أخبار

«فخر الأوزبك».. من جبهات القتال ضد هتلر إلى صعيد عرفات

«عكاظ» تعيش قصص 75 عسكريا معمرا شاركوا في الحرب العالمية الثانية

جندي برفقة ابنه يروي تجربته مع الحرب.

نعيم تميم الحكيم (مكة المكرمة) naeemtamimalhak@

من بين 16 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية، خرجوا سالمين إلا من بعض الإصابات التي تفاوتت من الطفيفة إلى فقد الأعضاء، وذاكرة مليئة بالقصص العجيبة والغريبة على جبهات القتال بين الحلفاء ودول المحور. اليوم يعيش في أوزبكستان إحدى الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي قبل 26 عاما نحو 1300 مقاتل معمر، تراوح أعمارهم من 90 إلى 108 أعوام، ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية. يطلق عليهم في بلادهم اسم «فخر الأوزبك» بعد أن أسهموا في دحر الجيش الألماني الذي يقوده هتلر، حتى برلين وإعلان انتصار دول الحلفاء على دول المحور.

ويحظى هؤلاء الأبطال المحاربون، كما يوصفون في بلادهم، بمعاملة خاصة من قبل حكومتهم، إذ خصصت لهم احتفالا في التاسع من مايو من كل عام بما يعرف عندهم بيوم الشهداء، بل إن الحكومة الأوزبكية أولتهم اهتماما شاملا يبدأ من علاجهم مجانا، ومنحهم البيوت والأراضي والسيارات، وصولا للدعم المالي من فترة لأخرى. وفي هذا العام قررت الحكومة الأوزبكية كنوع من التكريم لهم إرسال مجموعة منهم إلى الحج لتحقيق حلم حياتهم بأداء الفريضة وزيارة الأراضي المقدسة، فاختارت من تسعفهم صحتهم لتحمل مشاق وتعب السفر والحج وأرسلتهم إلى مكة المكرمة، وأرسلت مع كل حاج طبييا ومرافقا للاعتناء بهم. ما إن سمعت «عكاظ» خبر حط رحال الجنود الأوزبكيين في العاصمة المقدسة، حتى أسرعت الخطى إليهم، فهم يعدون للصحفي كنزا ثمينا بذاكرتهم التي تختزن عشرات القصص عن خبايا هذه الحرب فهم شاهدون على عصرهم، بعد أن خطف الموت أغلب من شاركوا في هذه الحرب التي وضعت أوزارها قبل (77) عاما، ولم يبق سوى فئة قليلة، غير أن صعوبات المرض من جهة وضعف الذاكرة من جهة أخرى جعلت كثيرا من القصص والذكريات تطوى معهم. فما هي قصة (فخر الأوزبك.. كاسرو شوكة هتلر).. سنترك لهم حرية الرواية.. وعلينا الإصغاء والاستماع فقط للمحاربين الأبطال من أفراد الجيش الأحمر.

الناجي الوحيد في حصار لينينغراد

ذهب الجندي الأوزبكي ترغن يولدشن عام 1941 برفقة أبناء قريته شهرخان في إقليم إنديجان إلى جبهة القتال بمدينة لينينغراد التي تغير اسمها فيما بعد إلى «سانت بطرسبرغ»، وعاد بعد ثلاث سنوات فاقدا جميع رفاق الطفولة والقتال الذين قضوا نحبهم خلال حصار المدينة من قبل القوات الألمانية، وفقد مع رفاقه إحدى قدميه بعد أن أصيب بانفجار قنبلة. يشير يولدشن (95 عاما)، والذي يتمتع بذاكرة حديدية، إلى أن المدينة تعرضت لعملية عسكرية فاشلة من قبل قوات دول المحور للاستيلاء عليها استمر الحصار نحو عامين، حتى استطاع السوفيت فتح معبر بري إلى المدينة. ونجح ترغن، الذي كان حاملا للرشاش في قوات المشاة مع بقية زملائه، من رفع الحصار تمامًا في 27 يناير 1944، أي بعد 872 يومًا من بدايته.

