ثقافة وفن

«العصيان».. رواية تغوص في مطمورات النفس البشرية

غلاف الرواية المترجمة.

عبدالله الشهري

قصة فريدة من قصص إلبرتو مورافيا، الروائي الإيطالي الشهير، الذي لم يحالفه الحظ ليفوز بـ«نوبل» رغم أنه يبزّ شهرة وألقاً وعطاء أغلب الفائزين بها.

وهذه القصة التي نتناولها هنا في عجالة هي على غرار قصصه ورواياته تغوص في مطمورات النفس البشرية وقيعانها، لكن في هذا القصة بشكل أوسع، بحيث يشعر القارئ أحياناً بالملل لفرط تدفق الخواطر التي تتتابع في ذهن البطل وتتحدث بها نفسه، مورافيا تلميذ لدوستوفسكي، ينحو منحاه، فهو يخلق بطله (لوقا) من نفس طينة أبطال دوستوفسكي، إنه يسلط الضوء على نفسية البطل ويحللها ويقلب وجوهها حتى يفليها فلياً فلا يترك شاردة ولا واردة مما يرد في ذهن البطل أو يبرق في خاطره إلا وسردها فأضاء عتمتها وكشف غوامضها، بطله الصبي لوقا، الذي عاش في كنف والديه، فأما أبوه فهو محب له يترضاه ويتلطفه ولا يجرحه بكلمة، وأما أمه فهي حنونة حيناً، وقاسية حيناً، ولكن لوقا بعيد عن هذا كله، إنه مشغول بنفسه وبخواطره إلى درجة تفوق الوصف، لقد فكر في الدنيا وأسرف في التفكير، ووجد أنها دنيا غريبة تنضح بالقرف وتحفل بالأذى والسوء، ولذا سرعان ما تكارهها، ومقت وجوده فيها، وارتأى أن يضع نفسه في مواجهة مع تلك الحقائق الزائفة، إن موجبات الدنيا في صباه تقتضي المطالعة في دروسه والمثابرة لبلوغ أمانيه، أو أماني والديه على الأصح، ولكن ما فائدة ذلك كله؟ ما ثمرة تلك المتعبات؟ إنه يمرّ أحياناً من حديقة بجوار مقبرة ويرى شواهد القبور فيلتهب خياله الأسود بصور مفجعة ورؤى لا تسُر، ويمعن في تفكيره السيئ فتزداد الحياة قسوة ومرارة، وإزاء تلك التصورات ينتهي إلى أنه لا جدوى من الحياة، ويفضي به التفكير الزائد إلى أن يحسم أمره ويتمنى الموت، وإذ يتخذ قراره فإنه يشرع في تنفيذه، إنه لا يفكر بالانتحار ولا حتى يطرأ على باله، وإنما هو يتبع خطوات في سبيل هدفه: فهو يقلل كمية أكله، وقد كان من قبل يطعم بشهية زائدة إلى درجة الشراهة، ولكنه استطاع أن يحدّ من ذلك إلى النصف، ثم إلى الربع، رغم صرخات معدته فقد كان صارماً في قراره، فما أسرع ما يستأذن منصرفاً إلى حجرته، ويلاحظ والده ذلك فيقدم له الحلوى التي يحبّها ويتلطف به ليتناولها، ولكنه يتمنع، ويلح أبوه فيزيد تأبياً، ثم هو يستغني عن طوابعه وعن هدايا ومقتنيات كانت تملأ حجرته، وقد أهداها إلى زميل له، وليس صديقا، فإنه بلا أصدقاء، ثم إنه يبيع مكتبته دون علم والديه بثمن بخس، إن هدفه العصيان، ليس عصيان والديه بالطبع، وإنما عصيان الحياة، التمرد على قوانينها، والتملص من شعيرتها، والاقتراب من أضدادها، وليس ضدها سوى الموت، وهو يريده ويبغيه، بل ويسعى إليه، ها هو يكاد يقتل نفسه بالجوع، وقد تخلى عن زينة الحياة من أسباب تبلغ به ذروة النجاح، تخلى عن مذاكرته، وأهمل دروسه، وقد كان مجتهداً ومن الأوائل، ثم هو قد باع مكتبته، وأصبح الدرب الموحش أدنى مما يتصور، ولهذا يشعر بالتقدم في هذا المضمار، مضمار البعد عن الحياة والاقتراب من الضد، من الموت، وهو لا يفعل ذلك من منطلق فلسفي، بل مجرد فكرة ناصعة طفولية لا تشوبها شائبة التعمق، وفي يوم تستضيف أسرته مربية مع أبناء خالته الصغار، لأن خالته مريضة، ويهيئون لها صالة الاستقبال المحاذية لحجرته مؤقتاً، إن المربية امرأة ساذجة ولا تملك ذرة من الجمال، وهي تلاعب الصغار دون كلل، وبحكم كونه لا يذاكر، وإنما يتصنع المذاكرة، فقد كان يقترب من المربية، ولكنه يتأرجح بين الموافقة وعدمها، إنه يخاف، وهو في