ثقافة وفن

مقاطع من رواية بُقشة الفرّقْنا

علي يوسف ماريل

علي يوسف ماريل *

وكأنه يدري أن أمهاتنا هن الأوطان التي لا تبخل على أبنائها، وهنّ اللاتي تقوست ظهورهن من حمل بقشة الفرقنا بعد أن انحنت لظروف الغياب، وهُنّ من تسلقت (البقشة) فوق رؤوسهن، فأصبحت مرسى تحط الأقمشة والملابس مراكب ألوانها ومقاساتها وموديلاتها عند موانئ ابتسامتها، بعد أن أرهقت خطواتهن دروب المشاوير، ومن أجل أن يملأن ذلك الفراغ المكسو بالغياب.

ومضى على سفره ثلاث سنوات ولم يعد، وفي كل مرة كان يعدها بالعودة ولا يوفي، لا أحد يعلم عن حاله وهو يتلبس تضاريس وطن غريب، يقال إن مهمة مدنها استنزاف الأجانب وطحن أعمارهم وأحلامهم على شوارعها.. تعلق آمالهم فوق مشنقة أرصفتها، تصلب أنفاسهم بأكسجين الموت بطيئاً أو أن يتم طردهم كما حدث لاحقاً، لم يكفِ ليبيا أنها أخذت منهم أعمارهم وذكرياتهم، وأيضاً أنفاسهم وأرواحهم، هكذا هي الأيام تذود بالأحلام وتحمل صاحبها إلى سنين العاهات دوماً في غرف الاغتراب، وحين قرر الزواج بامرأة أخرى كانت له مبرراته، فهي من النيجر تعيش في بنغازي، فرغ ذاكرته عندها، فكسته بالحنان ومضى إليها وطناً، ليشرع نافذته إلى وهم الرحيل، وبقي عند محطات الأرصفة والأشجار يعد خطوات العابرين وهم يتجهون كل حين نحو مستقبلهم، وهو ليس إلا تكرارا بل مواصلة لعادة التشادي حين يسافر، يتأقلم سريعاً لنسيان أحلام رحيله وأهداف اغترابه، فيترك نصف الحلم على قارعة الطريق ويتسلق جدار الغياب.

تسقينا حين تظمأ جوارحنا اشتياق العناق، في الصباح الباكر وقبل أن تغدو إلى جدران الأحياء معتمرة بقشتها فوق رأسها إلى دروب الفرقنا وهي تشد رحالها، كانت تحشو لنا في الخبز طعم الصبر والقوة، تعد لنا من روحها نكهة الأمل والحياة، تبني لنا من بسمتها أرجوحة تمنحنا معنى المرح حتى عودتها مساء، وتحمل معها كل مساء من ضحكتها لتصنع لنا حلاوة اللقاء، تراقبنا ونحن نخطو خطواتنا إلى الأمل دون خوف، تسطر لنا بين حروف الخيال كيف واقع الغياب الذي يفرضه رحيلك كلما تباعدت جسور التقائنا المتقطعة، تستودعنا الله كل صباح وترجو من الله أن يحفظنا، توجيهاتها تضج كالشعر في مسامعنا، يصدح صوتها كالبلابل في كل ركن من بيتنا، تطلب منا ألا نبتعد عن زقاق البيت، فكان الزقاق بيتنا الثاني وملعبنا ومدرستنا، توصينا ألا نبتعد وتُحذرنا من الجيب الأخضر، سيغدو رف الاطمئنان مثل الجناح المكسور حين تنتشر فجأة عصافير السطح فزعة، اعلموا أن ثمة خطرا يلوح، احتموا بجدران الدار، واتركوا كل كومة تراب بنيتموها على شكل قصر أن يهدم، كانت تخشى علينا من الجيب الأخضر أكثر من خوفها علينا من الموت، وتقول إن الموت أمر حتمي ولمرة واحدة، أما الفراق فهو عدة ميتات بطيئة في ميتة واحدة.

