عفرين.. «الناجية» الوحيدة من جحيم الحرب.. تترقب!
عكاظ تخوض مغامرة التنقل بين حواجز «المتحاربين» في سورية
الأحد / 16 / صفر / 1439 هـ الاحد 05 نوفمبر 2017 04:04
تحقيق عبدالله الغضوي
وقفت «عكاظ» من قبل على التجربة الفيدرالية في الشمال السوري «روج آفا»؛ إذ تسيطر هناك نظرية حزب الاتحاد الديموقراطي «الفيدرالية» بديلا عن التقسيم أو الدولة المركزية، لكن الصورة لم تكتمل بغياب الجزء الأبرز في المشروع الفيدرالي..«عفرين»..آخر الحدود التي رسمها حزب الاتحاد الديموقراطي لنظريته السياسية.
لذا قررنا الذهاب إلى عفرين ذلك الجسد المفصول عن «روج آفا» نتيجة تعقيدات الصراع السوري الجغرافية، وحتى تكتمل صورة المشروع الفيدرالي كان لا بد من زيارة مدينة الزيتون «عفرين».
بالفعل؛ تمكنا من الوصول إلى مدينة عفرين رغم صعوبات التنقل إلى هناك، باعتبار أن محيط هذه المدينة خصوم لوحدات حماية الشعب الكردية، والتقينا القيادات السياسية والعسكرية وحتى القيادات الدينية والمجتمعية، وتجولنا على خطوط النار وفي قلب المدينة لنتعرف على ما يجري فيها.
كان الحديث مع تلك القيادات مفتوحا على كل الأصعدة، تطرقنا إلى العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والنظام السوري والفصائل السورية المحيطة بالمدينة، والعلاقة المجتمعية مع حزب الاتحاد الديموقراطي، وما هي السيناريوهات التي تستعد لها تلك المدينة في ظل التقلبات الداخلية على الأرض السورية وكذلك الموقف الإقليمي من المشروع الفيدرالي. كان الهدف من زيارة عفرين، استعراض التجربة الفيدرالية كما هي على أرض الواقع، بعيدا عن الانفعالات والتحزبات والنظر إلى شكل سورية القديم «المركزي»، في الوقت الذي يتصاعد الحديث في سورية عن التقسيم وتشكيل سورية الجديدة! رغم أن العامل الأمني والقوة العسكرية الركيزة الأساسية في المشروع الفيدرالي - ذلك أن هذه القوة حافظت على الوجود الكردي في الشمال السوري-، إلا أن المظاهر العسكرية لم تظهر في مدينة عفرين؛ إذ خلت مظاهر العسكرية تماما في تلك المدينة المحاطة بجيوش جرارة من كل الاتجاهات، فالمدينة شبه معزولة عن المؤثرات الخارجية، وبالطبع هذه فلسفة وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديموقراطي، الذي يرى أن الأولوية لإيجاد مناطق آمنة تمكنه من إثبات أهمية وأهلية مشروعه الفيدرالي، ذلك أن عملة الأمن نادرة، بل تكاد مفقودة في سورية المتشظية.
في عفرين، لا تجد من يعارض التجربة الفيدرالية وسيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي علنا، لكن لا يخلو الأمر من امتعاضات غير معلنة، ففي سورية لم يعد ممكنا رفع الأصوات عاليا، فالحالة مازالت ضبابية سياسيا وعسكريا.. مصدر هذه الامتعاضات الخوف من تكاليف التجربة الفيدرالية الجديدة على الذهنية السورية، فالكل يريد أن يمر بسلام من هذه التجربة بعد أن دفع جميع السوريين ثمن التغيير.. بما فيهم النظام.
الحرب المرتقبة
تعتقد وحدات حماية الشعب «الكردية» في عفرين، أن الحرب قادمة إلى عفرين في أية لحظة، لذا فإن التجهيزات العسكرية على أطراف المدينة، خصوصا القريبة من مناطق درع الفرات تمتلك تحصينات عسكرية عميقة. وقد حاولنا الحصول على عدد المقاتلين من وحدات حماية الشعب، إلا أن الجواب دائما يأتي هناك ما يكفي، من خلال الأسئلة المتكررة لأكثر من قيادي، استنتجنا أن عدد المقاتلين يتجاوز 6 آلاف مقاتل- لكن هذا الرقم غير مؤكد-، منتشرين على الجبهات، بل إن هناك دفعة من المقاتلين خرجت إلى مدينة الرقة للمشاركة في قتال داعش تبلغ نحو 1500 مقاتل.
