اعتلالات وعي الكتّاب السعوديين بحساسية القصة القصيرة جداً
السبت / 28 / ربيع الأول / 1439 هـ السبت 16 ديسمبر 2017 02:04
د. أميرة علي الزهراني *
تعد القصة القصيرة بشكل عام من أكثر الفنون الأدبية قدرة على ملاحقة التغييرات وضبط التحولات في أي مجتمع من المجتمعات النامية أو السريعة التطور. والقصة القصيرة جداً، على وجه الخصوص، ربما كانت أكثر قدرة على مواكبة ليس فقط المتغيرات، بل حتى إيقاع الحياة السريع، تلك السرعة التي تميزت بها التقنية الحديثة، فهي أكثر تكافؤاً مع طبيعة عصر التكنولوجيا السريع والمتوتر، حيث إن «أنماط السرد اليوم صارت تفصح عن طريقة أخرى لرؤية وفهم العالم»(فوكلير، 2009). إلى جانب سمات أخرى فنية تتميز بها القصة القصيرة جداً كالتكثيف والاقتصاد اللغوي وحذف العناوين والاكتفاء بالضمائر عوضاً عن الأسماء وتعتيم الزمان والمكان، والتخلي عن تفاصيل الأحداث باللحظة أو المشهد، وعن أوصاف الشخصيات بوميض الملامح المقتضبة والتركيز على الفكرة.. وغيرها من خصائص فنية تجعلها موائمة لوضع المستهلكين الجدد للأدب الذي تنمطوا بعامل السرعة في القراءة للنصوص القصيرة، ومواءمة كذلك للنشر عبر الوسائط الإلكترونية المشاعة حالياً. لاسيما ذات المساحة المحدودة مثل «تويتر» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى التي لا تستدعي وقتاً مطولاً في القراءة.
ليست محدودية الكلمات وحدها هي السبب، فمجمل مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها تؤكد حضور المتلقي على نحو فاعل، تماماً مثلما «القارئ» حاضر بقوة في القصة القصيرة جداً، إذ يلعب الدور المحوري في تشكيل المعنى، الذي عادة ما يكون ملغزاً، في هذا الفن تحديداً «يعد القارئ هو البطل في القصة القصيرة جداً لأن نجاح التلقي رهين بمدى قدرته على الإمساك بتلابيب معاني القصة، وهي تمارس عليه لعبة الإغواء المتمنع، تريده أن يتلبسها وفي الآن نفسه تتحجب عنه» (مسكين، 2011، ص46). فمنهج القراءة وجمالية التلقي يؤكد على أن «الذات المتلقية قادرة على إعادة إنتاج النص بوساطة فعل الفهم والإدراك، ومتمكنة بذلك من تكثير المعنى وتشقيق وجوه لا نهائية من بنيته، مما يجعله قادراً على الديمومة والخلود بفعل الحوارية المستمرة بين بنية النص وبنية التلقي» (صالح، 2002، ص 52).
ثمّة ما يبرهن على تغيير أنماط المستهلكين الجدد للأدب، وتغير أنماط القراءة والعادات الذهنية في التلقي. إذ ينبغي الاعتراف بأن قارئ المستقبل، على وجه الخصوص، «لن يكون بنفس الطواعية والتلقائية و الاتكالية الذي اعتدناه في السابق. فستتحول وتتبدل العلاقة التقليدية بين القارئ والكاتب وكذلك مع الناشر، فهي إن كانت في اتجاه واحد حتى الآن ويغلب عليها طابع التلقي السلبي، أي نموذج الأستاذ بالتلميذ، فستكون مستقبلاً تفاعلية (Interactive) بل ومتعددة الجوانب من خلال مجموعة من المستفيدين (User Groups) وستقوم على الاتصالات الإلكترونية السهلة والسريعة...» (بشارة، 2004، ص 80). المستهلكون، عادة، هم من يجبر العالم على التغيير لتحقيق مطالبهم، باقتراح أنماط جديدة قابلة للاستهلاك، وأكثر مواءمة للزمن الذين يعيشون فيه.
