ثقافة وفن

الحميدي الثقفي.. التقصي العصيّ لوجه طفل ضيّعته القُرى

الحميدي الثقفي

قراءة: علي الرباعي Al_ARobai@

لا أدري ما هي الحالة التي تقتحم بها القصيدة روح الشاعر الحميدي الثقفي، إلا أني أعرف أنه لا يستقبل نصاً جديداً إلا وهو في شفافية غيم الوسمية التي تفتح الأرض له ذراعيها إيذاناً بموسم الخصوبة، إنه القروي الذي دخل المدينة سهواً كما يدخل الطفل مدرسة لأول يوم، وغدا أنجب التلاميذ، إذ لم تعش عيناه أضواء الشهرة الزائفة، في طريقه إلى مدينته، أو مدينة شعره، تتحرر المسافة بينه وبين الأشياء، ليرصدها كما يرصد الفلاح بروج الزرع والحصاد، وينتقي من فاكهة شتائه أنقى شمس:

يا رب هذا الطريق أفعى تفـح وعتمـة أعشـاب

ظُلمه وطين وبلل وعظـام نـاس أمـوات حيّـه

الليل غابهْ ونبض أنفاس صـدري فـاس حطّـاب

تستنبت النـار فاكهـة الشتـا شمـس أبجديّه

حروف أبجديته مستنبتةٌ من عيون الماء، وسنابل القمح، وحنّون اللوز، وعناقيد العنب، وبيوت الحجر، وصوت مؤذن القرية المحتسب

قلت القرى واجهشت لك في البلاد رعوش الاعناب

والمشمش المسقوي واغصـان لـوزه عثريّـه

ابسألك عن ملامح وجه طفلٍ في القـرى غـاب

غيّبت والا القرى يا طفـل غابـت فيـك هيـّه

والما تقول بـكظايمها زبرجد فـي المـدى راب

والعشـب مجـدول بخيـوط الصباحـات النديّه

ابسألك صاحبي غمّـض عليهـا جفـن واهـداب

ياما لصبح القرى مـن وشوشـات المـا هنيـّه

الحميدي شاعر لا يضخم الأشياء الصغيرة، لكنه يحط من قدر التضخم المزعوم ما دام الطفل الذي غاب في القرية ينازعه يومياته، ويقض مضجعه، في ظل ما تتعرض له إنسانية الإنسان في المدينة، ليتحول الشاعر إلى مناضل يحاول التصدي للقبح لكي لا يفقد الحالم شهيّة العشق، ولكي لا تذوب الطهارة في سخونة أحضان الحضارة.

يا موت وبيوت حارتنـا علـب سرديـن وتـراب

تـرى التعـدّي لغيـر اوّل قرابيـنـك زريــّه

الريح تصفر وينعـق طيـر بـوم وتنبـح كـلاب

ويضـج صمـت المدينـة كلنـا نـذر المنـيـّه

هذا الحذر والتوجّس في الملامح مالـه اسبـاب

هذا الترقـب وهـذا الريـب والخـوف المعيّـه

ابسألك صاحبي واقسى كمـا يقسـون الاحبـاب

وجهك هو القاتل المقتول مـن فيـك الضحيّه؟

تنشطر ذات الشاعر وتتحاور، جزء يطل من نافذة ليكحّل عينيه بما بقي من صباحات القرى، والآخر منهمك في متابعة التقنية النابضة بالاستهلاكي من الأخبار، ومثل مخلوق مسلوب الإرادة والجذور وساحات الطفولة، يتذكر أحبابه في أقاصي الأقاصي فيرفع يده ليستفز الفراغ بتلويحة الكف المتعبة.

عمرك مجرّد زمن تافه غبي جـوف الزمـن ذاب

من منبع الليل إلـى صبـح المصبّـات القصيـّه

للجوع مخلاب من قال ان ما للجـوع مخـلاب

لا في الثـرى ضاجعتـك ولا أرضعتـك الرازقيّه

يا حكمة الطيش ليش نخلـد الاسمـا والالقـاب

ما يمكن اسم الورود اشواك واسم الشمـس فيـّه

عرفتني كنت انا صاحبك واصحابك لـي اصحـاب

امـدّ لمصافحـك يـدّي تصافحـنـي يـديـه