تركيا.. إسرائيل.. والعالم العربي
السبت / 12 / ربيع الثاني / 1439 هـ السبت 30 ديسمبر 2017 02:31
كامل الخطي *
وَرَدَ في تقرير ديبكا ريڤيو ليوم الخميس 7 أبريل 2016 أن وفداً إسرائيلياً برئاسة يوسف تشيخانوفير، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، قد اجتمع مع وفد تركي برئاسة فريدون سينيرلي أوغلو، نائب وزير الخارجية التركي. اجتمع الوفدان يوم الخميس 31 مارس 2016 في مكانٍ غير معلوم في أوروبا. ناقش الوفدان خلال اجتماعهما، شروط عودة علاقة الصداقة بين الدولتين إلى سابق عهدها، كما ناقشا موضوع مبيعات الغاز الإسرائيلي إلى تركيا، ومشروع خط أنابيب الغاز الإسرائيلي الذي سيمتد من حقول الغاز البحرية الإسرائيلية، ويمر منها عبر المياه القبرصية، ثم اليونانية في طريقه إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
أعاد هذا الخبر إثارة سؤال قديم طالما دار في ذهني، وهو سؤال يختفي فترات قصيرة، ويعاود الظهور كلما حفزه حدث له صلة بعلاقتنا كعرب مع أقوام أخرى من المسلمين: ماذا كان سيحدث لو بقي الإسلام عربياً خالصاً؟!
بُعِثَ نبي الإسلام في أرضٍ عربية، ونزل عليه الوحي بلسانٍ عربيٍ مبين، وبلّغَ رسالته باللغة العربية، ولكن أممية الإسلام فتحت الباب لقبول كافة الناس ضمن حياضه، فدخلت أقوامٌ غير عربية إلى الإسلام، وثابر متفوقو هذه الأقوام على العمل الجاد في مجمل مناحي النشاط البشري حتى سادوا وسيطروا على مركز الامبراطورية العربية الإسلامية في الفترة التي عُرِفَت بعصر «التغلب».
انتهى عصر التغلب بسقوط بغداد إثر الغزو المغولي عام 1258م، وقبل نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، ظهرت إلى الوجود دولة في الأناضول، أسستها عشيرة من المقاتلين المحترفين من الغز التركمان، وخلال أقل من قرن عقب وفاة عثمان الأول بن أرطغرل، المؤسس الفعلي للدولة، تحولت هذه الدولة إلى إمبراطورية تحكم أعراقاً مختلفة من صرب، وبولنديين، ومجريين، وألبان، وقوقازيين، وغيرهم من أعراق أوروبية، وأعراق آسيوية وسطى. واصلت الامبراطورية توسعها نحو جنوب الأناضول شرقاً، وغرباً، فضمت بلاد الشام، وبلاد ما بين النهرين، ومصر، وشمال أفريقيا، والقرن الأفريقي، وأصبحت تمتلك قوة بحرية في البحر الأحمر تَحَدّت بها نفوذ البرتغاليين البحري.
خدم العرب في كل فروع القوات المسلحة العثمانية، من انكشارية، وجندرمة، وبزق باش، وجيوش نظامية، وسلاح البحرية، وكذلك في أجهزة أمن الدولة مثل الصوباشية، والدرك، والبصاصين، وكانوا في خدمتهم تلك، إنَّما يخدمون خليفة المسلمين، وهي صفة اتخذها سلاطين آل عثمان ابتداءً من السلطان العثماني الثالث مراد الأول بن عثمان الأول بن أورخان الأول.