ويؤكد الجندي المعمر أن المدينة كانت هي الهدف الأيدولوجي للعملية «بارباروسا»، بيد أن نهاية الحصار كان من نقاط التحول في مسار الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء وبداية النهاية لجيوش المحور.

يقول يولشن الذي أتى لأداء الحج لأول مرة في حياته إنه كان يعجز عن مراسلة أهله خلال الحصار إلا عندما تهدأ الحرب قليلا، إذ لم تتجاوز الرسائل الورقية التي أبرق فيها لأهله خمس، خلال السنوات الثلاث للحصار.

ويشكر ترغن الله على نجاته مرتين من الموت إحداهما عام 1942 بعد أن أصيب في ظهره، فيما كانت الإصابة الأخطر انفجار لغم كلفه فقدان إحدى قدميه، ليعود بعدها لمسقط رأسه كأحد أبطال الحرب، فتزوج وأنجب سبعة أبناء، ثلاثة ذكور، وأربع إناث، وظل خلال أكثر من سبعة عقود يمني نفسه بالحج لتحقق له الحكومة الأوزبكية هذا الحلم الذي طال انتطاره. حول الجندي ترغن 76 من أحفاده وأحفاد أبنائه ليسمعوا قصصا من بطولات جدهم التي سطرها في ساحة المعركة، لكنه يرفض أن ينخرط أي منهم في السلك العسكري، مفضلا أن يتجهوا إلى الدراسة أو العمل بالزراعة والتجارة.

الحاج ترغن الذي سيحقق حلم حياته هذا العام رفض أن ننفض عنه برفقة المترجم والمستشار لدى السفارة الأوزبكية أسامة طاشكندي دون أن يدعي لنا كنوع من التكريم والتقدير لنا جريا على العادات الأوزبكية وودعنا بابتسامة عريضة ولسانه ما زال يردد أدعية لحكومته وللملك سلمان لمساهمتهم في قدومه لأداء مناسك الحج في آخر سنوات عمره.

جوكر ستالينغراد.. عام للعودة من برلين.. و72 عاما للحج

استغرق الجندي زولن باي ماد رحيم عاما كاملا ليعود من مدينة برلين الألمانية إلى مسقط رأسه بازبسكان في إقليم أنديجان، بعد أن كان ضمن جحافل الفاتحين للعاصمة الإلمانية عقب دحر جيشها من مدينة ستالينغراد الروسية وملاحقته حتى تمكنوا من دخول برلين عام 1945. وبقي زولن (96 عاما) منذ عودته لمدينته وزواجه طيلة 72 عاما، يتطاير شوقا لزيارة الأراضي المقدسة وحج بيت الله الحرام، وهو ما تحقق له هذا العام.

يرفض الحاج الأوزبكي أن يصف شعوره لأنه فوق الوصف، لافتا إلى أنه تخلى عن حبوب قلبه بعد وصوله إلى مكة المكرمة وطوافه بالبيت العتيق، عقب شعوره أنه سليم معافى وقلبه عاد ينبض بصحة وعافية من جديد.

يستعيد زولن بذاكرته قصصا شتى في ميدان المعركة، إذ يشير إلى أنه كان أشبه بالجوكر، ففي الوقت الذي كان يعمل في الاتصالات السلكية، يستجيب لنداء زملائه في حال احتاجوا المساعدة، فعمل سائقا، وكان يقف على الرشاس. هذا النشاط قاد الشباب ليكون ضمن الجيش الأحمر الذي قهر الجيش السادس الألماني وزحف لعاصمتهم برلين وتمكن من احتلالها. يقول زولن إنه كان متفانيا لدرجة أنه يلجأ للزحف على بطنه مسافة طويلة في حال قطع أحد أسلاك الاتصالات بسبب سقوط إحدى القنابل عليها، وسط أصوات المدافع والبنادق ونيران القنابل. هذه التضحيات وشحت صدر زولن بالعديد من الأوسمة التي يفتخر بها سواء من الاتحاد السوفيتي قبيل انهياره في تسعينات القرن الماضي أو من دولته أزوبكستان. ويرى زولن نفسه محظوظا وهو يخرج حيا بأكبر معركة دموية في العالم، إذ بلغت الخسائر البشرية في معركة ستالينغراد نحو مليوني ضحية، ما يصنفها أكبر المعارك دموية في تاريخ الحروب.

