باحثون: آن الأوان لدخول الفلسفة الجامعات والمناهج التعليمية
أكدوا أن المشهد الثقافي يعاني تخمة الأطروحات الأدبية مقابل الفكرية
السبت / 29 / صفر / 1439 هـ السبت 18 نوفمبر 2017 02:26
أروى المهنا (الرياض) arwa_almohanna@
لم تحظ الفلسفة بدراسة جدية حول أهمية حضورها في المناهج التعليمية السعودية كونها تشكل ارتياباً حاداً لدى شريحة كبيرة في المجتمع، بالرغم من أن مواكبة التطورات الآنية تستلزم أن نفتح باب الممنوع، وأن نقرأ مناهجنا من جديد، وأن نعتمد السؤال والبحث بدلاً من التلقين.
انطلاقاً من هذا تتساءل الباحثة والكاتبة داليا تونسي في حديثها لـ«عكاظ» عن ما إذا كانت ستقودنا مناهج تعليم التفلسف في هذه الفترة المهمة والانتقالية التي تعيشها المملكة «للإجابة عن ذلك قبل أن نفكر جيدا في السؤال التالي: من الإنسان الذي نرغب في أن يكون نموذجا اجتماعيا في الفترة القادمة؟ هل حان الوقت لدخول الفلسفة للجامعات في ظل التغيرات التي تشهدها المملكة؟
قوة الفكرة الجمعانية
الإجابة عن هذا السؤال الأولي غاية في الأهمية، لأنه رغم أن التغير سيحدث لا محالة نتيجة للتطورات في شكل وطبيعة النموذج الاقتصادي الجديد، فإن هذا الإصلاح الاقتصادي الحثيث الذي تسير الدولة في اتجاهه لا يكفي وحده كأداة للتغير الاجتماعي -حسب وصفها «نحن مجتمع يرزح لمدة طويلة تحت سطوة طيف قوي من أطياف الشمولية الاجتماعية، وتأثر التكوين النفسي والقيمي والثقافي للفرد بقوة الفكرة الجمعانية لدينا ليس أمرا هينا، وهذا ليس سيئا في كل الأحوال، فلسطوة الموروث إيجابيات في تحديد سمت المجتمع وذوقه العام».
في السياق ذاته، تشير إلى أن الجمعانية المفرطة التي نعاني منها لفترة طويلة، تضعف البوصلة الداخلية للفرد وتجعل قدرته على التعليل القيمي والأخلاقي سطحية وهشة، «لأن القيم في معظمها كانت ومازالت تملى على الفرد ولا يملك رفاهية اختبارها وتجريبها، فإن ما يتعرف عليه الفرد في المدارس والجامعات من مفاهيم العدل والخير والصلاح والمواطنة، وما يتعلمه عن الأخلاق والنزاهة والصواب والخطأ، غير كاف لمواجهة تحديات الحياة اليومية بصورة مرضية أخلاقيا، ورغم أنه يغذى منذ نعومة أظافره بالموروث الأخلاقي دينيا وثقافيا من خلال مفاهيم العيب والحرام، فما بالنا بهذا الفرد الذي سينقل نقلة نوعية هائلة، بشكل مفاجئ ودون إعداد متدرج، من قيم الموروث والجمعاني إلى ثقافة السوق الحرة والتوجه النيولبرالي للدولة! ما الذي سيحدث له إذا لم يسلح بقوة الفكرة والقدرة على تصور المفاهيم والجرأة على السؤال؟ مؤكدة بأن الفلسفة مطلب مهم للغاية في المرحلة القادمة، وليس متوقعا من الفلسفة أن تحل المشكلات الاجتماعية بشكل جذري، لكن أسلوب التفكير الفلسفي والذي يسمح للمرء ببناء الفكرة من داخل ذاته ويعطيه امتياز نقدها وحق تجريبها وتقويضها وتطويرها أو تجاوزها، بدءًا من المفهوم ومرورا بفلاتر القيم المجتمعية والعالمية ثم انتهاء بالتطبيق، قد يكون أسلوبا جيدا للعيش بطريقة متوازنة بين ضغوط الثقافة المحلية العامة ومتطلبات الفرد العالمي في العالم الحديث الذي نفتح أبوابه مشرعة لنا في العشر سنوات القادمة.
