كتاب ومقالات

زمن الإخفاقات ولّى

سعد الصويان

«والله يالولا بروق هالخير اللي تلاعج علينا من القبلة» لأمضيت -أنا مع بقية أفراد جيلي ومع غيرنا ممن يجهلون مقتضيات القدر- منكسر الخاطر ألعق جروح الخيبة وأتحسر على إخفاقات جيلنا، عزاؤنا أن مرد تلك الإخفاقات لم يكن يوما ثبوط الهمة على الصعيد الشخصي، بل كانت في جوهرها انعكاسا لإخفاقات مؤسساتية على الصعيد المجتمعي. ولا أشمل بالصعيد المجتمعي هنا كافة المجتمع، ما قصدته تحديدا هم الصفوة من الصعيد الجامعي الذي يفترض أنه مجتمع أكاديمي بامتياز تقع عليه مسؤولية نهضة بلادنا الفكرية والعلمية.

لكن الدراسة الجامعية عندنا -واسحب هذا الكلام على المؤسسة التعليمية بجميع مستوياتها- مرت بفترة غيبوبة قد تستعصي إزالة آثارها سريعا، تماما كما يستعصي إزالة القداح والمكاوي من على معاصم ورقاب جيلي والجيل الذي يليه.

دعوني أسرد لكم حكايتي كأحد المجايلين لتلك الغُمّة، وهي مجرد حكاية من ألف حكاية وحكاية.

قلت لهم في الجامعة: دعونا نفتح آفاقا جديدة من آفاق المعرفة، دعونا نقرر تدريس مادة الأنثروبولوجيا. وقد أسهبتُ في تبرير طلبي هذا ومسوغاته، بما في ذلك القول إن مناهج الأنثروبولوجيا ونظرياتها قد تفيدنا كمجتمع يكاد يودّع ثقافته التقليدية بجميع تجلياتها ويدخل دهاليز العصر الحديث.

لكن الرد جاءني: أنت تريد أن تعلم الطلاب أن الإنسان أصله قرد. لم أملك إلا أن أجيب: والله بعض الناس قرود وبعض الناس أوادم. إذن فلندرّس اللهجات. أفا عليك -قالوا لي- انت ولد حمولة وعليك الشرهة وتقول هالكلام، أما تعلم أن هذه مؤامرة استشراقية لتقويض الفصحى، لغة القرآن، وتفتيت الأمة العربية إلى دويلات تتكلم رطانات لا تفاهم بينها.

طيب، ماذا عن تدريس ثقافة البادية وشعرها ونظامها القبلي! قلت لهم. أجابوني بصوت واحد: لا، هذي، سلّمك الله، دعوة لإثارة النعرات القبلية ومن المستحسن عدم الخوض فيها.

ذكّروني بنكتة مصرية تقول إن فلاحا من الصعيد أرسل ولده للدراسة في الأزهر الشريف. وفي العطلة الصيفية عاد الولد إلى الغيط وكان أول ما شاهده أبوه جالسا مستقبلا الشمس يتبول فصاح به: لا يابا، ما يصحّش كدا. فحرف الأب اتجاهه فصاح به الابن: لا يابا، ما يصحّش تستأبل الإبلة. وهكذا كلما وجه الأب وجهةً انتهره ابنه. فلما احتار الأب من صنيع الولد صار يستدير على نفسه ويبول مرددا: هذا جزاء من يدخل ولده الأزهر.

صدق أو لا تصدّق، وأقول ذلك للتذكير، أن بعض الزملاء -بل وحتى الطلاب- لا يتورعون عن تدبيج الخطابات تلو الخطابات لابن باز في حق أحد زملائهم من أساتذة الجامعة منبهين لانحراف أفكاره بقصد الإيقاع به، ضاربين عرض الحائط بأنظمة وبأهداف المؤسسة الأكاديمية والتعليمية بقضها وقضيضها.

كانت الرسائل العليا في العلوم الاجتماعية والتاريخ تُبعث منها نسخ إلى وزارة الداخلية لإجازتها والسماح بمناقشتها بعد إجراء «التعديلات اللازمة». عن أي أكاديميا نتحدّث! أين هي الأكاديميا في ظل تلك الأجواء؟ سنين العجاج، على قولة الأولين!

