ثقافة وفن

عبدالرحمن الشهري شاعر يكتب على جهاز آيفون

علي الرباعي *

لم يعد الشعر معنياً بالترقيص وهز الوجدان واستثارة المشاعر، ذلك أننا في عصر تقني بامتياز، لم ينجح فيه الإنسانُ لأنسنة الآلة فــ(تميكن)، أي غدا أكثر شبه بالماكينة، واستبدل الناس حياتهم البسيطة بحياة معقدة، والهدوء الذي كان أثمن ما يحوزه القروي خصوصاً استحال صخباً، وهنا تكمن قيمة الشعر الهادئ، الفاتن بعذوبته السريالية، وسرياليته العذبة، تلك الصور التي يبدعها المخلص لفنه، لتلامسك في أعلى مستوى إنسانيتك، دون حاجة للتزويق والتفخيم والإعلاء من شأن اللغة باللغة المعجمية، والمفردات الفخمة، المألوفة في زمن ابن جلا وطلاع الثنايا.

لا أعرف دافع تمسك البعض منا بالتصفيق للنظامين، هل النظم شعر، أم أنه مراصفة كلمات، ومحاكاة؟ وهل الشعر كائن أو مخلوق فرائحي؟ لعل من أبلغ الدلالات على موت الشعر التقليدي إحياء التصفيق، وكأنما نحن في مدرسة ابتدائية أجاب فيها طالب تقليدي وحفاظ، عن سؤال تقليدي، وبطريقة تقليدية، في وسط مقلّد، فقال المدرّس: صفّقوا له. وردد «شاطر» فمتى يؤمن نظامون أن الشعر ماء مقطّر من روح شاعر يجلو به ما ران على قلبه وقلوب قرائه من التلوث والأثرة، ليعيد الكل والجزء إلى فطرته الأولى، لماذا تصفّق؟ ولماذا تردد «الله. الله» وأنت تعلم يقيناً أو لا تعلم أن النظّامين أسرى اشتراطات بليدة.

في حوار صحفي أجريته منذ سنوات مع الناقد عهد فاضل، سألته: ماذا تقول للشعراء السعوديين الشباب؟ فقال: كل شاعر يكتب مدينته. ربما لم أستوعب ما قال حتى ظهرت لي نصوص مليئة بالعنادل والصنوبر والزيزفون فعرفت أن شعراء عدة من بلدي لم تصلهم رسالة الناقد، أو أنها وصلتهم ولم يستوعبوها. أن تكتب مدينتك، أو قريتك، معناه أن تكتب ذاتك، وأهلك، وبيئتك الأولى، ومهدك المعرفي والإنساني، بلغتك الخاصة، فلن تبلغ الشهرة والعالمية بالحديث عن أطعمة الآخرين وأشجارهم وحاناتهم وإنسانهم.

الشاعر عبدالرحمن الشهري تجربة شعرية نقيّة، وعميقة، والفلاسفة يرون أن العمق الحقيقي في الثقافة، ينتج بساطة في النص وانبساط في الشخص، ومن يعود لمجموعته الأولى أسمر كرغيف، ثم يستعرض بوعي ما صدر تالياً له إلى مجموعته التي صدرت من أيام (الكتابة على جهاز آيفون) سيلحظ التجليات الحقيقية في الارتقاء بالتجربة، والاشتغال على القراءة لا على الكتابة، فبقدر ما تغور في المنجم تضيء، وفي ضوء ما تستوعب لغة عصرك يمكنك الذهاب بقارئك إلى عمق البئر الأولى للارتواء من النبع مباشرة، كما يمكنك أن تحد من فضول الكلام، والحذلقة، والحمولات المؤدلجة.