وعلى الرغم من أن مدينة عفرين وريفها، مناطق عسكرية إلا أننا لم نلحظ انتشار أي مقاتل من وحدات حماية الشعب في الريف أو المدينة. الواقع أن مدينة عفرين منظمة عسكريا وإداريا أكثر من غيرها من المقاطعات «الجزيرة- عين العرب (كوباني)».
أما السلاح، فهو الأمر الأكثر سهولة في الحروب، خصوصا إذا كانت مناطق التماس بين المتحاربين قريبة جدا؛ إذ أكد لنا أحد مسؤولي التنسيق بين القطاعات المقاتلة، أن السوق السوداء يمكن أن تؤمن لك ما تريد من السلاح، وخلال السنوات الست الماضية، استطاع العقل الذي يدير عفرين عسكريا أن يحصن نفسه بالسلاح بحيث أصبح لا حاجة البتة للسلاح من الخارج.
كان التصور العام أن الولايات المتحدة الأمريكية تزود وحدات حماية الشعب بالسلاح عبر مروحيات تنتقل من عين العرب (كوباني) إلى عفرين، إلا أن معظم المصادر أكدت أنه لا وجود لأي أمريكي على المستوى العسكري أو حتى على مستوى الإغاثي.
على العكس، بحسب ما تبين أن روسيا قدمت السلاح بشكل جزئي لوحدات حماية الشعب، مع تعاظم سيطرة الجهاديين (جبهة النصرة) على مدينة حلب في العام 2015 خوفا من تنامي قوة هؤلاء والتوجه إلى عفرين.
وقد توقف الدعم الروسي في الآونة الأخيرة، في حين أن قيادة وحدات حماية الشعب لم تطلب من روسيا الاستمرار بتزويدها بالسلاح في إشارة إلى الاكتفاء.
الأسمنت التركي واقتصاد الحروب
تجولنا في مدينة عفرين، التي بدت المدينة الأكثر انتظاما وترتيبا من بقية المدن الأخرى الخارجة عن سيطرة النظام، فلا بيوت مدمرة ولا مآذن متهاوية على الأرض، ولا آثار لجرائم الأسد هناك، بل إن حركة النمو العمراني تزدهر في هذه المدينة وكأنها معزولة عن الواقع السوري المشوه في كل الاتجاهات.. يبدو أنها «الناجية» الوحيدة من جحيم الحرب السورية – حتى الآن-.
يقول أحد العاملين في المحال التجارية، لم تكن عفرين بهذه الصورة قبل الثورة في العام 2011، بل كانت أسوأ من ذلك، لم تكن حركة العمران والتجارة بهذه الصورة، لقد أخذت المدينة بالنمو المتزايد خلال سنوات الصراع، بينما المدن الأخرى تدمرت.
سألنا هذا الشخص، وكيف تنمو عمرانيا وهي تحت الحصار من كل الأطراف، فأجاب حتى الأسمنت التركي يصل إلينا.. «إنها السوق السوداء».
التقطت «كاميرا» «عكاظ» شاحنات محملة بالأسمنت إنتاج «ماردين» التركية يتجه إلى مدينة عفرين.. إنه اقتصاد الحروب؛ كل شيء يمكن توفيره بالمال، لا عداوات في التجارة إنه «البزنس» الذي تنمو على أطرافه مدينة عفرين.
إستراتيجية الأمن والتعايش
يدرك حزب الاتحاد الديموقراطي أن مشروعه الفيدرالي في سورية تعتريه صعوبات كبيرة، على المستوى الداخلي والدولي والإقليمي، لذلك كانت الإستراتيجية توفير الأمن المفقود في بقية المدن والحفاظ على البنية التحتية في تلك المدن.
وبالفعل كان الهدف الأول من الوجود في كل مدينة هو تحقيق الأمن، وقد جلب هذا الأمر الكثير من رجال الأعمال من مدينة حلب وغيرها من المدن الأخرى إلى مدينة عفرين، هذا أدى إلى انتعاش المدينة تجاريا، حتى أن العديد من المصانع انتقلت إلى مدينة عفرين وباتت الصدر الأول في سورية، لقد أصبحت حلب المصغرة.
وكذلك الأمر التعايش، هو الفكرة الأساسية لحزب الاتحاد الديموقراطي، الذي كانت ترتكز فكرته على الحكم المحلي بالقوى المحلية المتوفرة، لذلك وفر المناخ للتعايش بين كل المكونات الكردية والعربية وغيرها، رغم الصبغة الكردية على هذه المدينة.