هناك «تقاليد» أدبية محددة تؤطر كل جنس أدبي عن غيره من الأجناس، و نستدعيها لفهمه وتحليله وتقويمه. ومهما اختلفت تلك التقاليد إلا أنها تظل في مجمل الاتفاق العام المعيار الذي يدرج النص الأدبي تحت نوع إبداعي بعينه.
تعد القصة القصيرة جداً واحدة من الأجناس السردية «إن جاز لنا تسميتها بذلك» التي تعاني قلقاً في تحديد الملامح الفنية التي تميزها عن غيرها من فنون السرد، هذا إذا تجاوزنا مسألة الاختلاف في الاعتراف بها أصلاً كجنس أدبي ( ). وعلى الرغم من ذلك إلا أن ثمة خصائص فنية عامة يمكن من خلالها التأصيل لهذا الفن عن غيره من الكتابات.
هناك الأركان الأربعة التي تنهض عليها القصة القصيرة جداً، وهي «وحدة الفكر والموضوع»، «التكثيف»، «القصصية»، «الجرأة»، (الحسين، 2000، ص33 - 39). فمن ناحية «وحدة الفكر والموضوع» فمن البدهي أن بنية القصة القصيرة جداً تميل لا تحتمل تشظي الأفكار أو الموضوعات، فهي بالأساس تعتمد على وحدة التأثير في المتلقي كبنية أساسية. أما «التكثيف» فإن من مقتضياته الاقتصاد اللغوي الشديد، وهو أمر يستدعي، أحياناً، وضع علامات الترقيم في النص، أو التفتيت، أو الفراغات التي يعبّر عنها بالتنقيط.
ويتجلى ركن «القصصية» في التركيز على لحظة تحول الحدث أو تتغيير مساره على نحو مفاجئ. فـ«القصصية» في القصة القصيرة جداً، كما هو معلوم، لا تأخذ كل ما في القصصية من عناصر، بل إن هذه القصصية قد تتجلى في حوار قصير، أو تبدل في المشهد، أو رصد لحظة، أو توثب حدث. كذلك الشخصيات يتم تقديمها وهم في لحظة فاعلة أو تغير، دون تقديم أوصاف مفصلة إلا بقدر ما يخدم الإيحاء (الحسين، 2000، ص34). كما أن «الجرأة» بوصفها الركن الرابع من أركان القصة القصيرة جداً، تحمل في طياتها أبز سمة ترفع من أسهم كفاءة القصة القصيرة جداً، حيث الجرأة في الغوص في معنى قد يبدو من المحظور أو المتردد الخوض أو مجرد التماس معه على أرض الواقع.
فضلاً عن تلك الأركان الأربعة التي تقوم عليها القصة القصيرة جداً، بحيث لا بد من توفرها كبنية فنية أساسية، فإن ثمة عناصر أخرى تجسد ملامح هذا الفن بشكل أو بآخر، بتوفر أحدها أو أكثر في النص الواحد. منها «المفارقة» و«الترميز» و«الإدهاش» و«عمق الأثر».
إن المفارقة في الأساس تعبير عن معنيين نقيضين في الوقت نفسه، وهي توحي بكشف حقيقة هذا العالم الذي يقوم في مجمله على التناقضات المثيرة للدهشة والأسى (سليمان، 1999، ص32). يرى البلاغيون الجدد أن المفارقة لا تخرج من صيغ ثلاث: الباث يقول شيئاً بينما هو يعني شيئاً آخر، الباث يقول شيئاً بينما شيء آخر يفهمه المتلقي، الباث يقول شيئاً، بينما يقول في الوقت نفسه شيئاً آخر. (سليمان، 1999، ص18). ويقصر «ماكس بيربوم» المهمة الأساسية المفارقة بقوله «إحداث أبلغ الأثر بأقل الوسائل تبذيراً» فيما يعد الرمز من أوسع الدلالات أفقاً فيما ترمي إليه الألفاظ من إيحاءات ومعاني يعوّل عليها المتلقي كثيراً في فهم النص. أما «الإدهاش» و «عمق الأثر» فهما نتائج جدارة توظيف كل العناصر السابقة و المتوقع تحققها في المتلقي.