هؤلاء الخلفاء المسلمون الذين ساموا مواطنيهم العرب سوء العذاب، استقبلوا مؤسس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتزل، في 15 يونيو 1896، واجتمع معه الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وأَطْلَعَ هرتزل، الصدر الأعظم على مطلب الحركة الصهيونية القاضي بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، ورغم ذلك، قُلِد هرتزل وسام الاستحقاق المجيدي بدرجة قائد كبادرة حسن نية من العثمانيين تجاه القضية الصهيونية. نجح هرتزل في الاجتماع مع السلطان عبدالحميد الثاني بعد خمس سنوات من زيارته الأولى إلى اسطنبول، وكان ذلك في 17 مايو 1901. رفض السلطان عبدالحميد عرض هرتزل المُتَضَمن تعهد أثرياء اليهود بسداد الديون العثمانية، وقيام خبراء المال اليهود بتنظيم مالية الدولة العثمانية، مقابل منح فلسطين للصهاينة، لكن السلطان عبدالحميد لم يتخذ أي خطوة لإجهاض المطلب الصهيوني، حتى غربت شمس امبراطورية آل عثمان بانهزامها في الحرب العالمية الأولى، وتقاسُم تركتها في العالم العربي بين بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة التي أخذت اسمها من اسمَيْ الدبلوماسيين اللذين أمضيا أربعة أشهر لإتمامها، والتي أعقبها بعد أقل من عامٍ على إبرامها، إعلان وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفورإلى والتر روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية البريطانية، وينص هذا الوعد صراحة على أنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وَإِنَّ الحكومة البريطانية تعدُ ببذل قصارى جهدها من أجل تحقيق هذا الهدف. وقد نشرت الصحافة البريطانية هذا الإعلان في 9 نوفمبر 1917، وأصبح هذا الإعلان جزءا من اتفاقية السلام بين بريطانيا والدولة العثمانية، وضُمّ صك الانتداب البريطاني على فلسطين إلى الاتفاقية نفسها.
زالت الدولة العثمانية من الوجود الفعلي بسقوط آسيا الصغرى في يد الاحتلال الأوروبي، وزالت من الوجود بما تبقى لها من رسوم ورموز عام 1924 حين أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة.
اختار أتاتورك القطيعة مع الماضي الإسلامي، وأسس في تركيا دولة حديثة انتهجت الشكل الجمهوري للدولة، وألغى أتاتورك نظام التعليم القديم، واعتمد الحرف اللاتيني بدلاً عن الحرف العربي لكتابة اللغة التركية. ثم أن تركيا أخذت لواء إسكندرون السوري عام 1939، وظن العرب أنّ تركيا قد شاحت بوجهها عن المنطقة العربية وعن كل ما تمثله، وولت وجهها شطر أوروبا، واستماتت للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، لكن ملف حقوق الإنسان، وجمهورية شمال قبرص وقفا حائلاً دون تحقق الطموح التركي في اللحاق بالركب الأوروبي. كانت هذه من الأسباب المعلنة التي بررت بها أوروبا رفضها الاستجابة للطلب التركي، ولكن الرئيس الفرنسي الأسبق، ڤاليري جيسكار ديستان، وأثناء ترؤسه لمؤتمر معني ببحث مستقبل أوروبا الدستوري في شهر نوڤمبر 2002، صرح بملاحظة إلى جريدة اللوموند قال فيها: يجب أن تُبْعَدَ تركيا عن الاتحاد الأوروبي، وألمح في ملاحظته إلى إسلامية تركيا، وإلى ارتفاع معدل الزيادة السكانية في تركيا، وقال صراحة: نهجهم مختلف عنا، ثقافتهم تختلف عن ثقافتنا، وحياتهم تختلف عن حياتنا، تركيا دولة قريبة من أوروبا، وتركيا دولة مهمة، لكنها ليست دولة أوروبية، ولا تقع عاصمتها في أوروبا، و95% من سكانها يعيشون في أراضي خارج القارة الأوروبية. بعد يوم واحد من نشر كلام ديستان في اللوموند، كتب إيان بلاك مقالاً نُشِرَ في جريدة الجارديان الانجليزية، قال فيه: لقد صرح الرئيس الفرنسي السابق ڤاليري جيسكار ديستان بما يضمره كثير من السياسيين الأوروبيين، فقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي يعني إدخال ٦٨ مليون مسلم إلى أوروبا (كان عدد سكان تركيا 68 مليون نسمة عام 2002، أما حالياً فيبلغ عدد سكان تركيا قرابة ٧٩ مليون نسمة)، وبذلك ستغدو تركيا ثاني أكبر دولة في الاتحاد بعد ألمانيا. حينئذ، كانت الولايات المتحدة تضغط بشدة على أوروبا لكي تمنح تركيا عضوية الاتحاد، باعتبار أهمية تركيا لحلف شمال الأطلسي، ووقوعها مباشرة شمال العراق الذي كان قاب قوسين أو أدنى من وقوعه تحت الاحتلال الأمريكي والبريطاني، وحاجة القوات الغازية لجميع أشكال التسهيلات العسكرية التركية.