أهمية عفرين
تنتشر في محيط عفرين شرقا في إعزاز ومارع فصائل درع الفرات المدعومة تركياً.
أما جنوباً (ريف حلب الغربي وإدلب الشمالي) فتنتشر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، حركة أحرار الشام (التي انحلت في الآونة الأخيرة بعد معارك مع هيئة تحرير الشام)، حركة نور الدين الزنكي (انضمت إلى هيئة تحرير الشام وانفكت عنها لاحقاً) وبعض الفصائل المتفرقة مثل فيلق الشام.
أما بالنسبة لنبل
والزهراء الواقعتين جنوبي شرق عفرين فيتواجد فيهما الجيش السوري وميليشيات حزب الله ولجان محلية، إضافة لدوريات للشرطة العسكرية الروسية.
وفيما يتعلق بالتواجد الروسي في عفرين، فهناك نقطة عسكرية واحدة للمراقبة في كفر جنة، ودخل أخيراً مراقبون عسكريون روس إلى مدينة تل رفعت في مقاطعة الشهباء بناء على اتفاق أبرم مع الفصائل المتواجدة هناك للمراقبة، كما أن مدينة تل رفعت أعلنت كمنطقة لفض الاشتباك «وقف القتال».
الرقص على حبال روسيا وأمريكا
نتائج أي طبخة دولية دائما لا تناسب الكرد في المنطقة، منذ اتفاقية لوزان وسايكس بيكو في القرن الماضي التي يتهمها الكرد بأنها سلبت حقوقهم.. اليوم الكرد أقرب إلى المطبخ الدولي، بل جزء من هذه الطبخة «الدولة» على الأقل في سورية، فالعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية يريدها الأكراد ندية، إلا أنها بأي شكل من الأشكال علاقة تابعة، ذلك أن كل الانتصارات التي أحرزتها وحدات حماية الشعب الكردية كانت مرتبطة بالتغطية الأمريكية الجوية التي مهدت الطريق للسيطرة على منبج والرقة والآن قسم من دير الزور.
اللعب مع القوى الدولية ليس سهلا، فهل يدرك حزب الاتحاد الديموقراطي هذا المشهد في سورية، خصوصا بعد تجرية إقليم كردستان العراق بالاستفتاء على التصويت وإعلان الانفصال الذي قُوبل بتحالف تركي عراقي إيراني لوأد هذا الحلم! ترى قيادات حزب الاتحاد الديموقراطي السياسية والعسكرية أن التحالف مع القوى الدولية نابع من القدرة الكردية على أرض الواقع، وبحسب هذه القيادات التي تحدثت إليها «عكاظ»، فإن هذه القوة حالة طارئة على المنطقة وسرعان ما تزول، إلا أن تقاطع المصالح أمر واقعي في الحالة السورية، ومن هنا يتم النظر إلى التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.
في عفرين على وجه التحديد، اضطر الكرد إلى التفاهم مع الروس، ولعل هذا التفاهم هو بمثابة اللعب بالنار ويحتاج إلى مزيد من التفكير، إلا أنهم اتخذوا القرار لتكون روسيا بمثابة الضامن لأي اشتباك مع الجانب التركي الحدودي مع عفرين، وقد انتشر الروس عسكريا في كفر حمرا، وأخيرا تم الاتفاق على انتشار الشرطة العسكرية الروسية في الشهباء وتل رفعت من أجل تخفيف التوتر مع درع الفرات، لكن في المقابل يقصف الروس اليوم قوات سورية الديموقراطية «قسد» في دير الزور في إطار التنافس على السيطرة على أكبر قدر ممكن من محافظة دير الزور، وينظر الكرد بريبة إلى هذه الممارسات من الروس، ولعل هذا بداية اللعب بالنار الدولية، خصوصا أن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لم يحرك ساكنا حيال هذا القصف. وبين أمريكا وروسيا يطرح التساؤل نفسه ما هو مستقبل المشروع الكردي «الفيدرالي» في سورية.. إلا أن التجربة العسكرية في سورية تقول إن الكل مخدوع بالتحالفات المتقلبة، وخصوصا التحالفات مع القوى الدولية التي تنظر إلى كل القوى المحلية المتصارعة في سورية على أنها أوراق يمكن استخدامها في أية لحظة.
ومن الصعب الحكم على مصير أية تجربة في سورية، مادامت رائحة البارود تفوح فوق الأرض السورية، فالشكل النهائي لسورية في حالة صراع بين القوى المحلية فيما بينها من جهة، وبين الإرادات الدولية والإقليمية من جهة أخرى، لذا كل تجارب الحكم على الأرض قيد التنفيذ لم تنضج بعد.