تعلم بعد وجع
ويرى الكاتب عبدالرحمن مرشود «أنه لا يمكننا التحول من طور استهلاك الحضارة إلى طور المشاركة في إنتاجها إلا بتحويل العقل نفسه من حالة التلقي السلبي إلى حالة التعرف النشط، ولا يمكن الوصول إلى هذه الحالة إلا عبر إعادة النظر في طرق قراءتنا للعالم ومحاولة صياغتها من جديد. وهذا تماما ما تفعله الفلسفة -على حسب وصفه. ليس بالضرورة أن يكون الجميع فلاسفة لنصل إلى ذلك، ولكن من المهم أن تكون الروح الفلسفية حاضرة في نقاشات المثقفين منا وتساؤلاتهم، بل وحتى عند متناولي أبسط القضايا المتعلقة بالشارع لدينا، نفتقر إلى هذا بشدة على كافة المستويات تقريبا، ونحتاج الكثير من الروح الفلسفية التي تجبرنا من وقت إلى آخر على مراجعة طرقنا الإدارية وأساليبنا التربوية ومفاهيمنا الأخلاقية وآليات تعاطينا مع الحياة عموما، لا أكاد أرى شيئا من ذلك تقريبا فطرق التفكير الشائعة لدينا تعتمد على إستراتيجية (التعلم بعد الوجع)، وهذا بعض ما تلوذ الناس إلى الفلسفة من أجل تجنبه، إذ ليس على رؤوسنا التعرض لمطارق الحياة في كل مرة من أجل الفهم بل عليها الفهم دائما من أجل تفادي مطارق الحياة».
وأشار إلى أن الفلسفة كحقل معرفي تحظى باحترام كل المهتمين بالبناء الإنساني وما زالت تتموضع في قلب اهتمامات المنشآت الأكاديمية العريقة في العالم؛ لأنها ما زالت هي الموجه الأهم لكيفية استعمال العلوم وتذوق الفنون ولحام ذلك كله في أي مشروع حضاري. من البائس أن تخلو صروحنا الأكاديمية من أقسام الفلسفة حتى الآن. لست أرى أن الوقت مناسب لدخول الفلسفة إلى خططنا التعليمية فحسب، بل أرى هذا مطلبا ملحا لا ينبغي إهمال استدراكه بعد الآن. لقد كانت تعيق دخولها اعتبارات لعقلية وسواسية كثيرا ما أضرت بنا وعطلتنا عن المجاراة الإيجابية للعالم.
وأضاف: علينا أن نكف عن محاباة ذلك الارتياب وأن نبدأ في مصافحة الكون بعقولنا من خلال الفلسفة. وفي ظل هذا التعريف الشامل لكل هذه الأدوات الفلسفية التي تحتاج إلى المزيد من البحث والتنقيب.
أسباب تدريس الفلسفة
أما الباحث في الفلك الفلسفي سليمان السلطان، فيتطرق إلى جملة من الأسباب والعوامل التي تجعل من تدريس الفلسفة حاجة مهمة في السعودية، ومن هذه الأسباب والعوامل ما هو متعلق بالفلسفة بحد ذاتها، ومنها ما هو متعلق بما هو خارجها -على حد وصفه، «جل العوامل على حد سواء تدعو إلى أهمية تدريس الفلسفة لا في الجامعة وحسب، بل حتى في مراحل دراسية أبكر من ذلك كما هو مشاهد أن الوطن يخطو خطوات جريئة لمعانقة مرحلة جديدة، ومن أهم معالم هذه المرحلة هو الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي، ومواكبة العصر في التطوير والتحديث، وإذا تأملنا ما يمكن أن تضيفه الفلسفة كحقل معرفي إنساني من فوائد ندرك حقا أهميتها في الإسراع بتحقيق ما يصبو له الوطن خصوصا في هذه المرحلة، جوهر الفلسفة لا يكمن وحسب في التحريض على التفكير المنهجي، بل أيضا الانفتاح على تفكير الآخرين؛ لأن التفكير نشاط تشترك به البشرية جمعاء، وكذلك هذا الانفتاح هو انفتاح حضاري».
