كتاب ومقالات

الحج.. رسالة سلام

نجيب يماني

كل عاقل راشد لديه مسكة عقل يرفض الدعوات الملغومة إلى تسييس الحج وتدويله، فالله قد اختار بعناية فائقة من يقوم بخدمة بيته في الأرض وضيوفه الوافدين إليه، بعد دعوة نبيه إبراهيم عليه السلام وقوله عز وجل لآدم «أهبطت لك بيتاً يطاف به كما يطاف حول العرش ويصلى عنده كما يصلى حول عرشي»، فكانت عناية المؤسس وأبنائه من بعده لحماية هذه المقدسات ورفادة الضيوف على أكمل ما يكون.

انطلقت منذ تسع سنوات حملة بعنوان (الحج عبادة وسلوك حضاري) محققة الكثير من النتائج الهادفة لخير المكان وضيوفه الكرام. وفي عامها العاشر تواصل رسالتها بعنوان (الحج رسالة سلام) ليلتزم الحجاج بالأنظمة والقوانين لتحقيق حج آمن. 300 مليون ريال أنفقت هذا العام لتحسين الخدمات المقدمة للحجاج وتهيئة المكان وتوسعته، غير المليارات السابقة التي أنفقت بسخاء على تنمية المكان بجبله وواديه ومشعره.

ويبقى أمر التوسعة الفقهية لاستنفار الجهود لتثقيف الناس وتعليمهم أداء هذه الشعيرة وفق أصالة التوحيد وعلى ملة إبراهيم عليه السلام، وهو واجب العلماء الذين يعتلون المنابر أن يعودوا إلى حجة المصطفى الوداعية، ويأخذوا منها التوجيه والقيادة، وكيف نصح الصحابة منذ اللحظات الأولى، وكيف علمهم المرونة، وبهذا رسخ لعلماء المسلمين أن يحرصوا على تعليم الحجاج التسليم في أمور الحج جميعا، لأن الحج من قبل الحاج هو تسليم لأمر الله عز وجل، واقتداء برسوله في «افعل ولا حرج» ولهذا فإن الحاج يسلم كل التسليم، ويسير على ذلك النهج الكريم الذي علمه الرسول للصحابة وللأمة إلى يوم القيامة. علم الله أن فينا ضعفاً ووهناً ومن هنا كانت خفة الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع، مأمورين بأن نأخذ بمبدأ التيسير والتخفيف كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وقد وصف ابن مسعود أصحاب رسول الله وهم محرمون بأنهم أقل هذه الأمة تكلفاً.

كان عليه الصلاة والسلام مرناً في ذي الحليفة عندما تقدم وأمر الناس بالإحرام، فلم يجبرهم، ولم يحدد أن يكون جميع الحجاج قارنين أو متمتعين، وفي بعض الروايات (الحج والعمرة معا) لكنه لم يمنع الناس من التمتع، بل قال قولته المشهورة «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة». وهذه مرونة يعلم بها نبي الرحمة العلماء لييسروا على الناس.

وعندما ذهب إلى خارج مكة بالأبطح، وأقام هناك ولم يدخل إلى الحرم، ومكث في موقعه يصلي بالناس، ومنه توجه إلى منى ثم إلى عرفات، موضحاً أنه ليس من الضرورة أن ينزل الحجاج إلى الحرم في كل فرض ليتزاحموا على الصلاة والطواف، بل يكفي أن يصلوا في المساجد القريبة منهم داخل مكة.

وعندما وقف في عرفات عند الصخرات، وقال «وقفت هنا وعرفة كلها موقف» إلا بطن عرنة فقد نهى عن الوقوف فيه، وفيه توجيه بألا يتزاحموا، ولا يحرصوا على الوقوف عند الصخرات، بل إن كل الأماكن في عرفة وكل حدود عرفة موقف، وهذه مرونة أخرى، وكذلك فعل في المشعر الحرام في مزدلفة عندما قال «وقفت هنا وجمع كلها موقف». كما أن الوقوف بعرفة يجزي في أي ساعة ليلاً أو نهاراً منذ طلوع الشمس إلى طلوع الفجر يوم النحر. وقال من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه.

وعندما نام في مزدلفة لم يجبر الجميع على المبيت، بل أجاز للضعفاء والنساء أن ينزلوا إلى منى، وفي هذا مرونة عظيمة وسعة على الناس، وقوله عليه الصلاة والسلام «الصلاة أمامك» في سنية جمع المغرب والعشاء في مزدلفة. وقال لمن سعى قبل طوافه افعل ولا حرج عليك.

وعندما نزل إلى منى ورجم، وحلق شعر رأسه الشريف، ثم تقدم وذبح 63 بدنة، وأمر سيدنا علي أن يكمل المائة التي قدمها عليه الصلاة والسلام هديا بالغ الكعبة، فجاء الناس يسألون، منهم من حلق قبل الرجم، ومنهم من رجم قبل الذبح فقال قولته المشهورة «افعل ولا حرج.. افعل ولا حرج» فما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه التوسعة الفقهية وتتبع مقاصد الشارع الحكيم. كما رخص للرعاة وأصحاب المهن بالرمي في الليل، ولم يصدر عنه عليه الصلاة والسلام ما يحدد وقت الرمي فيمكن للحاج أن يرمي وقتما يشاء، وللحاج أن يرجم من جهة مكة المكرمة ويرجم من الشرق ومن كل الجهات.

كما أن طواف الإفاضة يجزي عن طواف الوداع ويلغيه، لقد حج رسولنا الكريم حجة واحدة وهذا يكفي، فلا داعي لتكرار الحج والإصرار عليه وجعله فسحة مما يربك الجهود الأمنية ويؤدي إلى الزحام ويضيع الجهود الحكومية المميزة في إخراج حج خالٍ من المشاكل. وليكف المتشددون ورعاة التعسير عن حجب صوت الرحمة والتيسير على الحجاج وإلزامهم بالأصعب في هذه الأيام المعدودات.

تقبل الله من المسلمين مناسكهم وأدام علينا الأمن والأمان.