منذ تسعينات القرن العشرين حتى يومنا، لم تتوانَ تركيا يوماً عن سعيها في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن مع ازدهار وتألق نموذج السلطة في السنوات العشر الأولى من صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي، عادت تركيا والتفتت إلى جوارها العربي في الجنوب، وسعت حثيثاً إلى فتح الأسواق العربية لمنتجاتها، ونالت حظاً وافراً من النجاح في تحسين علاقتها مع جوارها العربي، إلى درجة أنها عرضت على سوريا توقيع اتفاقية مياه نهري دجلة والفرات مقابل إعلان سوريا تخليها عن المطالبة بلواء إسكندرون، المطلب الذي استجابت له حكومة بشار الأسد عملياً دون إعلان، لذلك لم تُوَقَعْ اتفاقية المياه رغم تطور العلاقات السورية التركية منذ عهد الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزار، واضطراد تطورها في عهد الرئيس عبدالله غول.
ما إن حلت الفوضى في العالم العربي نتيجة الهَبّات الشعبية التي أُطْلِقَ عليها «الربيع العربي»، حتى عادت تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، إلى اللعب في الساحات العربية من خلال تنظيمات جماعة الإخوان المسلمين، وانبعثت الآمال العثمانية في قيادة العرب والمسلمين من جديد، وكبادرة حسن نية، توترت العلاقات التركية الإسرائيلية ظاهرياً، ولكنها الآن في طريق عودتها إلى سابق عهدها عن طريق اتفاقيات الغاز العربي الذي تسطو عليه إسرئيل، وتساعدها حكومة حزب العدالة والتنمية «الإسلامي» على نقل وبيع هذا الغاز إلى دول أوروبا!
في العهدين التركيين العثماني، والجمهوري سواءً بوجهه العلماني أو بوجهه الإسلامي الحالي، لم تتوقف تركيا عن التعدي على العرب، بداية من سومهم سوء العذاب بتجهيلهم، ومعاملتهم كمواطنين أدنى من الأتراك، وتشغيلهم بالسخرة، وسحق انتفاضاتهم المطالبة بدرجة من درجات الحكم الذاتي، وقمع مطالبتهم بتخفيف درجة المركزية السياسية والإدارية، وصولاً إلى تعليق مثقفيهم على أعواد المشانق عندما قاوموا التتريك القسري الذي فرضه القوميون الطورانيون على الولايات العربية، وكذلك سوقهم مرغمين إلى ساحات القتال ليشاركوا في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وأخيراً، تخلي الأتراك عن فلسطين وقبولهم وعد بلفور كجزء أساسي من اتفاقية السلام العثمانية البريطانية بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى. وفي العهد الجمهوري العلماني، سلب الأتراك لواء إسكندرون، ثم جاء العهد الجمهوري بحزب إسلامي إلى السلطة، فأسهم في زيادة الفوضى التي اجتاحت العالم العربي، وسهل تدريب وتسلل المجموعات الإرهابية إلى العراق وسوريا، ثم ها هو ذات الحزب الإسلامي يشترك مع إسرائيل في نهب ثروات العرب ونقلها وبيعها.