وأشار إلى أن المتأمل لحال الثقافة السعودية، يلحظ بوضوح شحا في الأطروحات الفكرية مقابل «تخمة» في الأدبية، «مرد التخمة في الأطروحات الأدبية -في نظري- هو غياب تداولية الفلسفة في هذا الخطاب الثقافي، بل إن هذا انعكس سلبا على الخطاب الأدبي أيضا، إذ هو غارق في المحلية أكثر من العالمية، الأمر الذي لا يؤهله أن يشارك خارج تخوم الوطن إلا نادرا، فالفلسفة ليست بحد ذاتها لغة عالمية وحسب، بل هي دالة على ما يشغل الفكر العالمي وتكشف لنا روح التاريخ، وتدريسها سوف يساهم في خلق بيئة حاضنة لها تعزز من قدرة الخطاب الثقافي على التواصل خارج تخوم الوطن، وهو أمر منشود مع الإطلالة الجديدة التي تصبو المملكة إليها».
وأضاف: أمر آخر متعلق بطبيعة التفكير العلمي والنقدي مقابل الانغماس بالتحفيظ والتلقين، من أكثر مظاهر التعليم لدينا من حيث المساوئ هو طغيان الجانب التلقيني وثقافة الحفظ على حساب الجانب الإبداعي والعلمي، والفلسفة هي أداة للتفكير المنهجي، وتحض دارسها على أن يمارس التفكير بكل أريحية ورحابة، وأن يفكر خارج الصندوق من خلال ممارسة النقد لما هو متبع؛ لذا نجد أن الكثير من الأفكار الإبداعية سواء في الفن أو العلم نبعت من أفكار فلسفية منذ البدء. في ظل غياب دور المرأة الفيلسوفة أو حضورها الفقير في عوالم الفلسفة أمام أسماء نسوية عديدة شغلهن التفكير الفلسفي، يعزي المتخصص في الحقل الفلسفي الدكتور حسن الشريف أن المرأة لم تغب عن حقل الفلسفة منذ العهد الإغريقي وحتى الآن، حضور المرأة الفيلسوفة مقارنة بالرجل يعتبر ضعيفا، وبلا شك أن هيمنة النظرة الذكورية على الفكر الإنساني أثرت سلبا على وضع المرأة ليس فقط في الفلسفة وإنما في كل حقول المعرفة ومجالات الحياة العامة.
غير أن الملفت للنظر بحسب الشريف، أن المرأة استطاعت أن تحرز تقدما مهما في كثير من تلك المجالات إثر تنامي حركة حقوق المرأة على خلاف تقدمها في مجال الفلسفة والذي لا يزال حبوا.