كنا نقول لها: لا عليك أمي، سنتلو عليهم نشيد (سارعي للمجد والعلياء) الذي حفظناه ولم نرتد المدرسة يوماً، تعلمناه من جدران الحي، من حمام السطوح. تجيبنا: لن ينصت إليكم أحد، لن يسمع صوتكم أحد، لأن النشيد يلقى صباحاً لتحية الوطن في المدرسة، وفي زقاقنا لا توجد مدرسة ترتادونها، بل كانت هي الوطن، تشبه الغيم جمالاً وبركة ومطراً يسقط من سماء ابتسامتها، يروي أرضنا بالمحبة والاحتواء والأمان، من حلاها وصفاء قلبها، يأبى إلا أن يرافقها النسيم من مكان إلى مكان، ويتبعها الغيم حين تغادر للحقل.. يصبح الغيم مظلة تظللها من أشعة الشمس في طريقها.. تغني لها العصافير لحن العطف والحنان، فترسي البسمات سفنها على شواطئ شفاهها، تبني الفراشات بيوتها على أكتافها، كانت تملك فأساً تحرث الأرض به فتزرع حقلنا بالبذور، تنتظر موسم الخريف لهطول المطر، يتأخر الخريف أحياناً ويغيب، فلا يأتي أبداً، يمكث الحصاد، رحلة انتظار جديدة، فتبقى هي تنصب إصرارها في أعماق أرضنا وفي أرواحنا.

إحدى رسائل أبي لأمي كانت في شريط مسجل ختم حروفه بدعوات من الله أن تحبل سماءنا بالغيم ويهطل المطر فتروى الأرض وتسقى الزرع، لكن جاء ردها: وماذا يروي أشواقنا في ضلوعنا؟ وماذا بمقدور المطر أن يفعله حين يرسل رذاذه وزخاته الفاتنة إلى أرضنا فتبللها؟ ومن سيسقي الحنين في عروقنا؟ يبقى الأمل جافاً في غيابك وإن ارتوت الأرض أو حتى غرقت بالمطر، يا سيد الغائبين في مكان آخر نصبت تمثال ذاكرتي، وبين الحقول حملت فأسي وأخذت أمارس حيلة التصبر وسط حشود السنابل، وورود القمح الجذابة كهيئة الفارس الذي طبع لونا سمائيا في سنوات ماطرة ثم اختفى دون التفات، راسماً في أعماقنا مساراً للانتظار في خريطة حدود الخيبات حين نشعل النار لنوقد الدفء في عروقنا تصبح الشعلة رماداً يسرق أزمنتنا الفاتنة، ويحمل أشواقنا إلى منافي الروح المفقودة، نحن الذين لا ملامح لنا غير التعاسة، ضحكاتنا وابتساماتنا مصابة بتلك الإعاقات، أحلامنا مشبوهة، أغانينا لا معنى لها، قصائدنا تمجد الذين يورثون الغياب، ويمارسون رقصات الفراق ويبنون خرائط المياتم، غرسوا في أدمغتنا خرائب الغربة، استعمروا سنوات شبابنا، وسمحوا لتجاعيد الوحدة أن تبني حدود وطنها فوق ملامحنا الحزينة، زرعوا في حقولنا أشجارا ملوثة بالدموع والأسفار والانتظار، حتى أسماؤنا تغيرت ملامح حروفها، بقينا في نفس المكان ننشد في الشدائد أكتاف وأصوات من رحلوا فجأة، تركوا داخلنا ضجيجاً بلا صوت، وخطوة في نفس المكان رفقة التراب، وجذور القمح وطيور القش تتابع تاريخ الخيبات يهطل فوق أجسادنا يوماً بعد آخر بدل المطر المنتظر.

أنا امرأة في مهدي تبني الشقاء مدناً لا تعرف أن تنام، رفيقة العتمات التي لا تنحني للآلام ولا تركن لدموع الأشواق والحنين، يبقى جرح الرحيل مؤلما، تكفيني رسائلك المزيلة بصوتك وبأنفاسك رائحة ظفائري التي أهديتها إليك حين قررت السفر يوماً ولم تعد، أصاب الظفائر شيب يحكي غياب السنين، ويصمد الوفاء في وريدي وإن تسلل الأسى إلى عروق القلب.