من المؤلم جداً مشاهدة ومتابعة آلاف من المثقفين الإسلاميين العرب وهم يدافعون عن نموذج حزب العدالة والتنمية لأنه شجع ارتداء الحجاب، ولأنه - في زعمهم - يغلب مصلحة الجماعة (جماعة الإخوان المسلمين) على المصلحة الوطنية، لذلك سحق دون رحمة مئات الآلاف من المحتجين الأتراك عام 2013!!
السؤال الذي لم أستطع إجابته، ولا يريد مفارقتي: ماذا كان سيحدث لو بقي الإسلام عربياً خالصاً؟!
* باحث وكاتب سعودي
أعاد هذا الخبر إثارة سؤال قديم طالما دار في ذهني، وهو سؤال يختفي فترات قصيرة، ويعاود الظهور كلما حفزه حدث له صلة بعلاقتنا كعرب مع أقوام أخرى من المسلمين: ماذا كان سيحدث لو بقي الإسلام عربياً خالصاً؟!
بُعِثَ نبي الإسلام في أرضٍ عربية، ونزل عليه الوحي بلسانٍ عربيٍ مبين، وبلّغَ رسالته باللغة العربية، ولكن أممية الإسلام فتحت الباب لقبول كافة الناس ضمن حياضه، فدخلت أقوامٌ غير عربية إلى الإسلام، وثابر متفوقو هذه الأقوام على العمل الجاد في مجمل مناحي النشاط البشري حتى سادوا وسيطروا على مركز الامبراطورية العربية الإسلامية في الفترة التي عُرِفَت بعصر «التغلب».
انتهى عصر التغلب بسقوط بغداد إثر الغزو المغولي عام 1258م، وقبل نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، ظهرت إلى الوجود دولة في الأناضول، أسستها عشيرة من المقاتلين المحترفين من الغز التركمان، وخلال أقل من قرن عقب وفاة عثمان الأول بن أرطغرل، المؤسس الفعلي للدولة، تحولت هذه الدولة إلى إمبراطورية تحكم أعراقاً مختلفة من صرب، وبولنديين، ومجريين، وألبان، وقوقازيين، وغيرهم من أعراق أوروبية، وأعراق آسيوية وسطى. واصلت الامبراطورية توسعها نحو جنوب الأناضول شرقاً، وغرباً، فضمت بلاد الشام، وبلاد ما بين النهرين، ومصر، وشمال أفريقيا، والقرن الأفريقي، وأصبحت تمتلك قوة بحرية في البحر الأحمر تَحَدّت بها نفوذ البرتغاليين البحري.
خدم العرب في كل فروع القوات المسلحة العثمانية، من انكشارية، وجندرمة، وبزق باش، وجيوش نظامية، وسلاح البحرية، وكذلك في أجهزة أمن الدولة مثل الصوباشية، والدرك، والبصاصين، وكانوا في خدمتهم تلك، إنَّما يخدمون خليفة المسلمين، وهي صفة اتخذها سلاطين آل عثمان ابتداءً من السلطان العثماني الثالث مراد الأول بن عثمان الأول بن أورخان الأول.