وهذا يجعلنا نتساءل عن الأسباب الخاصة بالمجال الفلسفي التي جعلت المرأة أقل تقدما فيه من كثير من المجالات الأخرى، ويرجح الشريف هذا الغياب إلى أن مجال الفلسفة تشترك فيه المرأة مع الرجال في ذلك مع مجال الأديان أيضا يحتوي على حمولة أكثر تركيزا من النظرة الذكورية من المجالات الأخرى، سواء من ناحية المحتوى المعرفي أو من ناحية الدور المناط بالمشتغلين بهذين المجالين على حسب وصفه «المجالين - في جزء كبير منهما - تعتبر مجالات معيارية، إذ لا تقفان فقط عند وصف الظواهر، بل هي معنية أيضا بتقييمها وبما يجب أن تكون عليه. الشريف يعتقد أن هذا الأمر جعلهما تاريخيا أكثر المجالات تشربا وتصديرا للنظرة الذكورية. فمنذ العصر الإغريقي وحتى عصر الحداثة نجد أن المحتوى المعرفي لهذين المجالين تتضمن آراء كثيرة تحط من قيمة المرأة، بتقليص حقوقها وحصر أدوارها في الحياة في مجالات ضيقة. وبلا شك أن هكذا محتوى جعل المرأة أقل ميلا للخوض فيه تاريخيا، ومازال تأثير ذلك حاضرا.
وأشر إلى أن الطبيعة المعيارية لهذين المجالين، جعلت المشتغل فيهما ذا دورا توجيهيا لخاصة المجتمع وعامته. وهو تاريخيا من أكثر الأدوار استعصاء على المرأة لما يتضمنه دور التوجيه من إيحاء بالفوقية، وهو عكس تماما النظرة الذكورية السائدة حينئذ للمرأة والتي تراها في رتبة أقل من رتبة الرجل، ما جعل المرأة أقل ميلا لاقتحام هذا المجال كما يرى «أن هذه الحمولة الثقيلة من النظرة الذكورية أثرت سلبا على حركة تاريخ الفلسفة والتي نشطت في القرن التاسع عشر، فلم يول المؤرخون النساء البارزات في المجال الفلسفي في العصر الإغريقي والعصر الوسيط العناية اللائقة بتراثهن، الأمر الذي جعل حضورهن في المكتبة الفلسفية المعاصرة أقل مما يستحق».
وأكد أن هيمنة النظرة الذكورية وشدة تركيزها في المجال الفلسفي كانت من أهم الأسباب وراء ضعف حضور المرأة فيه، لكنه ليس الوحيد هناك أسباب أخرى مهمة تعود لطبيعة الفلسفة وللطريقة التي تُدرس بها. فالفلسفة مجال تجريدي، والطريقة التي تدرس بها هي طريقة الجدل السقراطية، وكلاهما أمران يجعلان المرأة في منطقة تعتبر أقل راحة لها من الرجل، وهو ما يعطي تفسيرا آخر لقلة ميل النساء للفلسفة مقارنة بالرجل.
انطلاقاً من هذا تتساءل الباحثة والكاتبة داليا تونسي في حديثها لـ«عكاظ» عن ما إذا كانت ستقودنا مناهج تعليم التفلسف في هذه الفترة المهمة والانتقالية التي تعيشها المملكة «للإجابة عن ذلك قبل أن نفكر جيدا في السؤال التالي: من الإنسان الذي نرغب في أن يكون نموذجا اجتماعيا في الفترة القادمة؟ هل حان الوقت لدخول الفلسفة للجامعات في ظل التغيرات التي تشهدها المملكة؟
قوة الفكرة الجمعانية
الإجابة عن هذا السؤال الأولي غاية في الأهمية، لأنه رغم أن التغير سيحدث لا محالة نتيجة للتطورات في شكل وطبيعة النموذج الاقتصادي الجديد، فإن هذا الإصلاح الاقتصادي الحثيث الذي تسير الدولة في اتجاهه لا يكفي وحده كأداة للتغير الاجتماعي -حسب وصفها «نحن مجتمع يرزح لمدة طويلة تحت سطوة طيف قوي من أطياف الشمولية الاجتماعية، وتأثر التكوين النفسي والقيمي والثقافي للفرد بقوة الفكرة الجمعانية لدينا ليس أمرا هينا، وهذا ليس سيئا في كل الأحوال، فلسطوة الموروث إيجابيات في تحديد سمت المجتمع وذوقه العام».