كان من البدهي أن القلق الذي تعاني منه القصص القصيرة جداً في تحديد مواضعات أدبية صارمة على من يمارس كتابتها أحد أهم الأسباب التي أنتجت لنا نصوصاً معتلَّة تدعي انتمائها لهذا الجنس. ولا نبالغ إذا قلنا أن كثيراً من مشاكل كتابة القصة القصيرة جداً مثل؛ العبث بتوظيف علامات الترقيم، وافتعال الدهشة، والخلط بين بوح الخاطرة وكتابة القصة القصيرة جداُ، وهشاشة القدرة على توظيف عناصر الرمز والجرأة والمفارقة والتناص والأنسنة واضطراب القصصية، وخلل المشهد والحدث... ناتجة بالأساس عن الفهم الحقيقي لمفهوم «التكثيف» في القصة القصيرة جداً والوعي بحساسيتها الناتجة عن هذا التكثيف، والذي بدوره أمكنه تحقيق فاعلية النص في مقاومة كسل المتلقي، وإسهامه في صناعة المعنى، وهو شأن يحفظ لهذا الفن خصوصيته وميزته التي تمنحه التفرد عن بقية الأجناس.
إن «التكثيف» في القصة القصيرة جداً يعد العنصر الأساس الذي تنهض عليه، فهو العلامة الأبرز في تشكيل هويتها، وبالتالي تمييزها عن بقية أنواع السرد. ويتجاوز التكثيف مجرد «الاقتصاد اللغوي» ومحدودية الكلمات، إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تتآزر كل العناصر الأخرى في القصة من فكرة، وحوار، وحدث، ومشهد، وشخصيات... لخدمة هذا الغرض. لذلك، استدعى التكثيف والاقتصاد اللغوي الشديد في صناعة نص القصة القصيرة جداً «السرعة» في قراءتها من جهة المتلقي مع الاحتفاظ بعمق الأثر وفاعلية التفكير.
لقد كانت السرعة «السرعة» واحدة من الوصايا الست ( ) التي اقترحها المؤلف للكتابة الأدبية «بما أنني اقترحت في كل محاضرة من هذه المحاضرات أن أوصي للألفية المقبلة بقيمة عزيزة على نفسي، فإن القيمة التي أوصي بها اليوم هي كالتالي: في عصر انتصرت فيه وسائل إعلام أخرى أكثر سرعة وذات مجال واسع للحركة، والتي تهدد بتسطيح وتحويل أي تواصل إلى قشرة متشابهة ومنسجمة، فإن وظيفة الأدب إذن هي التواصل بين ما هو مختلف بما أنه مختلف، دون أن يُثلِّم اختلافه، بل يرفع من شأنه، بحسب النزعة الخاصة للغة المكتوبة» (كالفينو، 2008، ص63)
و«السرعة» في الكتابة الأدبية التي يقصدها الكاتب بما يتلاءم مع نمط المستهلكين الجدد الذين يتوقون للقراءة السريعة زمن التكنولوجيا التي تقوم في مجملها على الإيقاع السريع للزمن، ليست تلك التي تنتج لنا نصوصاً سطحية تافهة، إنما التي تجنح إلى إعمال العقل، مع التأثير السريع والعميق في آن معاً، أو على حد وصفه «الصعقة غير المتوقعة» ممثلاً لتلك المعادلة، غير الهينة، بالفراشة والسرطان اللذين يرمزان للشعار «أسرع بتهمل» في مجموعة رموز القرن الخامس عشر للكاتب «باولو جوفيو» «Paolo Giovio» (كالفينو، 2008، ص 65) مشيراً في الوقت نفسه، إلى أن قرن التكنولوجيا قد فرض «السرعة» بوصفها قيمة قابلة للقياس، ومستدركاً بأن السرعة التي يوصي بها في الكتابة الأدبية هي السرعة العقلية، وهي التي «لا يمكن قياسها ولا تسمح بمقارنات ولا منافسات، ولا يمكن أن توجه نتائجها انطلاقاً من منظور تاريخي. تعتبر السرعة العقلية قيمة في حد ذاتها، في اللذة التي تحدث عند من له حساسية بهذه اللذة. وليس في المنفعة التطبيقية التي تمنحها لنا. إن التفكير السريع ليس بالضرورة أحسن من التفكير المتـــروي، ولكنه يعبر عن شيء خاص يكمن بالخصوص في خفته»(كالفينو، 2008، ص63). السرعة «في كتابة وتلقي القصة القصيرة جدا، قيمة عليا فنية تتآزر مع المستهلك الجديد للأدب.