طور العصيان، في مرحل التمرد، إن معنى قبوله أنه يقبل الحياة بينما هو يسعى للموت، ولذا يقف موقفاً باهتاً مرتجّاً، إنه لا يدري كيف يتصرف، ثم يقرر إكمال التحدي ورفض العرض، فلا يذهب إليها، ولا تعود هي إلى المنزل، وبعد أسبوع يتخاذل فيتصل عليها، ويبلغها أنه آت لزيارتها، فتقول له بصوت واهن إنها مريضة، فيغيظه ذلك، ويحنقه، ولكنها تعده أن تقابله الأحد القادم، وخلال أسبوع تتناهبه الأفكار والخواطر بين إقدام وأحجام، ثم يأتي يوم الأحد فيمضي إلى بيتها واثق الخطى قبل أن تفجؤه الأحداث فيعرف بأنها مريضة تحتضر، فيقفل راجعاً إلى بيته ماراً بالمقبرة، وما هي إلا يومان حتى يسمع من والديه أن المربية ماتت! فيغتم لذلك وتتضاعف هواجسة السوداء ويصح عزمه على غذّ الخطى نحو الفناء، ويذهب يوماً إلى المدرسة ويطلب منه المعلم إلقاء بعض أبيات الشعر فيقف صامتاً أمام زملائه دون أن ينبس بكلمة، والمعلم مأخوذ بهذا الذهول، فإنه يعرف أن لوقا يجيد الإلقاء، فما باله اليوم على غير ما يرام، ويتضاحك التلاميذ على ذلك، ثم يقرأ لوقا أبياتاً من ملحمة دانتي تشير إلى الموت ولذته فيتماهى لوقا مع تلك الأبيات كأنما هو قائلها، ثم يرتجّ ويرتجف ويسكت، فيقول له المعلم أنت على غير ما يرام، وينصرف لوقا في جو مطير عاصف ويصل للبيت وقد نالت منه الحمّى بنفضها وإرعادها وتمشيها في أعضائه، ويدرك لوقا أن النهاية اقتربت فيُسر لذلك ويشعر رغم إرعاد الحُمى وقصفها بسعادة كلما ارتفعت درجة حرارته فهذا يعني انه سائر في الطريق الصحيح نحو العدم، ويقضي في مرضه ثلاثة أشهر وخلالها يستقدم والداه ممرضة تُعنى به وتقوم على خدمته، وتقوم الممرضة بواجبها، ويوماً تُحممه بالماء والصابون وتدعك جسمه، ثم إن بوادر إبلاله من مرضه تلوح، ولقد رأى النهاية وأيقن بالهلاك وكسر التحدي وطوّع العصيان، فهو يجتاز هذه المحنة ويستعيد وهجه، وتأججت روحه وازدهرت عواطفه، لقد اكتشف موطن الضياء في ذلك الكهف السحري العجيب الذي تنبثق منه الحياة! ومن هنا فإن بوادر آماله تتجلى بروح جديدة نشوانة تتلمس السعادة بكل حبور، ويلمح والداه تغير ابنهما فيروحان برحلة بالقطار إلى الشمال حيث الجبال الشاهقة بسفوحها الخضراء ونسائمها العطرة، ويرى لوقا أثناء رحلته تلك المناظر الأثيرية فيزيد تمسكاً بالوجود وحباً بالحياة.. وهكذا تنتهي تلك القصة إلى تلك النهاية الجانحة للتفاؤل، فإن مظاهر الموت التي يستشعرها البطل الصغير والتي تعتلج بها خواطره وتحتدم بها حياته ويلحّ عليها ذهنه إلحاحاً يكاد يقوده للجنون تنفرج باكتشاف ذلك الكهف الخصيب الذي يستقبل بذور الحياة... ومعنى هذا أن (.....) عند مورافيا كان مفتاحاً للعلاج وحلا للعقدة وانفراجاً هائلاً يعيد ترتيب الحياة وإيقاعها الرتيب، ولا شك أن مورافيا متأثر بالسياق الذي عاش فيه وظهر فيه عالم النفس (فرويد) الذي أرجع العُقد النفسية إلى ما يشكّله في حياة كل فرد، ولكن رأي فرويد يظل رغم وجاهته مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة، وهذا ما دفع تلاميذه إلى الانصراف عن منهجه كـ (إدلر) و(يونغ) أو تحديثه وتطويره على يد البعض الآخر، ولكن ذلك موضوع آخر... وصفوة القول إن مورافيا أبدع في استعراض مهاراته ومواهبه بالغوص في نفسية البطل الصغير واكتشاف معالمها وسبر أغوارها... ولكنه كان أرضياً بحتاً لا ينظر للروح نظرة مؤمنة تحاول خلق توازن يعرج به الإنسان إلى مصافّ السماوات والتناغم مع إيقاع الكون.

إن سيرة لوقا تشبه أحياناً سيرة مورافيا ولذا فهو يمتح تلك الحقيقة فيلبسها بالخيال شأن كل قاص حاذق خبير.