في السياق ذاته، تشير إلى أن الجمعانية المفرطة التي نعاني منها لفترة طويلة، تضعف البوصلة الداخلية للفرد وتجعل قدرته على التعليل القيمي والأخلاقي سطحية وهشة، «لأن القيم في معظمها كانت ومازالت تملى على الفرد ولا يملك رفاهية اختبارها وتجريبها، فإن ما يتعرف عليه الفرد في المدارس والجامعات من مفاهيم العدل والخير والصلاح والمواطنة، وما يتعلمه عن الأخلاق والنزاهة والصواب والخطأ، غير كاف لمواجهة تحديات الحياة اليومية بصورة مرضية أخلاقيا، ورغم أنه يغذى منذ نعومة أظافره بالموروث الأخلاقي دينيا وثقافيا من خلال مفاهيم العيب والحرام، فما بالنا بهذا الفرد الذي سينقل نقلة نوعية هائلة، بشكل مفاجئ ودون إعداد متدرج، من قيم الموروث والجمعاني إلى ثقافة السوق الحرة والتوجه النيولبرالي للدولة! ما الذي سيحدث له إذا لم يسلح بقوة الفكرة والقدرة على تصور المفاهيم والجرأة على السؤال؟ مؤكدة بأن الفلسفة مطلب مهم للغاية في المرحلة القادمة، وليس متوقعا من الفلسفة أن تحل المشكلات الاجتماعية بشكل جذري، لكن أسلوب التفكير الفلسفي والذي يسمح للمرء ببناء الفكرة من داخل ذاته ويعطيه امتياز نقدها وحق تجريبها وتقويضها وتطويرها أو تجاوزها، بدءًا من المفهوم ومرورا بفلاتر القيم المجتمعية والعالمية ثم انتهاء بالتطبيق، قد يكون أسلوبا جيدا للعيش بطريقة متوازنة بين ضغوط الثقافة المحلية العامة ومتطلبات الفرد العالمي في العالم الحديث الذي نفتح أبوابه مشرعة لنا في العشر سنوات القادمة.
تعلم بعد وجع
ويرى الكاتب عبدالرحمن مرشود «أنه لا يمكننا التحول من طور استهلاك الحضارة إلى طور المشاركة في إنتاجها إلا بتحويل العقل نفسه من حالة التلقي السلبي إلى حالة التعرف النشط، ولا يمكن الوصول إلى هذه الحالة إلا عبر إعادة النظر في طرق قراءتنا للعالم ومحاولة صياغتها من جديد. وهذا تماما ما تفعله الفلسفة -على حسب وصفه. ليس بالضرورة أن يكون الجميع فلاسفة لنصل إلى ذلك، ولكن من المهم أن تكون الروح الفلسفية حاضرة في نقاشات المثقفين منا وتساؤلاتهم، بل وحتى عند متناولي أبسط القضايا المتعلقة بالشارع لدينا، نفتقر إلى هذا بشدة على كافة المستويات تقريبا، ونحتاج الكثير من الروح الفلسفية التي تجبرنا من وقت إلى آخر على مراجعة طرقنا الإدارية وأساليبنا التربوية ومفاهيمنا الأخلاقية وآليات تعاطينا مع الحياة عموما، لا أكاد أرى شيئا من ذلك تقريبا فطرق التفكير الشائعة لدينا تعتمد على إستراتيجية (التعلم بعد الوجع)، وهذا بعض ما تلوذ الناس إلى الفلسفة من أجل تجنبه، إذ ليس على رؤوسنا التعرض لمطارق الحياة في كل مرة من أجل الفهم بل عليها الفهم دائما من أجل تفادي مطارق الحياة».
