سيرة مبنى في نيويورك
السبت / 29 / صفر / 1439 هـ السبت 18 نوفمبر 2017 02:38
منيرة الغدير *
كتابة سيرة العودة مرتبة زمنياً قد لا تكون ممكنة لعدة أسباب تصيب الأنا الكاتبة: تعذر السرد المخلص لقلائد الزمن، السأم من التطواف حول مفردة واحدة، «العودة» حتى وإن كانت كما ذكرتُ لا تأتي وحدها وإنما تسوق قطعاناً من النصوص والأخيلة، وأيضاً لأن «إغراء الذاكرة» الذي لم يقاومه جاك دريدا في كتابه (أطياف ماركس) يدفع للاستسلام لانهمارها. واضح أن العودة لم تعد إلى المكان الذي تَهُمُ بحشد مفردات الوصف فيه، فما زلتُ أرنو للمكان الآخر كراحة من وصف زمن حاضر من الصعب التقاطه.
انتقلتْ الذاكرة حيث كنتُ عندما وصلت إلى نيويورك من بوسطن في يوم شتائي. توقفت بحقائبي أمام المبنى الذي كنت سأسكنه حيث أخبروني أن شقتي في الدور السادس؛ المبنى في مرتفعات مورنينج سايد وهي تغطي مساحة كبيرة من أعالي مانهاتن ويحيطها من الغرب نهر هدسون الذي تغنى به شعراء عدة ومنهم والت ويتمان وهارت كرين ويسمى «نهر أمريكا» كما يقول الباحث بول كين في مقاله، «شعر نهر هدسون». العنوان متقاطع مع برودواي الذي يمتد حتى جامعة كولومبيا شرقاً ومن الجهة الأخرى يصل إلى حيث المسارح التي جعلت اسمه يشتهر في العالم. تمتد في هذه المنطقة واحدة من أرقى حدائق مانهاتن، ريفر سايد بارك بمحاذاة النهر التي كانت ممشى أقضي فيه ساعة أو أكثر يومياً لصقل الروح والأفكار، وبعثرة ما قد يعتري النفس من توتر. وكحل لأزمة السكن التي تعاني منها، اشترتْ جامعة كولومبيا المبنى مع مجموعة من المباني لسكن الأساتذة والباحثين؛ وبعض العمارات قد بُنيت قبل الحرب العالمية الأولى وما زالت تجعل المتجول والمعماري يهيمان بتلك الحقب التاريخية العتيقة فهي ما زالت مطاردة بأطيافها. كيف كانت نيويورك قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها؟ سؤال ينشغل به هذا المقال وبعض من سياقه سيأتي في أسبوع قادم.
هيئة المبنى من الخارج تدل على صيانة منتظمة حتى أنني لم أتوقع أنه تم بناؤه ما قبل الحرب. وعلى الرغم من معرفتي بنيويورك التي كانت أول مدينة أزورها في الولايات المتحدة ومن ثم درست في إحدى مدن الولاية، إلا أن هيبتها اصطحبتني حين دخلتُ للبهو المتوجس بمرايا كبيرة صُفتْ بشكل يصيب الرائي بالارتباك وتبين لي في ما بعد أنها تكشف أي متسلل للمبنى في غفلة الداخلين والخارجين؛ وربما أن ما اجتاحني هو مزيج من جماليات القلق الذي تجلبه هذه المدينة التي أسرت المهاجرين والشعراء، والفقراء والأثرياء. فنيويورك تجمع كل ما أُطلقَ عليها من صفات تفضيل وتهويل بحيث يأسرُ هذا الاسم الزائر حتى وإن كانت معرفته وافية. ولذلك بانت الايحاءات لحظة توقفي أمام المبنى الناجي من تاريخ الحرب رمزياً والذي يجعله قطعة معمارية تستدعي قراءة فرويد و(أطياف ماركس) لجاك دريدا الذي حول نصه إلى مسرح يربط النصوص/الأشباح/الأطياف بمفهوم العودة: من شبح الأب الذي ألهم شكسبير مسرحية (هاملت) كما يلمح دريدا، وهو الشبح نفسه الذي حضر في كتاب كارل ماركس وفريدريك إنجلز (البيان الشيوعي)، ومن ثم لاحق نص «أزمة نفس» للشاعر الفرنسي، بول فاليري الذي استدعى فيه «هاملت الأوروبي» و«هاملت المثقف» حيث يصوره: فهو يتأمل حياة الحقائق وموتها. فالشبح الذي عنده، هو كل مواضيع منازعاتنا. والندم الذي يحسه، هو كل عناوين مجدنا».