اللي جاب طاري «هالسوالف المبطيه» هو أنني قرأت حديثا في صحيفة من صحفنا اليومية مقالا موسعا عن ضرورة إعادة النظر في تدريس الفكر الفلسفي في جامعاتنا. لقد فهمت بأن هذه مناداة لاتخاذ تغييرات جذرية في مؤسساتنا التربوية ورسم خطة تعليمية جديدة وجادة سياستها زرع بذور التفكير المنهجي والمنطقي في مناهجنا التعليمية والتأكيد على أهمية تمرين العقول على هذا النمط العلمي في التفكير والتدبير.

هذا هو الطريق الوحيد المؤدي إلى اتخاذ الخيارات الصحيحة والقرارات الصائبة وإلى تحقيق كفاءة الإنجاز في الحياة الشخصية والاجتماعية والمهنية.

لم تكن ردهات الجامعات على عهد جيلي ساحة للتفكير الحر يصول فيها العقل ويجول محاولا القفز على حواجز الماضي وترسبات التاريخ ليحل عقد الحاضر ويستشرف حيثيات المستقبل. كان هناك نوع من الاشتباك والمجاولة بين اللاهوتي والعلماني مع رجوح كفة الأول رجحانا مبينا.

لم تكن تلك الفترة المعتمة فترة «مْدَحِدْرة» على مستوى الإنتاج المعرفي فقط، بل كانت أشد وطأة على الجانب الفني، الفن الذي هو أهم ميزة يتميز بها الإنسان على بقية الكائنات ومن خلاله يؤكد إنسانيته ويحقق الخلود.

حتى الصور كانوا يحرمونها لحد الهوس، أيا كانت مقاصدها وأهدافها. ما زلت أذكر حينما كنت أستاذا في جامعة الملك سعود أن الصور التوضيحية في كتب الطب وكتب التاريخ في المكتبة الجامعية يتم تمزيقها من قبل الطلاب المتحمسين ولا أحد يستطيع أن يقف في وجه هذه الهمجية.

هذا نوع من الفساد استنزف عقول شبابنا وزرع في أدمغتهم أزرّة التحكم عن بعد والاستجابة التلقائية للتوجيه بدلا من إعمال العقل واستقلالية التفكير.

تلك الفترة من فترات تاريخنا كانت فترة كئيبة، وقاحلة. كانت أجواؤها ملبدة بخطاب العنف وكانت الساحة تضيق على صاحب الفكر الإنساني المستقل. لقد سقط في تلك الفترة العديد من الضحايا من الأكاديميين والأدباء والفنانين والمفكرين، الذين أُهملوا وغُمطت حقوقهم ونالهم الأذى وضاقت بهم المعيشة. ولنا في القامة النقدية سعد السريحي مثالا صارخا.

لماذا لا نرى آثار محمد الثبيتي وعلي الدميني وعبدالله الصيخان ومحمد الحربي وغيرهم تنال ما تستحقه من الحفاوة. لماذا لا يعاد استكتاب كتاب الرأي في تلك الحقبة من الشجعان الذين حاولوا التنبيه لخطورة ما كان يجري أمام أعينهم آنذاك مثل الأستاذ عبدالكريم العودة. هذه مجرد أسماء ترد على الخاطر من قائمة يطول سردها. لقد حان وقت المصالحة وترميم علاقاتنا مع العقل ومع بعضنا البعض.

ما نراه الآن من تغيير اجتماعي تتشكل ملامحه أمامنا سوف ينقلنا إلى الحاضر الذي تعيشه بقية الأمم، ويعود بنا إلى طبيعتنا وسجيتنا ونستعيد من خلاله آدميتنا المختطفة وعقولنا المغيبة. مع ذلك ينبغي أن ندرك ضراوة المعركة -داخليا وخارجيا، وعلى مستوى السيف والقلم-. علينا أن نستعد لها ونتعاون على خوض غمارها، وقد فاز باللذة الجسور. نحن الآن نعيش مرحلة الإقرار بأهمية التغيير ورسم الخطوات الصعبة على هذا الاتجاه الصاعد.

عمليات التغيير عمليات ولادة، مؤلمة لكنها ضرورية لاستمرارية الحياة والعيش الرغد. ومع ذلك فلربما أن دول الربيع العربي لو هبت عليها هبوب التغيير من نفس الاتجاه الذي تهب منه على السعودية لحقق ذلك لها الكثير ووفّر على أشقائنا ما حل بهم من أضرار مادية وبشرية تعتصر قلوبنا.

* باحث وكاتب سعودي