التنقل بين حواجز الأعداء الطريق إلى عفرين محفوفة بالمخاطر، وحتى تصل إلى تلك المدينة لا بد لك أن تمر عبر حواجز درع الفرات التي ترى في تلك المدينة مصدر الخطر الأول والعدو الرئيسي،
باعتبار وحدات حماية الشعب هي من يسيطر على عفرين، ولعل حجم الدماء بين وحدات حماية الشعب وفصائل الجيش الحر، يكفي لتشكيل قاعدة الكراهية بين الطرفين.
ومع ذلك؛ ثمة إغراء أن تخترق حواجز الأعداء لتصل إلى تلك المدينة التي يغيب عنها الإعلام – عموما- نتيجة ظروف الحرب وتعقيدات الصراع في سورية.
بين بلدة إعزاز وعفرين، توقفنا عند الحاجز التابع لدرع الفرات، ومن بين كل من الأشخاص الذين يجلسون على مقاعدهم في الباص المتجه إلى إدلب، سألني المقاتل التابع لإحدى فصائل درع الفرات.. أنت أنت أعطني هويتك «إثباتك» حملت جوازي وقدمته فقال على الفور أين تريد أن تذهب قلت له إلى عفرين، قال «هل أنت كردي» قلت لا؛ عربي لكن أهلي يسكنون هناك.. تأمل فيّ.. وتابع «شكلك غريب».. لكنه تجاوز الأمر ومضى السائق إلى عفرين.. كان ذهاب الصحفي إلى عفرين شبهة تستحق العقاب لكننا نفذنا.
في طريق العودة، كان الأمر أكثر صعوبة؛ خصوصا أن القادم من تلك المدينة من المرجح أن يكون من وحدات حماية الشعب، سيئة الصيت في مناطق درع الفرات، وحين بلغنا حاجز درع الفرات الأول، اختارني أحد المراقبين على الحاجز من بين كل من يقل الباص، وأمر بإنزالي من الباص وذهب الباص.. تأمل فيّ وقال أعطني هويتك، قدمت الجواز وقال لي أريد هوية ألست سورياّ، أجبت؛ بلى لكني لا أملك هوية، صمت وذهب إلى غرفة الحراسة وجاء بمقاتل آخر، اقتادوني إلى تلك الغرفة وبدأت الأسئلة التقليدية عن هويتي ولماذا تذهب إلى عفرين.. انتهت الأسئلة بسلام، ومضيت إلى الحدود التركية مغادرا الأراضي السورية.
وأنا في الطريق إلى معبر الخروج عبر تركيا، كم هائل من الأسئلة يخترق دماغي، ماذا حدث في سورية؟ تقسيم، حواجز، قتال، مشاريع سياسية محاطة بالأعداء، شبان لا يتجاوزن الثلاثين عاما يمضون شبابهم على المعابر وعلى الجبهات، أصوات المدافع لا تتوقف، الموت في كل مكان، الحذر من الآخر سلاحك لتنجو من
أية مكيدة، لا ثقة بين الناس، لا أمل لا حياة.. جنون حقيقي الكل يود أن يعيش شاء أم أبى.
بصمات مراد قريلان في عفرين
ترك القيادي في حزب العمال الكردستاني مراد قريلان بصمته في مدينة عفرين منذ عقود، ففي نهاية السبعينات كانت معظم المناطق الكردية تعيش حالة يأس بعد انكسار ثورة ملا مصطفى البارزاني عام 1975، ذلك أن كردستان العراق كانت منبع الأحلام للكرد في المنطقة، ونتيجة التأثيرات الكردية الممتدة من السليمانية إلى عفرين آخر منطقة كردية في سورية.
بعد ما يقارب خمس سنوات من الانكسار الكردي في المنطقة، وفي مطلع الثمانينات بدأ حزب العمال الكردستاني نشاطه بين أكراد سورية، وكانت لعفرين خصوصيتها في اهتمامات الحزب ولعل هذا ما لمسناه في زيارة تلك المدينة؛ إذ إن العديد من الشبان من عفرين كانوا يقاتلون في جبال قنديل مع قائد حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا عبدالله أوجلان عادوا إلى مدينتهم مع بداية الأزمة السورية.