إن «التكثيف» ومحدودية كلمات القصة القصيرة ليس بالأمر الهيّن. فنجاح الشاعر والناثر «ينجم عادة عن بحث هادئ عن الكلمة الصحيحة، عن الجملة، حيث لا يمكن استبدال كلمة بأخرى، عن تقارب أكثر فعالية وكثيف الدلالة بين الأصوات والمفاهيم. إنني مقتنع بأن الكتابة النثرية لا يجب أن تكون مختلفة عن الكتابة الشعرية، لأن الأمر يتعلق في كلتا الحالتين ببحث عن تعبير ضروري، فريد، مكثف، مقتضب، وخالد» (كالفينو، 2008، ص65، 66). لكن ما تشهده الساحة الثقافية اليوم «المحلية على وجه الخصوص» من نتاج القصة القصيرة جداً لا يتحقق في كثير منه فاعلية التكثيف في صناعة المعنى وفي مقاومة الوعي التلقائي التقليدي للقارئ في الوصول السريع لمقاصد القصة، وبالتالي إيقاع أعمق الأثر في نفسه، أو على حد وصف كالفينو «الصعقة غير المتوقعة». وهذا ما يميز الحساسية الشديدة للقصة القصيرة جدا.
إن اعتلالات الوعي بحساسية ورهافة القصة القصيرة جداً «حيث التكثيف مع عمق الأثر» هو ما أفرز لنا نصوصاً كثيرة على الساحة الثقافية، ويعود السبب في كثير من الأحيان إلى الاستسهال، أساساً، في كتابة هذا الفن، نابع من الاكتفاء بمحدودية الكلمات والاقتصاد الشديد للغة. دون إدراك أن ذلك «الاقتصاد» أحد أهم أسباب صعوبة كتابتها، فأن تكون كلماتك قليلة لا يعني مطلقاً أن خيالك محدود.
* أستاذ مشارك (السرديات الحديثة) - جامعة الأمير سلطان
dr.amirah@hotmail.com
ليست محدودية الكلمات وحدها هي السبب، فمجمل مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها تؤكد حضور المتلقي على نحو فاعل، تماماً مثلما «القارئ» حاضر بقوة في القصة القصيرة جداً، إذ يلعب الدور المحوري في تشكيل المعنى، الذي عادة ما يكون ملغزاً، في هذا الفن تحديداً «يعد القارئ هو البطل في القصة القصيرة جداً لأن نجاح التلقي رهين بمدى قدرته على الإمساك بتلابيب معاني القصة، وهي تمارس عليه لعبة الإغواء المتمنع، تريده أن يتلبسها وفي الآن نفسه تتحجب عنه» (مسكين، 2011، ص46). فمنهج القراءة وجمالية التلقي يؤكد على أن «الذات المتلقية قادرة على إعادة إنتاج النص بوساطة فعل الفهم والإدراك، ومتمكنة بذلك من تكثير المعنى وتشقيق وجوه لا نهائية من بنيته، مما يجعله قادراً على الديمومة والخلود بفعل الحوارية المستمرة بين بنية النص وبنية التلقي» (صالح، 2002، ص 52).