هذا التناص الشبحي الذي يربط النصوص شعرتُ به حاضراً حيث شبح الثورة الرأسمالية يحوم حول مباني مرتفعات مورنينج سايد. فاصطحب قِدَم المسكن صور نزوح الأمريكيين إلى المدن الكبيرة بعد أن كانوا يعيشون في المزارع وقدوم أفواج المهاجرين مما ساهم في ازدهار الاقتصاد؛ حتى أن ثقافة الاستهلاك كانت من سمات المجتمع الأمريكي حينذاك الذي سارع لاقتناء الآلات والتقنيات الجديدة (السيارة، المذياع، التلفاز، والثلاجة) وبدأ الترفيه يصنع سوقاً جديدة للسينما، والحفلات الموسيقية وخاصة الجاز. أيضاً في نفس الفترة وبالتحديد في عام ١٩٢٠، كفل التعديل الدستوري الـ19 للدستور حق الانتخاب للمرأة في أمريكا. كل ركن في المبنى أثار توجسي، فلم أعرف هل هي عبارة «ما قبل الحرب» أم الحضور الشبحي الذي وصفه جاك دريدا: «الطيف هو دمج متناقض»؟ أو قد يكون تاريخه المشحون بالأحداث في عشرينات القرن الماضي ذات المسميات الكثيرة، بعضها رمزي الدلالة لما احتشدت به تلك الحقبة من تغيرات وخصوصا بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة وكأنها تمرد الإنسان على العنف والموت: العشرينات الصاخبة (Roaring Twenties)، عصر الجاز، نهضة هارلم، وغيرها من المسميات. أيضاً هذا التغيير اجتاح العواصم الأوروبية مثل لندن، برلين وباريس حيث سميت تلك الفترة بالفرنسية، (Les Années folles) أي (السنوات المجنونة). وهكذا ظهر حضور العشرينات الصاخبة التي كان يميزها أعمال الكثير من الأدباء والفنانين وعدد منهم سافر إلى أوروبا وخاصة باريس مثل: سكوت فيتزجيرالد، إرنست همنغواي، جوزفين بيكر، لانجستون هيوز، ريتشارد رايت، وعشرات غيرهم.
دخلت المصعد، وكان قديماً يرتفع بالحواس إلى رهبة المغامرة، فمن هم الصاعدون فيه وما الذي كان يشغلهم كلما انتهى النهار؟ وهل سيتوقف بي بين الأدوار يوماً لأنه موغل في القدم؟ السخرية أنه فعل في إحدى الأيام اللاحقة ولولا هاتفي لما حضر عمال الصيانة يهبون لإنقاذي!
الوصف يقع أسيراً لأطياف الأمكنة، ولسيرة المبنى بقية.
* أكاديمية سعودية درّست في جامعتي كولومبيا وهارفارد
انتقلتْ الذاكرة حيث كنتُ عندما وصلت إلى نيويورك من بوسطن في يوم شتائي. توقفت بحقائبي أمام المبنى الذي كنت سأسكنه حيث أخبروني أن شقتي في الدور السادس؛ المبنى في مرتفعات مورنينج سايد وهي تغطي مساحة كبيرة من أعالي مانهاتن ويحيطها من الغرب نهر هدسون الذي تغنى به شعراء عدة ومنهم والت ويتمان وهارت كرين ويسمى «نهر أمريكا» كما يقول الباحث بول كين في مقاله، «شعر نهر هدسون». العنوان متقاطع مع برودواي الذي يمتد حتى جامعة كولومبيا شرقاً ومن الجهة الأخرى يصل إلى حيث المسارح التي جعلت اسمه يشتهر في العالم. تمتد في هذه المنطقة واحدة من أرقى حدائق مانهاتن، ريفر سايد بارك بمحاذاة النهر التي كانت ممشى أقضي فيه ساعة أو أكثر يومياً لصقل الروح والأفكار، وبعثرة ما قد يعتري النفس من توتر. وكحل لأزمة السكن التي تعاني منها، اشترتْ جامعة كولومبيا المبنى مع مجموعة من المباني لسكن الأساتذة والباحثين؛ وبعض العمارات قد بُنيت قبل الحرب العالمية الأولى وما زالت تجعل المتجول والمعماري يهيمان بتلك الحقب التاريخية العتيقة فهي ما زالت مطاردة بأطيافها. كيف كانت نيويورك قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها؟ سؤال ينشغل به هذا المقال وبعض من سياقه سيأتي في أسبوع قادم.
