبنان، وسببها توقيف شبكة دولية تابعة لحزب الله تنشط في غسل الأموال والاتجار بالمخدرات، ويشمل نشاط هذه الشبكة: فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، الولايات المتحدة وغير دولة في القارة اللاتينية، إذ تم القبض على عناصر تنتمي صراحة لحزب الله، منهم محمد نور الدين وعلي زبيب ومازن الأتات وأسامة فحص، وأخيرا أوقف رجل الأعمال اللبناني قاسم تاج الدين في المغرب.
أساس الضوابط الاقتصادية ــ وهي في حقيقتها عقوبات على حزب الله ــ قيام الحزب الإلهي بغسل الأموال وترويج المخدرات على المستوى الدولي، ويشرف على الملف «قسم الأعمال التجارية في جهاز الأمن الخارجي التابع لحزب الله»، وهو شعبة ضمن الحزب الإلهي مهمتها تمويل شراء الأسلحة ونشاطات الحزب في لبنان وسورية والعراق واليمن ودول الخليج، وقد أسس هذا الذراع «التجاري» الإرهابي عماد مغنية المغتال قبل سنوات في دمشق، وأداره عبدالله صفي الدين وأدهم طباجة.
العلاقة بين الضوابط الاقتصادية على لبنان وأداء الجيش وبقية أجهزة الأمن ستصبح مثار تساؤل في القريب، خصوصا مع التقسيم الطائفي غير الرسمي لأجهزة الأمن اللبنانية، إذ يتم تمويل وتسليح الميليشيات الإيرانية في سورية عبر بابين: الحدود العراقية والحدود اللبنانية، وحين تتوالى الأسئلة يجب على الأجهزة الأمنية في لبنان وفي العراق تقديم إجابات مقنعة، فهذا التمويل والتسليح الذي يمر أمام أعين الجميع منبعه دماء الأمريكيين والأوروبيين الذين قتلتهم المخدرات.
هذا الملف المعقد مرتبط بملف ساخن، الصحوة الإقليمية والدولية إزاء نشاطات قطر الداعمة للإرهاب، فتمويل قطر للحشد الشعبي في العراق بمئات الملايين ــ والذريعة تحرير 26 صيادا قطريا ــ لإحداث القلاقل شرق السعودية، له سوابق مشابهة مع الحزب الإلهي، ودخول عناصر إرهابية تنتمي إلى داعش والقاعدة بجوازات سفر قطرية إلى المملكة سبقه دخول عناصر لبنانية تنتمي لحزب الله إلى البحرين بجوازات سفر قطرية أو بجوازات لبنانية سليمة لكنها غير صحيحة، وهذه الممارسات لها ما يشبهها في اليمن لدعم الحوثيين، وفي هذا الباب نلاحظ تقاطع قطر مع الميليشيات الإيرانية على أمن السعودية والخليج.
في العهد الأمريكي الأوبامي، كان هناك تغاض متعمد على الإرهاب المنتسب زورا للشيعة، مقابل دحر الإرهاب المنتسب زورا للسنة، وهذه النظرية أثبتت فشلها، لأنها قوت الإرهابيين معا، وكانت أهم مخرجات القمة السعودية العربية الإسلامية الأمريكية في الرياض عدم التمييز بين إرهاب وإرهاب وأن الحرب على الإرهاب يجب أن لا تستثني أحدا، وهذه الخلاصة ستضع الجيش اللبناني في مأزق، إذ إن التعاون العلني القائم بين الجيش والحزب الإلهي لن يصبح مستساغا، والواضح أن قتلى عرسال لم يكونوا ضحايا الجيش اللبناني ــ رغم كونهم في عهدته ــ بل ضحايا حزب الله، وهذا أخطر، فقد أعطت هذه الضبابية دفعة معنوية للتطرف، وأضفت المصداقية على الزاعمين بأن الجيش قناع للحزب الإلهي وأجندة إيران، ومزاج الشارع السني تغير، فالدعم المطلق للجيش أصبح مشروطا، والثقة المطلقة غلبها الارتياب، والسني العادي فسر الموقف بتراكم أحقاد التعصب الماروني والشيعية الخمينية على الاعتدال السني، كما فعل نوري المالكي في العراق يوم حارب السنة بدلا من مكافحة الإرهاب، وما كانت حملة التشنيع على اللاجئين السوريين التي تبناها التيار الوطني الحر إلا امتدادا لحملته التاريخية على السنة وضغطا على الدولة اللبنانية للتواصل مع بشار الأسد مجددا كما قال رضوان السيد، مع العلم بأن المساعدات الدولية والعربية التي نالها لبنان بشأن اللاجئين فاقت حصة تركيا والأردن.