هؤلاء الخلفاء المسلمون الذين ساموا مواطنيهم العرب سوء العذاب، استقبلوا مؤسس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتزل، في 15 يونيو 1896، واجتمع معه الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وأَطْلَعَ هرتزل، الصدر الأعظم على مطلب الحركة الصهيونية القاضي بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، ورغم ذلك، قُلِد هرتزل وسام الاستحقاق المجيدي بدرجة قائد كبادرة حسن نية من العثمانيين تجاه القضية الصهيونية. نجح هرتزل في الاجتماع مع السلطان عبدالحميد الثاني بعد خمس سنوات من زيارته الأولى إلى اسطنبول، وكان ذلك في 17 مايو 1901. رفض السلطان عبدالحميد عرض هرتزل المُتَضَمن تعهد أثرياء اليهود بسداد الديون العثمانية، وقيام خبراء المال اليهود بتنظيم مالية الدولة العثمانية، مقابل منح فلسطين للصهاينة، لكن السلطان عبدالحميد لم يتخذ أي خطوة لإجهاض المطلب الصهيوني، حتى غربت شمس امبراطورية آل عثمان بانهزامها في الحرب العالمية الأولى، وتقاسُم تركتها في العالم العربي بين بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة التي أخذت اسمها من اسمَيْ الدبلوماسيين اللذين أمضيا أربعة أشهر لإتمامها، والتي أعقبها بعد أقل من عامٍ على إبرامها، إعلان وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفورإلى والتر روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية البريطانية، وينص هذا الوعد صراحة على أنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وَإِنَّ الحكومة البريطانية تعدُ ببذل قصارى جهدها من أجل تحقيق هذا الهدف. وقد نشرت الصحافة البريطانية هذا الإعلان في 9 نوفمبر 1917، وأصبح هذا الإعلان جزءا من اتفاقية السلام بين بريطانيا والدولة العثمانية، وضُمّ صك الانتداب البريطاني على فلسطين إلى الاتفاقية نفسها.
زالت الدولة العثمانية من الوجود الفعلي بسقوط آسيا الصغرى في يد الاحتلال الأوروبي، وزالت من الوجود بما تبقى لها من رسوم ورموز عام 1924 حين أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة.
اختار أتاتورك القطيعة مع الماضي الإسلامي، وأسس في تركيا دولة حديثة انتهجت الشكل الجمهوري للدولة، وألغى أتاتورك نظام التعليم القديم، واعتمد الحرف اللاتيني بدلاً عن الحرف العربي لكتابة اللغة التركية. ثم أن تركيا أخذت لواء إسكندرون السوري عام 1939، وظن العرب أنّ تركيا قد شاحت بوجهها عن المنطقة العربية وعن كل ما تمثله، وولت وجهها شطر أوروبا، واستماتت للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، لكن ملف حقوق الإنسان، وجمهورية شمال قبرص وقفا حائلاً دون تحقق الطموح التركي في اللحاق بالركب الأوروبي. كانت هذه من الأسباب المعلنة التي بررت بها أوروبا رفضها الاستجابة للطلب التركي، ولكن الرئيس الفرنسي الأسبق، ڤاليري جيسكار ديستان، وأثناء ترؤسه لمؤتمر معني ببحث مستقبل أوروبا الدستوري في شهر نوڤمبر 2002، صرح بملاحظة إلى جريدة اللوموند قال فيها: يجب أن تُبْعَدَ تركيا عن الاتحاد الأوروبي، وألمح في ملاحظته إلى إسلامية تركيا، وإلى ارتفاع معدل الزيادة السكانية في تركيا، وقال صراحة: نهجهم مختلف عنا، ثقافتهم تختلف عن ثقافتنا، وحياتهم تختلف عن حياتنا، تركيا دولة قريبة من أوروبا، وتركيا دولة مهمة، لكنها ليست دولة أوروبية، ولا تقع عاصمتها في أوروبا، و95% من سكانها يعيشون في أراضي خارج القارة الأوروبية. بعد يوم واحد من نشر كلام ديستان في اللوموند، كتب إيان بلاك مقالاً نُشِرَ في جريدة الجارديان الانجليزية، قال فيه: لقد صرح الرئيس الفرنسي السابق ڤاليري جيسكار ديستان بما يضمره كثير من السياسيين الأوروبيين، فقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي يعني إدخال ٦٨ مليون مسلم إلى أوروبا (كان عدد سكان تركيا 68 مليون نسمة عام 2002، أما حالياً فيبلغ عدد سكان تركيا قرابة ٧٩ مليون نسمة)، وبذلك ستغدو تركيا ثاني أكبر دولة في الاتحاد بعد ألمانيا. حينئذ، كانت الولايات المتحدة تضغط بشدة على أوروبا لكي تمنح تركيا عضوية الاتحاد، باعتبار أهمية تركيا لحلف شمال الأطلسي، ووقوعها مباشرة شمال العراق الذي كان قاب قوسين أو أدنى من وقوعه تحت الاحتلال الأمريكي والبريطاني، وحاجة القوات الغازية لجميع أشكال التسهيلات العسكرية التركية.