هيئة المبنى من الخارج تدل على صيانة منتظمة حتى أنني لم أتوقع أنه تم بناؤه ما قبل الحرب. وعلى الرغم من معرفتي بنيويورك التي كانت أول مدينة أزورها في الولايات المتحدة ومن ثم درست في إحدى مدن الولاية، إلا أن هيبتها اصطحبتني حين دخلتُ للبهو المتوجس بمرايا كبيرة صُفتْ بشكل يصيب الرائي بالارتباك وتبين لي في ما بعد أنها تكشف أي متسلل للمبنى في غفلة الداخلين والخارجين؛ وربما أن ما اجتاحني هو مزيج من جماليات القلق الذي تجلبه هذه المدينة التي أسرت المهاجرين والشعراء، والفقراء والأثرياء. فنيويورك تجمع كل ما أُطلقَ عليها من صفات تفضيل وتهويل بحيث يأسرُ هذا الاسم الزائر حتى وإن كانت معرفته وافية. ولذلك بانت الايحاءات لحظة توقفي أمام المبنى الناجي من تاريخ الحرب رمزياً والذي يجعله قطعة معمارية تستدعي قراءة فرويد و(أطياف ماركس) لجاك دريدا الذي حول نصه إلى مسرح يربط النصوص/الأشباح/الأطياف بمفهوم العودة: من شبح الأب الذي ألهم شكسبير مسرحية (هاملت) كما يلمح دريدا، وهو الشبح نفسه الذي حضر في كتاب كارل ماركس وفريدريك إنجلز (البيان الشيوعي)، ومن ثم لاحق نص «أزمة نفس» للشاعر الفرنسي، بول فاليري الذي استدعى فيه «هاملت الأوروبي» و«هاملت المثقف» حيث يصوره: فهو يتأمل حياة الحقائق وموتها. فالشبح الذي عنده، هو كل مواضيع منازعاتنا. والندم الذي يحسه، هو كل عناوين مجدنا».
هذا التناص الشبحي الذي يربط النصوص شعرتُ به حاضراً حيث شبح الثورة الرأسمالية يحوم حول مباني مرتفعات مورنينج سايد. فاصطحب قِدَم المسكن صور نزوح الأمريكيين إلى المدن الكبيرة بعد أن كانوا يعيشون في المزارع وقدوم أفواج المهاجرين مما ساهم في ازدهار الاقتصاد؛ حتى أن ثقافة الاستهلاك كانت من سمات المجتمع الأمريكي حينذاك الذي سارع لاقتناء الآلات والتقنيات الجديدة (السيارة، المذياع، التلفاز، والثلاجة) وبدأ الترفيه يصنع سوقاً جديدة للسينما، والحفلات الموسيقية وخاصة الجاز. أيضاً في نفس الفترة وبالتحديد في عام ١٩٢٠، كفل التعديل الدستوري الـ19 للدستور حق الانتخاب للمرأة في أمريكا. كل ركن في المبنى أثار توجسي، فلم أعرف هل هي عبارة «ما قبل الحرب» أم الحضور الشبحي الذي وصفه جاك دريدا: «الطيف هو دمج متناقض»؟ أو قد يكون تاريخه المشحون بالأحداث في عشرينات القرن الماضي ذات المسميات الكثيرة، بعضها رمزي الدلالة لما احتشدت به تلك الحقبة من تغيرات وخصوصا بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة وكأنها تمرد الإنسان على العنف والموت: العشرينات الصاخبة (Roaring Twenties)، عصر الجاز، نهضة هارلم، وغيرها من المسميات. أيضاً هذا التغيير اجتاح العواصم الأوروبية مثل لندن، برلين وباريس حيث سميت تلك الفترة بالفرنسية، (Les Années folles) أي (السنوات المجنونة). وهكذا ظهر حضور العشرينات الصاخبة التي كان يميزها أعمال الكثير من الأدباء والفنانين وعدد منهم سافر إلى أوروبا وخاصة باريس مثل: سكوت فيتزجيرالد، إرنست همنغواي، جوزفين بيكر، لانجستون هيوز، ريتشارد رايت، وعشرات غيرهم.
دخلت المصعد، وكان قديماً يرتفع بالحواس إلى رهبة المغامرة، فمن هم الصاعدون فيه وما الذي كان يشغلهم كلما انتهى النهار؟ وهل سيتوقف بي بين الأدوار يوماً لأنه موغل في القدم؟ السخرية أنه فعل في إحدى الأيام اللاحقة ولولا هاتفي لما حضر عمال الصيانة يهبون لإنقاذي!
الوصف يقع أسيراً لأطياف الأمكنة، ولسيرة المبنى بقية.
* أكاديمية سعودية درّست في جامعتي كولومبيا وهارفارد