ورث أبناء زولن الذي توفيت زوجته منذ سنوات ولم يتزوج بعدها ستة أبناء، وأحفاده وأبناء أحفاده 99 من جدهم براعتهم في العمل بمهن عدة في وقت واحد، وهو فخور بنفسه وأسرته وأوسمته التي جعلته أحد الأبطال الذين يشار إليهم بالبنان في بلاده.

المعمر الأكبر.. نجا 3 مرات من قنابل الألمان.. ليحج بأمان

لم تنل 106 أعوام التي عاشها إبراهيم عبيدالله، وهو أحد الجنود الأوزبك الذين قاتلوا في الجيش الأحمر بجبهة القوقاز من ذاكرته، بل إنه يحفظ كل التفاصيل التي عاشها في الجبهة على مدى ثلاث سنوات من عام 1941-1944.

عبيدالله يشير إلى أنه نجا من الموت بأعجوبة في 3 حوادث مختلفة خلال مشاركته في المعركة، وكأن الله كتب له عمرا جديدا وأعطاه الصحة ليحقق حلمه بالقدوم إلى الديار المقدسة والوقوف بعرفات لأول مرة في حياته. يسترجع عبيدالله شريط ذكرياته، ذاكرا تلك الحادثة التي لا يمكن أن ينساها، عندما طلب منهم قائد السرية التقدم إلى أرض المعركة برفقة زملائه ليفاجئ بعد تقدمهم بقنبلة ألمانية تلقى عليهم من إحدى الطائرات فلا تبقي فيهم ولا تذر، لينظر ممن حوله ليجد الجميع صراعا، فحمد الله وعاد مرة أخرى للضابط ليخبره بما حدث.

يتوقف عبيدالله للحظات ويتنهد ثم يعود لمواصلة الحديث: «بعد عودتي للضابط أحس بريبة مني كيف لجميع زملائي أن يموتوا وأبقى حيا لوحدي، وأثناء حديثنا سقط الضابط الذي يجري معي التحقيق، بعد أن أصابته رصاصة من قناص ألماني، لأحمد الله مجددا بعد نجاتي للمرة الثانية من الموت».

لم يكترث الجندي المثابر من محاولات قتله بعد أن خطفت قنابل ورصاص الألمان حياة زملائه أمامه، بل واصل مهمته في قوات المشاة ممسكا رشاشه، ومقاتلا حتى أصيب في أحد الأيام بشظايا قنبلة ألمانية كادت تخطف روحه لينقل إلى المستشفى في حالة حرجة، لكنه تجاوز هذه الحالة، لتقرر اللجنة الطبية المشرفة على معاينة الجرحى بإعادته لمدينته، بدعوى عدم لياقته طبيا. المعمر الأكبر في قاقلة الحجاج القادمة من أوزبكستان تزوج مرتين، إذ توفيت الأولى قبل 15 عاما، وتزوج بعدها لتموت الثانية أيضا.

عبيدالله رغم وفاة خمسة من أبنائه الـ11، إلا أن أحفاده الذين تجاوزوا الـ100 ولم يعرف عددهم بشكل دقيق يحيطونه بالرعاية والاهتمام، ويعوضونه عن غياب زوجتيه وأبنائه الذي رحلوا للدار الآخرة.