مر الجيش اللبناني بمرحلتي تأسيس، الأولى قام بها فؤاد شهاب، الذي أسس جيشا على أسس غربية حديثة، كان ميل أي عسكري لأي جهة سياسية كفيلا بإزاحته مهما كان متفوقا، وحتى حين قام الرائد سعد حداد بالانشقاق خلال الحرب الأهلية وتأسيس «جيش لبنان الحر» المناهض للفلسطينيين أغلق جيشه في وجه العناصر المسيسة.
التأسيس الثاني تم على يد العماد إميل لحود، وهنا اختل معيار حياد الجيش عن السياسة لعوامل مفهومة، منها الوصاية السورية على لبنان، ومنها الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، ومنها أن حزب الله قبل سنة 2005 حظي بشعبية لبنانية وعربية حقيقية قبل انكشاف نواياه، ومنها الفرق بين شهاب ولحود.
حظي الجيش بتطور إيجابي حين خلف لحود العماد ميشال سليمان الأقرب لمدرسة فؤاد شهاب، ويحسب لسليمان دعم ثورة الأرز بحياد الجيش، ويحسب له مواجهة تنظيم فتح الإسلام الإرهابي بتغطية وتوجيه الرئيس فؤاد السنيورة.
اليوم، يتعرض الإجماع الوطني على الجيش اللبناني لتحديات حقيقية، ومهما كانت المبررات، يبدو مستغربا لأصدقاء الجيش والأجهزة الأمنية قبل خصومهم، الأمن الانتقائي المعتمد خلال سنوات مضت، فلم يبذل أي جهد حقيقي لتوقيف المطلوبين للمحكمة الدولية بعد اتهامهم باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه من ثوار 14 آذار لأن المتهمين من حزب الله، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتوقيف محمود حايك (عنصر الحزب) المطلوب من القضاء اللبناني لاتهامه بمحاولة اغتيال النائب بطرس حرب، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتوقيف قتلة الشابين زياد غندور وزياد قبلان الذين يؤويهم حزب الله، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتحديد وتوقيف عنصر حزب الله الذي قتل النقيب الطيار سامر حنا، ولم يبذل أي جهد حقيقي لتحديد مصير موظف المطار المختطف في الضاحية (جوزيف صادر)، وتم طي ملف تفجير انطلياس 2011 لأن انتحارييه كانوا من حزب الله. والسؤال الأساس: كيف يتعاون الجيش مع ميليشيا قتلت من المسلمين والمسيحيين اللبنانيين على الأقل 4 عسكريين و5 نواب وصحافيا ووزيرا ورئيس حكومة ورئيس حزب، واحتلت بيروت وروعت الجبل؟!، مع أن الحل المنطقي هو استدعاء قوات دولية جديدة لتأمين الحدود الشرقية كما هو الحال مع الحدود الجنوبية.
الشواهد السابقة لا يتحمل مسؤوليتها الجيش منفردا، لكن حين نقرأ حالات أخرى، تضافرت القوى الأمنية ــ على حق ــ لمواجهتها، مثل أحداث النهر البارد وحالة الإرهابي أحمد الأسير والإرهابيين الفارين إلى المخيمات الفلسطينية، ونضيف المقارنة بين التعامل الصارم مع قرية عرسال السنية في قضاء بعلبك ــ الهرمل أمام التهاون مع عصابات الخطف والسرقة والتهريب والمخدرات من طائفة أخرى في نفس القضاء، يحق للمراقبين طرح الأسئلة.
واجهت الأجهزة الأمنية اللبنانية إرهابيين ينتمون لدول عربية وخليجية، كل هؤلاء الإرهابيين مطلوبون في بلدانهم، ولم تسهل بلدانهم أو تشجع دخولهم للبنان، وفي المقابل فإن عناصر لبنانية دخلت إلى دول الخليج، بجوازات سفر لبنانية صحيحة وغير صحيحة أو بجوازات قطرية للتجسس والإرهاب، وهؤلاء يحاكمون ويلاحقون ــ هذه الأيام ــ في السعودية والإمارات والبحرين والكويت واليمن، والمشكلة الصارخة أن هؤلاء ينتمون لحزب الله الشريك في الحكومة وفي البرلمان والمتغلغل في بعض الأجهزة الأمنية والعسكرية وبعض القصور السيادية.
نفد صبر دول الخليج على قطر وما بينهما أعمق وأكبر وأكثر مما يجمع دول الخليج بلبنان، ومع ذلك فإن أمن الدول المكافحة للإرهاب كان أهم من قواسم الجوار والمصير، ولم يقبل أحد أن تكون ذريعة السيادة القطرية سببا لتمويل الإرهاب وتشجيعه، وفي المستقبل القريب لن تشفع ذريعة حماية الوحدة الوطنية لتساهل الدولة اللبنانية مع حزب الله. لماذا تكون محاربة الإرهاب «السني» تعزيزا للسلم الأهلي بينما تكون محاربة الإرهاب «الشيعي» تهديدا للوحدة الوطنية؟!. هذا السؤال يحدد هوية داعمي الإرهاب وخصومه الصادقين، ويحدد هوية من يريد إخراج السنة من منطق الدولة والاعتدال إلى هستيريا الفوضى والتطرف.