بعض الأوطان قدرها أن تتواءم مع الآلام والأحزان وتمضي رحلتها نحو التشتت، تناشد الفصول أن تغمرها بالأمل، راجية أن يتوقف تدفق فيضان الرحيل وسيول الدموع التي تغرق حدودها وتمحو من بساتينها عطر الورود والزهر. وحدها أنجمينا يجتمع فيها كل شيء بكل شيء، عطر المطر برائحة البارود، النسيم بالغبار، الأمنيات بالكوابيس، البسمات مع الأنين والأحزان، الأغاني بصرخات المآتم، بمقدور الليالي فيها إقناعك بأن اليوم ليس غير الأمس، هنا يتوقف الوقت وينيخ راحلته، تنام الناس في هذه المدينة وتظل العناكب والضفادع تحرس ليلها، غريبة هذه المدينة، بقدر ما تمنحك الفرصة أن تملأ ذاكرتك بالطبيعة تهبط بك فجأة إلى درك المستنقعات على قارعة الطريق، قباحة أرصفتها انعكاس لوجوه البائسين والمعدمين، كيف لمدينة قدّر لها أن تعبئ شوارعها بكل هذا العبث والألم ثم لا تبوح أو حتى تنتحب؟ تموت واقفة فقط، متكئة على أوساخها وأكمام زبالتها، و(البوطة) تحيط المدينة في أكثر من اتجاه. قرر أخيراً أن يقص شرائط الحسرات مجدداً لتلتوي الساعات حول خاصرة أوقاتنا، كبل الأشواق بعُقد المواعيد المثخنة بالعمر المنقضي، كان وعده بخريف اللقاء الدائم قد كذبه صيف الرحيل، كم من عمر نصب خيمته في انتظار الخريف، وكم من ليال سكنها ضياء البخت العاثر، كم كان يتأخر الخريف، وما أسرع سيول الرحيل، نستمر في وضع اللوم على الحلم الذي يستدرج العمر وسنواتنا العابرة، هل هي مجرد لوحات مرسومة؟ وإنها لم تكن بعد أن اكتشفناها سوى سراب يفضح كذب الريشة، حزمت مشاعرك وقسوتها ثم وضعتها في صندوق رحيلك، ومع قناديل الليل تركتنا ننتظر عودتك، لكنك جمعت جروحنا وعذابات دروبنا الطويلة، بينما لم يجف حبر أوراقنا المتساقطة من كآبة مشاوير المسافات، وهزائم ساعات الانتظار لحلم اللقاء بك، ولم يُمح غبار المدن التي زرناها من ملابسنا، أو تغب آثار ظلالها المرسومة على خطواتنا، ولم تزل بعد من ضحكاتنا الكئيبة ظلام الأسفار، ليس غريباً أن تحجز لك ركنا في سفينة الرحيل فهي عادة ورثها التشادي، ولكن الغريب ألا يمل غيرك من متابعة وانتظار رائحة أنفاسك، ولا يتعب من أن يمشي خلف ظلك الآفل، هي لم تكن الرحلة الأولى التي كتبت في دروبها قصائد الرحيل في دفتر الانتظار، ولكني ألوم القلب الذي عشق أن يغسل نبضه بالمطر في مواسم الجفاف والقحط، فجعلت الخريف يمضي شامتاً ومتوارياً خلف تلال العمر ينظر إلي حين بقيت ألطم لجة الحظ الذي حشد أيامه كي يُغير على أرض بسمتي في فجر شروقها عندما تبدأ بالتفتح، أيها الماكث في عروقي، لقد قرر اليأس أن يبني داره في وطني وأنت من وقع له على صك الملكية ومنحته كل الحقوق بغيابك، وماذا سيبقى في وطن جل شعبه من الغائبين وقليل منهم ينظم لهم المستعمر أوقاتهم، متى يأكلون؟ وماذا سيشربون؟ متى ينامون؟ وماذا سيكتبون؟ وبأي لون سيرسمون لوحة الخنوع؟ وبأي سكين سيذبحون به وطناً كان قد كُتِب مصرعه قبل زمان غاب فيه الخريف، أحمل سلامي لجيراني، وبلغ زوايا بيتنا اشتياقي لها. نمضي في دروب ونرسم خريطة لا تُقرأ بالعين، إنما تحتاج إلى مجهر لإيضاح تفاصيل الحدود فيها بين حارة وزقاق، وبين «دكة» و«مركاز» و«رصيف»، طبعت أعمارنا في ثنايا تلك الأزقة وبيوتها الشعبية وهضمت ذكرياتنا ومصت عروق أحلامنا.

* روائي تشادي