في بداية الثمانينات تولى مراد قريلان تأسيس الشبكة الحزبية في هذه المنطقة الجبلية. وباتت مع مرور الزمن أكثر المناطق التي توالي حزب العمال الكردستاني. البصمة التي تركها قريلان ورفاقه في الثمانينات والتسعينات ما زالت قائمة في الروح العسكرية التنظيمية، لذا فإن حزب الاتحاد الديموقراطي القريب أيديولوجيا من حزب العمال الكردستاني، يعد الوريث الحقيقي للإرث الكردستاني في سورية.
لذا قررنا الذهاب إلى عفرين ذلك الجسد المفصول عن «روج آفا» نتيجة تعقيدات الصراع السوري الجغرافية، وحتى تكتمل صورة المشروع الفيدرالي كان لا بد من زيارة مدينة الزيتون «عفرين».
بالفعل؛ تمكنا من الوصول إلى مدينة عفرين رغم صعوبات التنقل إلى هناك، باعتبار أن محيط هذه المدينة خصوم لوحدات حماية الشعب الكردية، والتقينا القيادات السياسية والعسكرية وحتى القيادات الدينية والمجتمعية، وتجولنا على خطوط النار وفي قلب المدينة لنتعرف على ما يجري فيها.
كان الحديث مع تلك القيادات مفتوحا على كل الأصعدة، تطرقنا إلى العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والنظام السوري والفصائل السورية المحيطة بالمدينة، والعلاقة المجتمعية مع حزب الاتحاد الديموقراطي، وما هي السيناريوهات التي تستعد لها تلك المدينة في ظل التقلبات الداخلية على الأرض السورية وكذلك الموقف الإقليمي من المشروع الفيدرالي. كان الهدف من زيارة عفرين، استعراض التجربة الفيدرالية كما هي على أرض الواقع، بعيدا عن الانفعالات والتحزبات والنظر إلى شكل سورية القديم «المركزي»، في الوقت الذي يتصاعد الحديث في سورية عن التقسيم وتشكيل سورية الجديدة! رغم أن العامل الأمني والقوة العسكرية الركيزة الأساسية في المشروع الفيدرالي - ذلك أن هذه القوة حافظت على الوجود الكردي في الشمال السوري-، إلا أن المظاهر العسكرية لم تظهر في مدينة عفرين؛ إذ خلت مظاهر العسكرية تماما في تلك المدينة المحاطة بجيوش جرارة من كل الاتجاهات، فالمدينة شبه معزولة عن المؤثرات الخارجية، وبالطبع هذه فلسفة وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديموقراطي، الذي يرى أن الأولوية لإيجاد مناطق آمنة تمكنه من إثبات أهمية وأهلية مشروعه الفيدرالي، ذلك أن عملة الأمن نادرة، بل تكاد مفقودة في سورية المتشظية.
في عفرين، لا تجد من يعارض التجربة الفيدرالية وسيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي علنا، لكن لا يخلو الأمر من امتعاضات غير معلنة، ففي سورية لم يعد ممكنا رفع الأصوات عاليا، فالحالة مازالت ضبابية سياسيا وعسكريا.. مصدر هذه الامتعاضات الخوف من تكاليف التجربة الفيدرالية الجديدة على الذهنية السورية، فالكل يريد أن يمر بسلام من هذه التجربة بعد أن دفع جميع السوريين ثمن التغيير.. بما فيهم النظام.
الحرب المرتقبة
تعتقد وحدات حماية الشعب «الكردية» في عفرين، أن الحرب قادمة إلى عفرين في أية لحظة، لذا فإن التجهيزات العسكرية على أطراف المدينة، خصوصا القريبة من مناطق درع الفرات تمتلك تحصينات عسكرية عميقة. وقد حاولنا الحصول على عدد المقاتلين من وحدات حماية الشعب، إلا أن الجواب دائما يأتي هناك ما يكفي، من خلال الأسئلة المتكررة لأكثر من قيادي، استنتجنا أن عدد المقاتلين يتجاوز 6 آلاف مقاتل- لكن هذا الرقم غير مؤكد-، منتشرين على الجبهات، بل إن هناك دفعة من المقاتلين خرجت إلى مدينة الرقة للمشاركة في قتال داعش تبلغ نحو 1500 مقاتل.
وعلى الرغم من أن مدينة عفرين وريفها، مناطق عسكرية إلا أننا لم نلحظ انتشار أي مقاتل من وحدات حماية الشعب في الريف أو المدينة. الواقع أن مدينة عفرين منظمة عسكريا وإداريا أكثر من غيرها من المقاطعات «الجزيرة- عين العرب (كوباني)».
