كتاب ومقالات

السعودية.. ترتيب الحاضر واستشراف المستقبل

نجيب يماني

الآن يا «محمّد الخير» يمكننا القول بكلّ فخر واعتزاز: لقد استعدنا حاضرنا المختطف، واستشرفنا مستقبلنا الوضيء..

ليس لأن هناك مشروعًا اقتصاديًّا لمستقبل الحضارة الإنسانية بشرت به فقط، بل استبشرنا بك منذ أن طرحت رؤية المملكة 2030 الطموحة.. فنحن على ثقة كاملة بوعيك الهادف إلى أفق غير متناهٍ ولا محدود الطموح، ونحن معك على الدّرب عونًا وسندًا..

وضعت يدك البصيرة على موطن «الداء» الذي أقعدنا طوال 30 عاماً، وقزّم طموحنا، وعمّش رؤيتنا، والمتمثل في قبضة «الصحوة» على مفاصل الدولة والمجتمع، فجاءت بشارتك الوضيئة والحازمة وهي تعلن أن «.. المملكة ستقضي على بقايا التطرف، ولا أعتقد أن هذا يشكّل تحديًّا، فنحن نمثّل القيم السمحة والمعتدلة والصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجهه»..

من ها هنا تبدأ المعالجة للواقع السعودي، الذي عاش طيلة الفترة التي غيبتها «الصحوة» في واقع أقل ما يمكن أن يوصف به أنه كان «خارج الزمن».. بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، وليعد كل منّا بذاكرته إلى فترة «الصحوة»، وليقارن المجتمع السعودي وما كان عليه، وصدق «محمد الخير» توصيفًا لها حين قال: «لم نكن بهذا الشكل في السابق».. لم نكن شعبًا «متوجسًا» من الحياة، «حفيًا» بثقافة الموت، مهووسًا بـ«الآخر»، حذرًا حيال كل شيء.. وما ذلك إلا لأننا سمحنا بغفلة لحفنة من المتطرفين أن يقيموا «نقاط تفتيش» في الطريق بيننا وبين خالقنا العظيم، احتكروا «أختام الحلال والحرام»، وحولونا إلى «قطيع» لا يتحرك إلا بأمرهم، ولا يفهم الدين إلا بـ«أمزجتهم»، فطالت «قائمة المحرمات» عندنا بشكل كوميدي، وتضاءلت «قائمة المحللات».. وأصبحنا أضحوكة العالم، و«علماء الصحوة» يستهدفون «التكنولوجيا» بفتاوى التحريم القاطعة، في حرب علت فيها أصوات «البكائيين»، وتشنجت فيها دعوات المتطرفين، وشاع في حياتنا هلع من الفضائيات، والأطباق اللاقطة، وكاميرات التصوير الفوتوغرافي، والجوالات في كلّ مراحل تطورها، وبخاصة حين «استهدفنا الغرب» وزوّدها بكاميرات، «ليكشف عوراتنا»، ويهتك أسرارنا، ويعري «حريمنا».. وبلغت هذه «الملهاة الكوميدية» ذروتها في تدحرج أصوات النكير والتحريم، إلى «المكروه»، ثم «المستحب»، وأخيرًا إلى «الواجب».. مسلسل خبرناه في كلّ قضية يعلو فيها صوت «الصحوة» ويلعلع..

أقعدوا «نصف المجتمع» عن دوره، وهم يعتقلون المرأة في أفكار متحجرة، لا أصل لها في الدين والشرع، وإنما هي من هواجسهم المريضة، وقد بلونا أكثرهم، فما بدا لنا من بعضهم إلا «لسان عفيف وقلب مستذئب»، فما كان حرصهم على «وأد» المرأة وغمط حقوقها إلا لـ«ريبة» من صنيعهم، وصدق فيهم القائل:

إذا ساءَ فِعلُ المرءِ ساءتْ ظُنونه

وصدّقَ ما يعتادُه من توهّمِ

دخلوا إلى مناهجنا من نافذة «المنهج الخفي»، واختطفوا أبناءنا في غفلة منا..

سرقوا منابرنا، وجلسنا نسمع لخطبهم الملغومة بكل خشية وخضوع..

غرروا بأبنائنا اليفّع، وساقوهم إلى المحارق باسم «الجهاد».. وجلسوا يجاهدون في «ملذات الدنيا» بكل حواسهم المتاحة، واستلفوا لها حواس الغير لاستكمال فائض الملذات..

يمكنني أن أحصي ما لحقنا من فترة «الصحوة»، ويكفي أنها خلقت منا أمّة مأزومة حيال «الآخر»، مرتابة في نوايا العالمين، مهووسة حد المرض حيال الحياة، تنتظر من «يحلل» لها ما هو حلال بيّن وواضح، بعد أن حاصرها هاجس «الحرام» من مشرق شمسها إلى مغربه، يخرج الواحد منا من بيته فيرفع رجلاً، ثم يسائل نفسه، هل حرام أم حلال أن ينزل الأخرى؟ يستوقف الهواء عند حدود أنفه، ويجادل نفسه حول حكم «الأوكسجين» المختلط بعادم السيارات، هل حلال «شفطه» أم حرام؟!

ريبة، وتوجس، ومصادرة كاملة للإرادة والعقل، وتسليم مطلق لـ«فئة» تحكمت في مفاصل حياتنا..

نعم يا «محمد الخير».. اليوم نستعيد حاضرنا المختطف ونستشرف مستقبلنا الوضيء.. فما أصدقه من قول وأنت تجهر بها وتقول: «.. نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه قبل 1979، إلى الإسلام المنفتح على جميع الأديان والتقاليد والشعوب».

هي عودة للعقل السعودي ليخرج من حرج التقزيم إلى براح التفكير المطلق دون وصاية من أحد..

هي عودة للإنسان السعودي الذي عطّل مساحة الإبداع فيه حين أسلم وعيه لغيره لينوب عنه في تحديد العلاقة بخالقه..

هي عودة إلى تحرير الوعي السعودي ليبصر دينه السمح، ويدرك أن لا حرج في الإقبال على الدنيا، ولا مشاحة في تقبل الآخر، ولا كابح لطموح النفس في ترتيب حياتها بشكل يتواءم مع العصر ويجاريه..

كنت حصيفًا يا «محمّد الخير» وأنت تفتح الوعي نحو مستقبل المملكة، وتشير إلى أن: «.. 70% من الشعب السعودي تحت سن الـ30، وبصراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، لأننا نريد أن نعيش حياة طبيعية تترجم مبادئ ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم ونساهم في تنمية وطننا»..

من هنا نبدأ، ومن هنا فليتوجس حرّاس النوايا، وقاطعو طريق الرجعة إلى الله بقوائمهم المسمومة، فما عاد لهم غير الحسم والحزم..؛ حسم على مستوى المنابر في المساجد، حسم على مستوى مناهجنا ومدارسنا، حسم وعزم في كل مفاصل المجتمع لنعيد ترتيب الحياة كما كانت قبل «الصحوة»؛ حلوة نقية، وثيقة الصلة بربها دون غلو، حفيّة بالمرأة دون مصادرة لحقها، منتبهة لشبابها وفكره، مقبلة على العالم بعقل منفتح، ورغبة في مد جسور التواصل بما فيه مصلحة الإنسانية بغض النظر عن معتقداتهم ومذاهبهم.. بشر أسوياء، في زمن معافى فقط، ولن نسامح الصحوة على ما فعلته بنا.