مصادر التربية

فريدة صالح شطا

عمدت إلى تدوين خواطري حول مسألة قد تبدو للبعض بلا معنى أو فائدة، والبعض الآخر قد يجد فيها موضوعًا غريبًا له أبعاد أخرى، وربما يعمد إلى دراستها وتحليلها.
هذه الخواطر غير المرتبة في ذهني كانت حول المسميات أو المصطلحات التي تعارف عليها الناس لمجموعات السنين المختلفة، فالقرن هو المائة عام والعقد هو السنوات العشر والجيل وهو موضوع خواطري يدل على ما يزيد على الثلاثين عامًا بقليل أو حوالى ثلاثة وثلاثين عامًا، ومن هنا يقال بأن من بلغ الستين عامًا أو تجاوزها بقليل يكون قد عايش خلال عمره جيلين. غير أني أظن أنه عايش ثلاثة أجيال، ولتوضيح ذلك فالفرد عند بداية عمره يكون حوله والداه وأجداده أو من يماثلهم في الطبقة كأعمام وأخوال الوالدين.. وبذلك فالتأثيرات التي تصبَّ في تنشئته لا تأتي فقط من الوالدين، بل من جيل سبقهما وهو في هذه السِّن الصغيرة صفحة بيضاء يطبع فيها ما يسمعه وما يراه ممن حوله وإن كانت ظاهريًا تتلاشى في ما بعد إلا أنها تظل محفورة في تلابيب عقله ووجدانه أفكارا وقيما وغيرها، لأن الفرد في فترة التلقي يتقبل كل ما يقال له حتى تأتي مرحلة البلوغ وسن الرشد وتكوّن الشخصية، فتضاف إلى تلك المفاهيم ما يتلقاه من المجتمع الأكبر، المدرسة، الرفاق، وغير ذلك.. إلا أن غربلة ذلك كله يأتي عند سن العشرين أو بعدها بقليل ليظهر الرفض والتبرم من كل أو معظم ما تلقَّاه ليفرض لنفسه قناعات وأفكارا جديدة غالبًا ما تكون مغايرة ومعبرة عن رفضه التمسك بالقديم "من وجهة نظره" واصفًا ذلك القديم بأنه كان صالحًا لزمن مضى. العجيب أن كل هذا التمرد والرفض يختفي تدريجيًا بعد انتهاء فورة الشباب خصوصًا بعد تكوين الأسرة ووجود أبناء يصبح الإنسان هو المسؤول عن توجيههم وإرشادهم.. وبدون أن يدري، تجري على لسانه العبارات التي طالما سمعها من والديه وربما أجداده.. متناسيًا تمرده القديم ورفضه لها، وتزداد حدة استنكاره لكل ما حوله من جديد من مظاهر وأفكار جديدة لدرجة التحسُّر على الأيام الخوالي، على أخلاقيات الزمن الذي مضى، وكلما مرت الأيام زاد تبرمه ورفضه مما يحدث، وهي مسألة تبادلية؛ فهنا الرفض والتبرم من الجيل اللاحق الذي توجه إليه النصائح والتوجيهات ويسمعونه ويذكرِّونه بالحديث النبوي الشريف الذي ردده هو بأن أبناءنا خُلقوا لزمان غير زماننا. فهي في الحقيقة سلسلة متصلة الحلقات تبدأ من الطفولة ومعايشة جيلين سابقين وتنتهي بمعايشته هو لجيلين لاحقين، وربما أكثر إن امتدَّ العمر به وأصبح من المعمِّرين الذين تجاوزا المائة عام.
حياة يتنقل فيها مكتسبًا رؤى ومفاهيم وعادات، تمسَّك ببعضها ورفض بعضها في مراحل مختلفة حتى يعود في النهاية لاسترجاع وبدون قصد نفس ما تعلمه، مطالبًا الأجيال اللاحقة وأحيانًا بنفس الكلمات والعبارات التي قيلت له، التي ربما كان يضحك ويسخر منها، بتنفيذها.. وموجهاً لهم النصح وربما الانتقاد الذي وجُّه إليه يومًا ما.
طرحت خواطري هذه على مجموعة من الصديقات المقربات.. على أنها أفكار مشوشة وغير واضحة لأعرف منهن آراءهن فيها وإذا ما كانت تصلح موضوعًا للنشر.. فأشارت الأخت الصديقة مها فتيحي عليَّ بأن أربط تلك الخواطر بما سمعناه من د. سعاد الحكيم (أستاذة الفلسفة الإسلامية) حيث أكدت على ضرورة أن تُستمد توجيهاتنا للأبناء على مرِّ الزمان من الكتاب والسُّنة، والسيرة العطرة لصاحب هذه الرسالة صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، وأن تكون هي المصدر الرئيسي للتربية لا أن تُستمد من عادات وتقاليد وسلوكيات متغيرة ومتحركة، وتخضع للعديد من الظروف على عكس القيم الثابتة النابعة من الكتاب والسنة التي لا تتغير مهما تبدلت وتغيرت الأهواء والأحوال، ومهما عصف بالفكر من آراء أجيال سابقة وأجيال لاحقة.