أما السلاح، فهو الأمر الأكثر سهولة في الحروب، خصوصا إذا كانت مناطق التماس بين المتحاربين قريبة جدا؛ إذ أكد لنا أحد مسؤولي التنسيق بين القطاعات المقاتلة، أن السوق السوداء يمكن أن تؤمن لك ما تريد من السلاح، وخلال السنوات الست الماضية، استطاع العقل الذي يدير عفرين عسكريا أن يحصن نفسه بالسلاح بحيث أصبح لا حاجة البتة للسلاح من الخارج.
كان التصور العام أن الولايات المتحدة الأمريكية تزود وحدات حماية الشعب بالسلاح عبر مروحيات تنتقل من عين العرب (كوباني) إلى عفرين، إلا أن معظم المصادر أكدت أنه لا وجود لأي أمريكي على المستوى العسكري أو حتى على مستوى الإغاثي.
على العكس، بحسب ما تبين أن روسيا قدمت السلاح بشكل جزئي لوحدات حماية الشعب، مع تعاظم سيطرة الجهاديين (جبهة النصرة) على مدينة حلب في العام 2015 خوفا من تنامي قوة هؤلاء والتوجه إلى عفرين.
وقد توقف الدعم الروسي في الآونة الأخيرة، في حين أن قيادة وحدات حماية الشعب لم تطلب من روسيا الاستمرار بتزويدها بالسلاح في إشارة إلى الاكتفاء.
الأسمنت التركي واقتصاد الحروب
تجولنا في مدينة عفرين، التي بدت المدينة الأكثر انتظاما وترتيبا من بقية المدن الأخرى الخارجة عن سيطرة النظام، فلا بيوت مدمرة ولا مآذن متهاوية على الأرض، ولا آثار لجرائم الأسد هناك، بل إن حركة النمو العمراني تزدهر في هذه المدينة وكأنها معزولة عن الواقع السوري المشوه في كل الاتجاهات.. يبدو أنها «الناجية» الوحيدة من جحيم الحرب السورية – حتى الآن-.
يقول أحد العاملين في المحال التجارية، لم تكن عفرين بهذه الصورة قبل الثورة في العام 2011، بل كانت أسوأ من ذلك، لم تكن حركة العمران والتجارة بهذه الصورة، لقد أخذت المدينة بالنمو المتزايد خلال سنوات الصراع، بينما المدن الأخرى تدمرت.
سألنا هذا الشخص، وكيف تنمو عمرانيا وهي تحت الحصار من كل الأطراف، فأجاب حتى الأسمنت التركي يصل إلينا.. «إنها السوق السوداء».
التقطت «كاميرا» «عكاظ» شاحنات محملة بالأسمنت إنتاج «ماردين» التركية يتجه إلى مدينة عفرين.. إنه اقتصاد الحروب؛ كل شيء يمكن توفيره بالمال، لا عداوات في التجارة إنه «البزنس» الذي تنمو على أطرافه مدينة عفرين.
إستراتيجية الأمن والتعايش
يدرك حزب الاتحاد الديموقراطي أن مشروعه الفيدرالي في سورية تعتريه صعوبات كبيرة، على المستوى الداخلي والدولي والإقليمي، لذلك كانت الإستراتيجية توفير الأمن المفقود في بقية المدن والحفاظ على البنية التحتية في تلك المدن.
وبالفعل كان الهدف الأول من الوجود في كل مدينة هو تحقيق الأمن، وقد جلب هذا الأمر الكثير من رجال الأعمال من مدينة حلب وغيرها من المدن الأخرى إلى مدينة عفرين، هذا أدى إلى انتعاش المدينة تجاريا، حتى أن العديد من المصانع انتقلت إلى مدينة عفرين وباتت الصدر الأول في سورية، لقد أصبحت حلب المصغرة.
وكذلك الأمر التعايش، هو الفكرة الأساسية لحزب الاتحاد الديموقراطي، الذي كانت ترتكز فكرته على الحكم المحلي بالقوى المحلية المتوفرة، لذلك وفر المناخ للتعايش بين كل المكونات الكردية والعربية وغيرها، رغم الصبغة الكردية على هذه المدينة.
أهمية عفرين
تنتشر في محيط عفرين شرقا في إعزاز ومارع فصائل درع الفرات المدعومة تركياً.
أما جنوباً (ريف حلب الغربي وإدلب الشمالي) فتنتشر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، حركة أحرار الشام (التي انحلت في الآونة الأخيرة بعد معارك مع هيئة تحرير الشام)، حركة نور الدين الزنكي (انضمت إلى هيئة تحرير الشام وانفكت عنها لاحقاً) وبعض الفصائل المتفرقة مثل فيلق الشام.