وأشار إلى أن الفلسفة كحقل معرفي تحظى باحترام كل المهتمين بالبناء الإنساني وما زالت تتموضع في قلب اهتمامات المنشآت الأكاديمية العريقة في العالم؛ لأنها ما زالت هي الموجه الأهم لكيفية استعمال العلوم وتذوق الفنون ولحام ذلك كله في أي مشروع حضاري. من البائس أن تخلو صروحنا الأكاديمية من أقسام الفلسفة حتى الآن. لست أرى أن الوقت مناسب لدخول الفلسفة إلى خططنا التعليمية فحسب، بل أرى هذا مطلبا ملحا لا ينبغي إهمال استدراكه بعد الآن. لقد كانت تعيق دخولها اعتبارات لعقلية وسواسية كثيرا ما أضرت بنا وعطلتنا عن المجاراة الإيجابية للعالم.
وأضاف: علينا أن نكف عن محاباة ذلك الارتياب وأن نبدأ في مصافحة الكون بعقولنا من خلال الفلسفة. وفي ظل هذا التعريف الشامل لكل هذه الأدوات الفلسفية التي تحتاج إلى المزيد من البحث والتنقيب.
أسباب تدريس الفلسفة
أما الباحث في الفلك الفلسفي سليمان السلطان، فيتطرق إلى جملة من الأسباب والعوامل التي تجعل من تدريس الفلسفة حاجة مهمة في السعودية، ومن هذه الأسباب والعوامل ما هو متعلق بالفلسفة بحد ذاتها، ومنها ما هو متعلق بما هو خارجها -على حد وصفه، «جل العوامل على حد سواء تدعو إلى أهمية تدريس الفلسفة لا في الجامعة وحسب، بل حتى في مراحل دراسية أبكر من ذلك كما هو مشاهد أن الوطن يخطو خطوات جريئة لمعانقة مرحلة جديدة، ومن أهم معالم هذه المرحلة هو الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي، ومواكبة العصر في التطوير والتحديث، وإذا تأملنا ما يمكن أن تضيفه الفلسفة كحقل معرفي إنساني من فوائد ندرك حقا أهميتها في الإسراع بتحقيق ما يصبو له الوطن خصوصا في هذه المرحلة، جوهر الفلسفة لا يكمن وحسب في التحريض على التفكير المنهجي، بل أيضا الانفتاح على تفكير الآخرين؛ لأن التفكير نشاط تشترك به البشرية جمعاء، وكذلك هذا الانفتاح هو انفتاح حضاري».
وأشار إلى أن المتأمل لحال الثقافة السعودية، يلحظ بوضوح شحا في الأطروحات الفكرية مقابل «تخمة» في الأدبية، «مرد التخمة في الأطروحات الأدبية -في نظري- هو غياب تداولية الفلسفة في هذا الخطاب الثقافي، بل إن هذا انعكس سلبا على الخطاب الأدبي أيضا، إذ هو غارق في المحلية أكثر من العالمية، الأمر الذي لا يؤهله أن يشارك خارج تخوم الوطن إلا نادرا، فالفلسفة ليست بحد ذاتها لغة عالمية وحسب، بل هي دالة على ما يشغل الفكر العالمي وتكشف لنا روح التاريخ، وتدريسها سوف يساهم في خلق بيئة حاضنة لها تعزز من قدرة الخطاب الثقافي على التواصل خارج تخوم الوطن، وهو أمر منشود مع الإطلالة الجديدة التي تصبو المملكة إليها».
وأضاف: أمر آخر متعلق بطبيعة التفكير العلمي والنقدي مقابل الانغماس بالتحفيظ والتلقين، من أكثر مظاهر التعليم لدينا من حيث المساوئ هو طغيان الجانب التلقيني وثقافة الحفظ على حساب الجانب الإبداعي والعلمي، والفلسفة هي أداة للتفكير المنهجي، وتحض دارسها على أن يمارس التفكير بكل أريحية ورحابة، وأن يفكر خارج الصندوق من خلال ممارسة النقد لما هو متبع؛ لذا نجد أن الكثير من الأفكار الإبداعية سواء في الفن أو العلم نبعت من أفكار فلسفية منذ البدء. في ظل غياب دور المرأة الفيلسوفة أو حضورها الفقير في عوالم الفلسفة أمام أسماء نسوية عديدة شغلهن التفكير الفلسفي، يعزي المتخصص في الحقل الفلسفي الدكتور حسن الشريف أن المرأة لم تغب عن حقل الفلسفة منذ العهد الإغريقي وحتى الآن، حضور المرأة الفيلسوفة مقارنة بالرجل يعتبر ضعيفا، وبلا شك أن هيمنة النظرة الذكورية على الفكر الإنساني أثرت سلبا على وضع المرأة ليس فقط في الفلسفة وإنما في كل حقول المعرفة ومجالات الحياة العامة.