ثمّة ما يبرهن على تغيير أنماط المستهلكين الجدد للأدب، وتغير أنماط القراءة والعادات الذهنية في التلقي. إذ ينبغي الاعتراف بأن قارئ المستقبل، على وجه الخصوص، «لن يكون بنفس الطواعية والتلقائية و الاتكالية الذي اعتدناه في السابق. فستتحول وتتبدل العلاقة التقليدية بين القارئ والكاتب وكذلك مع الناشر، فهي إن كانت في اتجاه واحد حتى الآن ويغلب عليها طابع التلقي السلبي، أي نموذج الأستاذ بالتلميذ، فستكون مستقبلاً تفاعلية (Interactive) بل ومتعددة الجوانب من خلال مجموعة من المستفيدين (User Groups) وستقوم على الاتصالات الإلكترونية السهلة والسريعة...» (بشارة، 2004، ص 80). المستهلكون، عادة، هم من يجبر العالم على التغيير لتحقيق مطالبهم، باقتراح أنماط جديدة قابلة للاستهلاك، وأكثر مواءمة للزمن الذين يعيشون فيه.
هناك «تقاليد» أدبية محددة تؤطر كل جنس أدبي عن غيره من الأجناس، و نستدعيها لفهمه وتحليله وتقويمه. ومهما اختلفت تلك التقاليد إلا أنها تظل في مجمل الاتفاق العام المعيار الذي يدرج النص الأدبي تحت نوع إبداعي بعينه.
تعد القصة القصيرة جداً واحدة من الأجناس السردية «إن جاز لنا تسميتها بذلك» التي تعاني قلقاً في تحديد الملامح الفنية التي تميزها عن غيرها من فنون السرد، هذا إذا تجاوزنا مسألة الاختلاف في الاعتراف بها أصلاً كجنس أدبي ( ). وعلى الرغم من ذلك إلا أن ثمة خصائص فنية عامة يمكن من خلالها التأصيل لهذا الفن عن غيره من الكتابات.
هناك الأركان الأربعة التي تنهض عليها القصة القصيرة جداً، وهي «وحدة الفكر والموضوع»، «التكثيف»، «القصصية»، «الجرأة»، (الحسين، 2000، ص33 - 39). فمن ناحية «وحدة الفكر والموضوع» فمن البدهي أن بنية القصة القصيرة جداً تميل لا تحتمل تشظي الأفكار أو الموضوعات، فهي بالأساس تعتمد على وحدة التأثير في المتلقي كبنية أساسية. أما «التكثيف» فإن من مقتضياته الاقتصاد اللغوي الشديد، وهو أمر يستدعي، أحياناً، وضع علامات الترقيم في النص، أو التفتيت، أو الفراغات التي يعبّر عنها بالتنقيط.
ويتجلى ركن «القصصية» في التركيز على لحظة تحول الحدث أو تتغيير مساره على نحو مفاجئ. فـ«القصصية» في القصة القصيرة جداً، كما هو معلوم، لا تأخذ كل ما في القصصية من عناصر، بل إن هذه القصصية قد تتجلى في حوار قصير، أو تبدل في المشهد، أو رصد لحظة، أو توثب حدث. كذلك الشخصيات يتم تقديمها وهم في لحظة فاعلة أو تغير، دون تقديم أوصاف مفصلة إلا بقدر ما يخدم الإيحاء (الحسين، 2000، ص34). كما أن «الجرأة» بوصفها الركن الرابع من أركان القصة القصيرة جداً، تحمل في طياتها أبز سمة ترفع من أسهم كفاءة القصة القصيرة جداً، حيث الجرأة في الغوص في معنى قد يبدو من المحظور أو المتردد الخوض أو مجرد التماس معه على أرض الواقع.