أما بالنسبة لنبل
والزهراء الواقعتين جنوبي شرق عفرين فيتواجد فيهما الجيش السوري وميليشيات حزب الله ولجان محلية، إضافة لدوريات للشرطة العسكرية الروسية.
وفيما يتعلق بالتواجد الروسي في عفرين، فهناك نقطة عسكرية واحدة للمراقبة في كفر جنة، ودخل أخيراً مراقبون عسكريون روس إلى مدينة تل رفعت في مقاطعة الشهباء بناء على اتفاق أبرم مع الفصائل المتواجدة هناك للمراقبة، كما أن مدينة تل رفعت أعلنت كمنطقة لفض الاشتباك «وقف القتال».
الرقص على حبال روسيا وأمريكا
نتائج أي طبخة دولية دائما لا تناسب الكرد في المنطقة، منذ اتفاقية لوزان وسايكس بيكو في القرن الماضي التي يتهمها الكرد بأنها سلبت حقوقهم.. اليوم الكرد أقرب إلى المطبخ الدولي، بل جزء من هذه الطبخة «الدولة» على الأقل في سورية، فالعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية يريدها الأكراد ندية، إلا أنها بأي شكل من الأشكال علاقة تابعة، ذلك أن كل الانتصارات التي أحرزتها وحدات حماية الشعب الكردية كانت مرتبطة بالتغطية الأمريكية الجوية التي مهدت الطريق للسيطرة على منبج والرقة والآن قسم من دير الزور.
اللعب مع القوى الدولية ليس سهلا، فهل يدرك حزب الاتحاد الديموقراطي هذا المشهد في سورية، خصوصا بعد تجرية إقليم كردستان العراق بالاستفتاء على التصويت وإعلان الانفصال الذي قُوبل بتحالف تركي عراقي إيراني لوأد هذا الحلم! ترى قيادات حزب الاتحاد الديموقراطي السياسية والعسكرية أن التحالف مع القوى الدولية نابع من القدرة الكردية على أرض الواقع، وبحسب هذه القيادات التي تحدثت إليها «عكاظ»، فإن هذه القوة حالة طارئة على المنطقة وسرعان ما تزول، إلا أن تقاطع المصالح أمر واقعي في الحالة السورية، ومن هنا يتم النظر إلى التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.
في عفرين على وجه التحديد، اضطر الكرد إلى التفاهم مع الروس، ولعل هذا التفاهم هو بمثابة اللعب بالنار ويحتاج إلى مزيد من التفكير، إلا أنهم اتخذوا القرار لتكون روسيا بمثابة الضامن لأي اشتباك مع الجانب التركي الحدودي مع عفرين، وقد انتشر الروس عسكريا في كفر حمرا، وأخيرا تم الاتفاق على انتشار الشرطة العسكرية الروسية في الشهباء وتل رفعت من أجل تخفيف التوتر مع درع الفرات، لكن في المقابل يقصف الروس اليوم قوات سورية الديموقراطية «قسد» في دير الزور في إطار التنافس على السيطرة على أكبر قدر ممكن من محافظة دير الزور، وينظر الكرد بريبة إلى هذه الممارسات من الروس، ولعل هذا بداية اللعب بالنار الدولية، خصوصا أن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لم يحرك ساكنا حيال هذا القصف. وبين أمريكا وروسيا يطرح التساؤل نفسه ما هو مستقبل المشروع الكردي «الفيدرالي» في سورية.. إلا أن التجربة العسكرية في سورية تقول إن الكل مخدوع بالتحالفات المتقلبة، وخصوصا التحالفات مع القوى الدولية التي تنظر إلى كل القوى المحلية المتصارعة في سورية على أنها أوراق يمكن استخدامها في أية لحظة.
ومن الصعب الحكم على مصير أية تجربة في سورية، مادامت رائحة البارود تفوح فوق الأرض السورية، فالشكل النهائي لسورية في حالة صراع بين القوى المحلية فيما بينها من جهة، وبين الإرادات الدولية والإقليمية من جهة أخرى، لذا كل تجارب الحكم على الأرض قيد التنفيذ لم تنضج بعد.