منذ تسعينات القرن العشرين حتى يومنا، لم تتوانَ تركيا يوماً عن سعيها في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن مع ازدهار وتألق نموذج السلطة في السنوات العشر الأولى من صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي، عادت تركيا والتفتت إلى جوارها العربي في الجنوب، وسعت حثيثاً إلى فتح الأسواق العربية لمنتجاتها، ونالت حظاً وافراً من النجاح في تحسين علاقتها مع جوارها العربي، إلى درجة أنها عرضت على سوريا توقيع اتفاقية مياه نهري دجلة والفرات مقابل إعلان سوريا تخليها عن المطالبة بلواء إسكندرون، المطلب الذي استجابت له حكومة بشار الأسد عملياً دون إعلان، لذلك لم تُوَقَعْ اتفاقية المياه رغم تطور العلاقات السورية التركية منذ عهد الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزار، واضطراد تطورها في عهد الرئيس عبدالله غول.
ما إن حلت الفوضى في العالم العربي نتيجة الهَبّات الشعبية التي أُطْلِقَ عليها «الربيع العربي»، حتى عادت تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، إلى اللعب في الساحات العربية من خلال تنظيمات جماعة الإخوان المسلمين، وانبعثت الآمال العثمانية في قيادة العرب والمسلمين من جديد، وكبادرة حسن نية، توترت العلاقات التركية الإسرائيلية ظاهرياً، ولكنها الآن في طريق عودتها إلى سابق عهدها عن طريق اتفاقيات الغاز العربي الذي تسطو عليه إسرئيل، وتساعدها حكومة حزب العدالة والتنمية «الإسلامي» على نقل وبيع هذا الغاز إلى دول أوروبا!
في العهدين التركيين العثماني، والجمهوري سواءً بوجهه العلماني أو بوجهه الإسلامي الحالي، لم تتوقف تركيا عن التعدي على العرب، بداية من سومهم سوء العذاب بتجهيلهم، ومعاملتهم كمواطنين أدنى من الأتراك، وتشغيلهم بالسخرة، وسحق انتفاضاتهم المطالبة بدرجة من درجات الحكم الذاتي، وقمع مطالبتهم بتخفيف درجة المركزية السياسية والإدارية، وصولاً إلى تعليق مثقفيهم على أعواد المشانق عندما قاوموا التتريك القسري الذي فرضه القوميون الطورانيون على الولايات العربية، وكذلك سوقهم مرغمين إلى ساحات القتال ليشاركوا في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وأخيراً، تخلي الأتراك عن فلسطين وقبولهم وعد بلفور كجزء أساسي من اتفاقية السلام العثمانية البريطانية بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى. وفي العهد الجمهوري العلماني، سلب الأتراك لواء إسكندرون، ثم جاء العهد الجمهوري بحزب إسلامي إلى السلطة، فأسهم في زيادة الفوضى التي اجتاحت العالم العربي، وسهل تدريب وتسلل المجموعات الإرهابية إلى العراق وسوريا، ثم ها هو ذات الحزب الإسلامي يشترك مع إسرائيل في نهب ثروات العرب ونقلها وبيعها.
من المؤلم جداً مشاهدة ومتابعة آلاف من المثقفين الإسلاميين العرب وهم يدافعون عن نموذج حزب العدالة والتنمية لأنه شجع ارتداء الحجاب، ولأنه - في زعمهم - يغلب مصلحة الجماعة (جماعة الإخوان المسلمين) على المصلحة الوطنية، لذلك سحق دون رحمة مئات الآلاف من المحتجين الأتراك عام 2013!!
السؤال الذي لم أستطع إجابته، ولا يريد مفارقتي: ماذا كان سيحدث لو بقي الإسلام عربياً خالصاً؟!
* باحث وكاتب سعودي