فضلاً عن تلك الأركان الأربعة التي تقوم عليها القصة القصيرة جداً، بحيث لا بد من توفرها كبنية فنية أساسية، فإن ثمة عناصر أخرى تجسد ملامح هذا الفن بشكل أو بآخر، بتوفر أحدها أو أكثر في النص الواحد. منها «المفارقة» و«الترميز» و«الإدهاش» و«عمق الأثر».
إن المفارقة في الأساس تعبير عن معنيين نقيضين في الوقت نفسه، وهي توحي بكشف حقيقة هذا العالم الذي يقوم في مجمله على التناقضات المثيرة للدهشة والأسى (سليمان، 1999، ص32). يرى البلاغيون الجدد أن المفارقة لا تخرج من صيغ ثلاث: الباث يقول شيئاً بينما هو يعني شيئاً آخر، الباث يقول شيئاً بينما شيء آخر يفهمه المتلقي، الباث يقول شيئاً، بينما يقول في الوقت نفسه شيئاً آخر. (سليمان، 1999، ص18). ويقصر «ماكس بيربوم» المهمة الأساسية المفارقة بقوله «إحداث أبلغ الأثر بأقل الوسائل تبذيراً» فيما يعد الرمز من أوسع الدلالات أفقاً فيما ترمي إليه الألفاظ من إيحاءات ومعاني يعوّل عليها المتلقي كثيراً في فهم النص. أما «الإدهاش» و «عمق الأثر» فهما نتائج جدارة توظيف كل العناصر السابقة و المتوقع تحققها في المتلقي.
كان من البدهي أن القلق الذي تعاني منه القصص القصيرة جداً في تحديد مواضعات أدبية صارمة على من يمارس كتابتها أحد أهم الأسباب التي أنتجت لنا نصوصاً معتلَّة تدعي انتمائها لهذا الجنس. ولا نبالغ إذا قلنا أن كثيراً من مشاكل كتابة القصة القصيرة جداً مثل؛ العبث بتوظيف علامات الترقيم، وافتعال الدهشة، والخلط بين بوح الخاطرة وكتابة القصة القصيرة جداُ، وهشاشة القدرة على توظيف عناصر الرمز والجرأة والمفارقة والتناص والأنسنة واضطراب القصصية، وخلل المشهد والحدث... ناتجة بالأساس عن الفهم الحقيقي لمفهوم «التكثيف» في القصة القصيرة جداً والوعي بحساسيتها الناتجة عن هذا التكثيف، والذي بدوره أمكنه تحقيق فاعلية النص في مقاومة كسل المتلقي، وإسهامه في صناعة المعنى، وهو شأن يحفظ لهذا الفن خصوصيته وميزته التي تمنحه التفرد عن بقية الأجناس.
إن «التكثيف» في القصة القصيرة جداً يعد العنصر الأساس الذي تنهض عليه، فهو العلامة الأبرز في تشكيل هويتها، وبالتالي تمييزها عن بقية أنواع السرد. ويتجاوز التكثيف مجرد «الاقتصاد اللغوي» ومحدودية الكلمات، إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تتآزر كل العناصر الأخرى في القصة من فكرة، وحوار، وحدث، ومشهد، وشخصيات... لخدمة هذا الغرض. لذلك، استدعى التكثيف والاقتصاد اللغوي الشديد في صناعة نص القصة القصيرة جداً «السرعة» في قراءتها من جهة المتلقي مع الاحتفاظ بعمق الأثر وفاعلية التفكير.