التنقل بين حواجز الأعداء الطريق إلى عفرين محفوفة بالمخاطر، وحتى تصل إلى تلك المدينة لا بد لك أن تمر عبر حواجز درع الفرات التي ترى في تلك المدينة مصدر الخطر الأول والعدو الرئيسي،
باعتبار وحدات حماية الشعب هي من يسيطر على عفرين، ولعل حجم الدماء بين وحدات حماية الشعب وفصائل الجيش الحر، يكفي لتشكيل قاعدة الكراهية بين الطرفين.
ومع ذلك؛ ثمة إغراء أن تخترق حواجز الأعداء لتصل إلى تلك المدينة التي يغيب عنها الإعلام – عموما- نتيجة ظروف الحرب وتعقيدات الصراع في سورية.
بين بلدة إعزاز وعفرين، توقفنا عند الحاجز التابع لدرع الفرات، ومن بين كل من الأشخاص الذين يجلسون على مقاعدهم في الباص المتجه إلى إدلب، سألني المقاتل التابع لإحدى فصائل درع الفرات.. أنت أنت أعطني هويتك «إثباتك» حملت جوازي وقدمته فقال على الفور أين تريد أن تذهب قلت له إلى عفرين، قال «هل أنت كردي» قلت لا؛ عربي لكن أهلي يسكنون هناك.. تأمل فيّ.. وتابع «شكلك غريب».. لكنه تجاوز الأمر ومضى السائق إلى عفرين.. كان ذهاب الصحفي إلى عفرين شبهة تستحق العقاب لكننا نفذنا.
في طريق العودة، كان الأمر أكثر صعوبة؛ خصوصا أن القادم من تلك المدينة من المرجح أن يكون من وحدات حماية الشعب، سيئة الصيت في مناطق درع الفرات، وحين بلغنا حاجز درع الفرات الأول، اختارني أحد المراقبين على الحاجز من بين كل من يقل الباص، وأمر بإنزالي من الباص وذهب الباص.. تأمل فيّ وقال أعطني هويتك، قدمت الجواز وقال لي أريد هوية ألست سورياّ، أجبت؛ بلى لكني لا أملك هوية، صمت وذهب إلى غرفة الحراسة وجاء بمقاتل آخر، اقتادوني إلى تلك الغرفة وبدأت الأسئلة التقليدية عن هويتي ولماذا تذهب إلى عفرين.. انتهت الأسئلة بسلام، ومضيت إلى الحدود التركية مغادرا الأراضي السورية.
وأنا في الطريق إلى معبر الخروج عبر تركيا، كم هائل من الأسئلة يخترق دماغي، ماذا حدث في سورية؟ تقسيم، حواجز، قتال، مشاريع سياسية محاطة بالأعداء، شبان لا يتجاوزن الثلاثين عاما يمضون شبابهم على المعابر وعلى الجبهات، أصوات المدافع لا تتوقف، الموت في كل مكان، الحذر من الآخر سلاحك لتنجو من
أية مكيدة، لا ثقة بين الناس، لا أمل لا حياة.. جنون حقيقي الكل يود أن يعيش شاء أم أبى.
بصمات مراد قريلان في عفرين
ترك القيادي في حزب العمال الكردستاني مراد قريلان بصمته في مدينة عفرين منذ عقود، ففي نهاية السبعينات كانت معظم المناطق الكردية تعيش حالة يأس بعد انكسار ثورة ملا مصطفى البارزاني عام 1975، ذلك أن كردستان العراق كانت منبع الأحلام للكرد في المنطقة، ونتيجة التأثيرات الكردية الممتدة من السليمانية إلى عفرين آخر منطقة كردية في سورية.
بعد ما يقارب خمس سنوات من الانكسار الكردي في المنطقة، وفي مطلع الثمانينات بدأ حزب العمال الكردستاني نشاطه بين أكراد سورية، وكانت لعفرين خصوصيتها في اهتمامات الحزب ولعل هذا ما لمسناه في زيارة تلك المدينة؛ إذ إن العديد من الشبان من عفرين كانوا يقاتلون في جبال قنديل مع قائد حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا عبدالله أوجلان عادوا إلى مدينتهم مع بداية الأزمة السورية.
في بداية الثمانينات تولى مراد قريلان تأسيس الشبكة الحزبية في هذه المنطقة الجبلية. وباتت مع مرور الزمن أكثر المناطق التي توالي حزب العمال الكردستاني. البصمة التي تركها قريلان ورفاقه في الثمانينات والتسعينات ما زالت قائمة في الروح العسكرية التنظيمية، لذا فإن حزب الاتحاد الديموقراطي القريب أيديولوجيا من حزب العمال الكردستاني، يعد الوريث الحقيقي للإرث الكردستاني في سورية.