لستُ معنياً بردود أفعال واقعة ومتوقعة تظن أننا بهكذا طرح نتطاول على نص شعري عريق، ونموذج بنائي حاضر، إلا أنني أراه مستهلكاً بالفتح والكسر، وليس المغزى تطاولا قدر ما هو هجاء للمحاكاة، وإلا ما معنى أن نحضر أمسية لشباب وفتيات ونخرج ونحن نقول استمعنا للثبيتي، أو الصيخان، أو جاسم الصحيح، ومن قرأ رواية داغستان بلدي، سيتوقف عند مشهد الأب الذي يرجم ابنه بالحجارة وهما في طريقهما إلى السوق، محذراً له من سلوك ذات الطريق الذي سلكه أبوه، وكان رسول حمزاتوف يتذكر بعض طفولته، ويروي عن والده قائلاً «عندما كنت صغيراً كان والدي يلفني في معطفه الفضفاض المصنوع من جلد الغنم، وينشد قصائده لي، لذلك فقد حفظت هذه القصائد عن ظهر قلب، قبل أن أركب الحصان أو ألبس حزاما، وكان يحب يسمعها مني بلثغاتي الأولى وتبديلاتي في النص ويضّمني سعيداً بأني لم أكرر عبارات الشعراء».

هل هناك شاعر بلا آباء؟ أكاد أجزم أنه لا تجربة شعرية ناجزة دون أبوية، حتى في المجتمعات التقدمية، وعربياً تأثرت التجربة الشعرية محلياً بالآباء من نزار إلى الجواهري إلى البردوني إلى سعدي يوسف إلى أدونيس ومحمود درويش، ولكني أستعيد مقولة أن الأسد هو مجموعة من الغزلان المهضومة، أو الذئب مجموعة من الخراف الدسمة، وبالطبع سيتجلى الهضم في القدرة على إنتاج نصّي، بعيداً عمن ظنوا أنهم استوعبوا تجارب أسلافهم، وهم واهمون.

الكتابة على جهاز آيفون، رمزية غير معقدة، تتحدث عن المسافات بين الأجيال، وتتحفظ على جيل لم ينجح بعد في تدوين قاموسه، بل ولا استحضاره ذهنياً، نجح الشاعر في تخليص الشعر من فوقية الشعراء الوهمية أو المتوهمة، وعاد للمنبع الشفيف، واشتغل على أنسنة النص باللغة البيضاء، (حتى البيت المبني بالحجر، يبنى بأحجار مصقولة، لا يمكن لها أن تخدش الأجساد، ربما كان عليه أن يدع الكلمات القديمة وشأنها. أن يقرأ امرأ القيس، والجاحظ، ثم ينسى ذلك كله، أن يكتب لنا ببساطة شديدة، كما يتحدث مع جيرانه في القرية). وعندما تردد عبدالرحمن الشهري بين كتابة مفردة (قنينة) وبين كلمة (قارورة) في نص آثر أصدقهما على سبيل المثال لا الحصر.

لماذا قلت في العنوان أنه شاعر يكتب بيته؟ ربما بسبب ما سكنني من نصوص هذه المجموعة، بل لعلها طهّرتني، وعمّدتني في البيت الذي كان كبيراً عندما كنا صغارا كما قال سعدي، ابن القرية الذي التقط ما تمليه السماء الأولى من مباهج، وما تهبه الحياة من تجربة ووعي، اعتماداً في بناء الجسد والذاكرة على مسحاة وزنبيل وفلج ماء تتقاسم منظومة العدالة الاجتماعية ستة أيام، وتتركه يستريح في يوم سابع.

أعذر من سيذهب إلى أن النص الحديث عادي، ولكل مبرراته، خصوصاً من ينطلق من حكم مسبق وقناعة قديمة، وليست هذه الجدلية في هذا المقام، محل اهتمام. كون نصوص الكتابة على جهاز آيفون باعثة على التأويل واختصار أحداث جسام في كلمات (كانت سميرة توفيق التي لا تقف خلف شاشة التلفزيون. بغمزة من عينها الكحيلة، تقف الحارة على ساق واحدة، ويتوقف الأطفال عن اللعب. حتى الزمن توقف عند رحيلها المفاجئ).

* من أسرة تحرير «عكاظ»