لقد كانت السرعة «السرعة» واحدة من الوصايا الست ( ) التي اقترحها المؤلف للكتابة الأدبية «بما أنني اقترحت في كل محاضرة من هذه المحاضرات أن أوصي للألفية المقبلة بقيمة عزيزة على نفسي، فإن القيمة التي أوصي بها اليوم هي كالتالي: في عصر انتصرت فيه وسائل إعلام أخرى أكثر سرعة وذات مجال واسع للحركة، والتي تهدد بتسطيح وتحويل أي تواصل إلى قشرة متشابهة ومنسجمة، فإن وظيفة الأدب إذن هي التواصل بين ما هو مختلف بما أنه مختلف، دون أن يُثلِّم اختلافه، بل يرفع من شأنه، بحسب النزعة الخاصة للغة المكتوبة» (كالفينو، 2008، ص63)
و«السرعة» في الكتابة الأدبية التي يقصدها الكاتب بما يتلاءم مع نمط المستهلكين الجدد الذين يتوقون للقراءة السريعة زمن التكنولوجيا التي تقوم في مجملها على الإيقاع السريع للزمن، ليست تلك التي تنتج لنا نصوصاً سطحية تافهة، إنما التي تجنح إلى إعمال العقل، مع التأثير السريع والعميق في آن معاً، أو على حد وصفه «الصعقة غير المتوقعة» ممثلاً لتلك المعادلة، غير الهينة، بالفراشة والسرطان اللذين يرمزان للشعار «أسرع بتهمل» في مجموعة رموز القرن الخامس عشر للكاتب «باولو جوفيو» «Paolo Giovio» (كالفينو، 2008، ص 65) مشيراً في الوقت نفسه، إلى أن قرن التكنولوجيا قد فرض «السرعة» بوصفها قيمة قابلة للقياس، ومستدركاً بأن السرعة التي يوصي بها في الكتابة الأدبية هي السرعة العقلية، وهي التي «لا يمكن قياسها ولا تسمح بمقارنات ولا منافسات، ولا يمكن أن توجه نتائجها انطلاقاً من منظور تاريخي. تعتبر السرعة العقلية قيمة في حد ذاتها، في اللذة التي تحدث عند من له حساسية بهذه اللذة. وليس في المنفعة التطبيقية التي تمنحها لنا. إن التفكير السريع ليس بالضرورة أحسن من التفكير المتـــروي، ولكنه يعبر عن شيء خاص يكمن بالخصوص في خفته»(كالفينو، 2008، ص63). السرعة «في كتابة وتلقي القصة القصيرة جدا، قيمة عليا فنية تتآزر مع المستهلك الجديد للأدب.
إن «التكثيف» ومحدودية كلمات القصة القصيرة ليس بالأمر الهيّن. فنجاح الشاعر والناثر «ينجم عادة عن بحث هادئ عن الكلمة الصحيحة، عن الجملة، حيث لا يمكن استبدال كلمة بأخرى، عن تقارب أكثر فعالية وكثيف الدلالة بين الأصوات والمفاهيم. إنني مقتنع بأن الكتابة النثرية لا يجب أن تكون مختلفة عن الكتابة الشعرية، لأن الأمر يتعلق في كلتا الحالتين ببحث عن تعبير ضروري، فريد، مكثف، مقتضب، وخالد» (كالفينو، 2008، ص65، 66). لكن ما تشهده الساحة الثقافية اليوم «المحلية على وجه الخصوص» من نتاج القصة القصيرة جداً لا يتحقق في كثير منه فاعلية التكثيف في صناعة المعنى وفي مقاومة الوعي التلقائي التقليدي للقارئ في الوصول السريع لمقاصد القصة، وبالتالي إيقاع أعمق الأثر في نفسه، أو على حد وصف كالفينو «الصعقة غير المتوقعة». وهذا ما يميز الحساسية الشديدة للقصة القصيرة جدا.
إن اعتلالات الوعي بحساسية ورهافة القصة القصيرة جداً «حيث التكثيف مع عمق الأثر» هو ما أفرز لنا نصوصاً كثيرة على الساحة الثقافية، ويعود السبب في كثير من الأحيان إلى الاستسهال، أساساً، في كتابة هذا الفن، نابع من الاكتفاء بمحدودية الكلمات والاقتصاد الشديد للغة. دون إدراك أن ذلك «الاقتصاد» أحد أهم أسباب صعوبة كتابتها، فأن تكون كلماتك قليلة لا يعني مطلقاً أن خيالك محدود.
* أستاذ مشارك (السرديات الحديثة) - جامعة الأمير سلطان
dr.amirah@hotmail.com