الرياض.. و«يا أهل الشميسي حرام»

تركي العسيري

* مكنتني الأيام الماضية التي قضيتها في الرياض مرافقاً لأخي الذي يرقد بهدوء واستسلام لقضاء الله وقدره وابتلائه، بعد أن استأصل أطباء مدينة الملك فهد الطبية نصف جهازه الهضمي.. من أن أعود إلى تلك الأماكن التي عرفتها، وتجولت فيها قبل ثلاثين عاماً.. بُغية استرجاع ذكريات الصبا أواخر التسعينات الهجرية، حين كنت أطارد أحلامي وطموحاتي التي ضاقت بها حدود مدينتي الجنوبية الصغيرة (بيشة)، فاتجهت صوب الرياض العاصمة التي كانت ولم تزل محجة الباحثين عن تحقيق الطموحات والمستقبل، والأحلام المشتهاة؛ والتي ما أن وصلتها أحمل طموحي وأحلامي وشبابي العشريني حتى شعرت «بصدمة حضارية» كتلك الصدمات التي يتعرض لها الشباب الريفيون حين يلجون أبواب المدن الكبيرة.
وكانت وجهتي إلى جريدة «الجزيرة» التي سبق لي نشر بعض محاولاتي الأولية بها.. طالباً عملاً وحاملاً بعض محاولاتي القصصية ومقالاتي المتواضعة.. فاستقبلني أخي الأستاذ/ خالد المالك رئيس التحرير.. ورحب بي، غير أنه طلب تجربتي من خلال قيامه بإجراء بعض التحقيقات الصحفية، وأذكر أنه طلب بأن أكتب تحقيقاً عن سوق «بن قاسم» ووقتها تعرفت على الأستاذ والأديب المحب/ حمد القاضي، عضو مجلس الشورى الحالي، والمشرف على صفحات الثقافة آنذاك، وقد لفتت نظري دماثة خلقه، ونبله، وسعيه لمساعدتي، وهي الصفات نفسها التي لم تغيرها السنون في «أبي بدر» طيب الله أيامه وأطال عمره.
وصارت الرياض بأحيائها القديمة سلواي وملعبي فمن المقيبرة والشميسي إلى منفوحة والعود والبطحاء وشارع الوزير والخزان.. والدار البيضاء التي كانت وقتها خارج الرياض.. لدرجة أنني كنت أقوم بنقل الركاب على سيارتي المهترئة من حراج «بن قاسم» إليها مقابل ريالات قليلة، وكنت أجد لذة -أين منها لذة اليوم؟- حين أتجول وفي سويعات الأصيل.. في شارع الوزير.. أمتع نظري.. (بماذا؟) وأتجول في الأسواق.. عارجاً على محلات بيع الأشرطة الغنائية الشعبية التي كانت منتشرة، وكنت معجباً بها انطلاقاً من ذائقتي الريفية مشنفاً أذني بـ: «ويا غايتي يا مرادي.. وخلاص يا زين من حبكم عزلنا.. ويا علي صحت أنا.. ويا أهل الشميسي حرام!». أيام.. يا رعاها الله..
الرياض اليوم.. لا يمكن مقارنتها بالرياض الأمس، لقد تغيرت كثيراً، فلم أكد أعرف المنزل الذي سكنت فيه، ولا الشارع الذي طالما عرفت كل ساكنيه، الرياض اليوم تشكل أنموذجاً للمدن العالمية الحديثة والمتطورة والمترامية الأبعاد التي تحظى كغيرها من مدن وقرى المملكة برعاية أهلتها لأن تكون على هذا النحو الذي نراه اليوم، ولولا البرد القارس الذي استقبلني، وحدَّ من جولاتي التذكارية لبحثت عن أشياء حميمية كنت ارتادها، وعن أشخاص نبلاء عرفتهم، ورغم أنني زرت الرياض كثيراً في زيارات سابقة وسريعة.. إلا أنني شعرت بمتعة كبيرة في زيارتي هذه لطولها.. رغم أنها زيارة لظرف مؤلم.
الرياض اليوم.. ازدادت جمالاً وتطوراً وبهاءً.. لكن ما حيلتي أنا الذي أفنيت العمر كله أبحث عن أحلام لم تتحقق، وقيم لم أجدها، ومدن أبت إلا أن تلفظني في النهاية.. فلا مكان فيها للحالمين، والباحثين عن الأوهام، ورقة الحال.. إلى الله المشتكى!!
تلفاكس 076221413