كتاب ومقالات

وعايزنا نرجع زي زمان؟

تلميح وتصريح

حمود أبو طالب

أتخيل، مجرد خيال، كيف لو لم يتمكن العلم من تحقيق تقنية البث التلفزيوني الفضائي عبر الأقمار الصناعية ليصبح في كل بيت سعودي ريسيفر وريموت كنترول يتنقل بين عدد لا يحصى من القنوات، يتخير منها الشخص ما يشاء. وأتخيل أيضاً كيف لو لم يفتح الله على البشرية بعقول عبقرية اخترعت الإنترنت ليبحر الإنسان في محيطاتها اللامتناهية، ويطير في فضاءاتها السرمدية، يختار ما يشاء من معلومة أو ترفيه وتسلية وثقافة وفن وكل ما يخطر على بال.

أتخيل كيف لو لم يحدث كل ذلك، والعالم على ما هو عليه، لا قوقل، ولا يوتيوب ولا ساوند كلاود ولا..... الخ، ونحن على ما نحن عليه، القناة الأولى والقناة الثانية بوضعهما الذي اجتاحه الجفاف بعد حادثة جهيمان المشؤومة، حين قامت وزارة الإعلام بجرد وحصر كل ما له علاقة بالفن وحبسه في أقبيتها لفترة أوشكت بلوغ أربعين عاماً، أي نصف قرن من الزمن إلا قليلا.

أقول قولي هذا عطفاً على احتفالية الشعب السعودي، التويتري على وجه الخصوص، ببدء بث الحفلات الغنائية في قناة سعودية مساء الإثنين، وكأننا للتو نشاهد ونسمع حفلة غنائية، ورغم أن كل واحد يحمل في جواله كل أغاني وفنون العالم. فعندما شدت أم كلثوم قائلةً: عايزنا نرجع زي زمان، قول للزمان ارجع يا زمان.. ثم أردفت: كان لك معايه أجمل حكاية في العمر كله. حينها اشتعل تويتر بالصبابة والحنين والشوق والذكريات وآهات الزمن الجميل، قبل جائحة الجفاف، عندما كان التلفزيون الأبيض والأسود يمتعنا بأجمل سهرات الفن، من خارج الوطن وداخله. مسرح التلفزيون والليالي الفنية العربية التي أقيمت في المملكة، وغيرها من روائع الفنانين والفنانات من كل مكان.

لا شيء أكثر من أغنية لأم كلثوم بالإمكان سماعها ومشاهدة حفلتها بضغطة على الجوال، لكن هناك فرق كبير عندما بثتها القناة السعودية. الاحتفالية لم تكن بالأغنية لذاتها وإنما باسترجاع الزمن الطويل المسروق، واستعادة الطبيعي الذي اعتاده الناس وفجأةً أصبح إثماً وخطيئة.

إنها احتفالية بعودة الوعي وعودة الروح وعودة الإنسان الذي كان إلى ذاته، احتفالية بعودة مجتمع إلى طبيعة حياته التي صودرت عنوةً منه. المسألة ليست بث أغنية في قناة سعودية، وإنما بث الأمل في الروح السعودية بأنه بالإمكان أن تكون كما كانت في الماضي، ويا لها من مفارقة عندما نحتفل (نحن) باسترجاع الماضي. لكننا نحلم أكثر بحاضر وغد أجمل من الماضي، وها هي بشائره تهطل علينا بغزارة لا تجعلنا نستوعب ما نحن فيه.

وللذين سرقوا منا زمننا الجميل واستبدلوه بزمنهم الكئيب: عايزنا نرجع زي زمان؟ زمانكم؟. قول للزمان ارجع يا زمان. ونتحدى يرجع.