غير أن الملفت للنظر بحسب الشريف، أن المرأة استطاعت أن تحرز تقدما مهما في كثير من تلك المجالات إثر تنامي حركة حقوق المرأة على خلاف تقدمها في مجال الفلسفة والذي لا يزال حبوا.
وهذا يجعلنا نتساءل عن الأسباب الخاصة بالمجال الفلسفي التي جعلت المرأة أقل تقدما فيه من كثير من المجالات الأخرى، ويرجح الشريف هذا الغياب إلى أن مجال الفلسفة تشترك فيه المرأة مع الرجال في ذلك مع مجال الأديان أيضا يحتوي على حمولة أكثر تركيزا من النظرة الذكورية من المجالات الأخرى، سواء من ناحية المحتوى المعرفي أو من ناحية الدور المناط بالمشتغلين بهذين المجالين على حسب وصفه «المجالين - في جزء كبير منهما - تعتبر مجالات معيارية، إذ لا تقفان فقط عند وصف الظواهر، بل هي معنية أيضا بتقييمها وبما يجب أن تكون عليه. الشريف يعتقد أن هذا الأمر جعلهما تاريخيا أكثر المجالات تشربا وتصديرا للنظرة الذكورية. فمنذ العصر الإغريقي وحتى عصر الحداثة نجد أن المحتوى المعرفي لهذين المجالين تتضمن آراء كثيرة تحط من قيمة المرأة، بتقليص حقوقها وحصر أدوارها في الحياة في مجالات ضيقة. وبلا شك أن هكذا محتوى جعل المرأة أقل ميلا للخوض فيه تاريخيا، ومازال تأثير ذلك حاضرا.
وأشر إلى أن الطبيعة المعيارية لهذين المجالين، جعلت المشتغل فيهما ذا دورا توجيهيا لخاصة المجتمع وعامته. وهو تاريخيا من أكثر الأدوار استعصاء على المرأة لما يتضمنه دور التوجيه من إيحاء بالفوقية، وهو عكس تماما النظرة الذكورية السائدة حينئذ للمرأة والتي تراها في رتبة أقل من رتبة الرجل، ما جعل المرأة أقل ميلا لاقتحام هذا المجال كما يرى «أن هذه الحمولة الثقيلة من النظرة الذكورية أثرت سلبا على حركة تاريخ الفلسفة والتي نشطت في القرن التاسع عشر، فلم يول المؤرخون النساء البارزات في المجال الفلسفي في العصر الإغريقي والعصر الوسيط العناية اللائقة بتراثهن، الأمر الذي جعل حضورهن في المكتبة الفلسفية المعاصرة أقل مما يستحق».
وأكد أن هيمنة النظرة الذكورية وشدة تركيزها في المجال الفلسفي كانت من أهم الأسباب وراء ضعف حضور المرأة فيه، لكنه ليس الوحيد هناك أسباب أخرى مهمة تعود لطبيعة الفلسفة وللطريقة التي تُدرس بها. فالفلسفة مجال تجريدي، والطريقة التي تدرس بها هي طريقة الجدل السقراطية، وكلاهما أمران يجعلان المرأة في منطقة تعتبر أقل راحة لها من الرجل، وهو ما يعطي تفسيرا آخر لقلة ميل النساء للفلسفة مقارنة بالرجل.