التسوية السياسية التي أعادت الأنفاس للدولة اللبنانية أثبتت فشلها بعد تهاوي مبرراتها، حزب الله ضاعف هجومه على دول الخليج وأصبح يتحدث علنا عن مؤامراته ويهدد لبنان باستيراد ميليشيات جديدة من العراق وإيران، وتوثقت علاقته بحلفائه بدلا من إضعافها، واستبد بالدولة أكثر بدلا من الانفصال عنها أو الخضوع لها، ثم يصدر تصريح رسمي يقول «الجيش اللبناني ضعيف وحزب الله ضرورة» أدى إلى إلغاء زيارة رسمية خليجية رفيعة للبنان وإثارة غضب مجلس الأمن، واستمرار التصريحات الرسمية العنصرية ضد اللاجئين السوريين يثير فزعا دوليا عززته أحداث عرسال الأخيرة، وكل ما سبق سيؤدي إلى تشديد العقوبات الاقتصادية على لبنان (حزب الله خصوصا وحلفائه) وإلى تخفيف الدعم لأجهزته الأمنية وعلى رأسها الجيش، خصوصا بعد الانتهاكات الملموسة للقرار الأممي 1701، وقد تضع الولايات المتحدة خيارا آخر: استمرار دعم الجيش مقابل شروط أقسى ومراقبة أدق ومطالب جديدة على الحزب الإلهي لمصلحة إسرائيل. وهنا لا ننسى غضب الولايات المتحدة من استعراض حزب الله في القصير السورية (نوفمبر 2016) حيث استخدم معدات ثقيلة وهبتها أمريكا إلى الجيش اللبناني فاستخدمها الحزب!.
حزب الله يطمح لتكرار مشهد عراقي، استعراض مشترك بين الجيش النظامي والحشد الشعبي الذي تم تشريعه برلمانيا، ومن أجل ذلك نجح في إقرار قانون انتخابي يؤمن له أغلبية نيابية بعد أن أتى برئيس من حلفائه، لكن ما يغيب عن الحزب الإلهي، أن الكيل بمكيالين هو عين السياسة الأمريكية خصوصا مع التصاق الحزب بحدود إسرائيل، وأن الأغلبية البرلمانية المنتظرة ستمزق الغشاء الرقيق بينه وبين الدولة، الغشاء الذي حمى الحزب وحمى الدولة من غضب العرب والغرب.
حين طلب دبلوماسي خليجي مرموق من بعض قادة 14 آذار التحالف مجددا لمواجهة حزب الله، أجابوا بأنهم يريدون تعهدا صريحا بالدعم الشجاع والشامل والدائم في المعركة، خصوصا أن إهمال لبنان منذ بدأ الربيع العربي بسط النفوذ الإيراني في بلادهم وخنقهم، لكن ما غاب عن الطرفين أن المسألة لبنانيا وإقليميا تجاوزت «الصراع في الدولة» إلى «الصراع على الدولة»، فلا بد من فك الارتباط نهائيا بين الحزب الإلهي والدولة اللبنانية.
الجيش اللبناني يجب صونه من الانقسام وتكريس ارتقائه كأيقونة وطنية جامعة لكل اللبنانيين، وكل الدعم مستحق له في مواجهة داعش والقاعدة، والتنبه هنا واجب؛ فالربط العنصري التعسفي بين اللاجئين والإرهاب سيضاعف الإرهابيين، والتمييز بين الإرهاب الإيراني وغيره سيوسع المناخات الحاضنة للإرهاب، وأي انسياق خلف مزاعم إيران بأن السنة كلهم ووحدهم إرهابيون سيؤدي إلى الانهيار.
من نتائج قمة الرياض، أن حزب الله سيعامل إقليميا ودوليا تماما كمعاملة داعش والقاعدة، وعلى الدولة اللبنانية أن تتأهب للقيام بمسؤولياتها مهما كانت قاسية ومؤلمة، وإن عجزت عن ذلك ليس عيبا أن تطلب مساعدة الدول الداعية لمكافحة للإرهاب (السعودية، مصر، الإمارات والبحرين) تحت غطاء الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، وإلا فإن السيناريو الأسوأ أن يتم التعامل مع لبنان لا كدولة ذات سيادة إنما كقاعدة لميليشيا حزب الله الإرهابية.