اهربوا من غزة أو ارحلوا طائعين

علي حسن التواتي

على إثر انهيار خط الحدود بين مصر وقطاع غزّة في معبر رفح وعدّة نقاط أخرى تفصل المدينة التي سبق أن استولى الاحتلال الإسرائيلي على نصفها وترك نصفها الآخر للمصريين، تعددت ردود الأفعال في العالم العربي تجاه ما حصل بتعدد مصادرها، فقد اعتبرها فريق من (مصارعي طواحين الهواء) بطولة جديدة تندرج في سلسلة ملاحم البطولة الفلسطينية نتج عنها كسر الحصار الإسرائيلي الظالم رغماً عن إسرائيل ومصر وكافة الدول العربية، واعتبرها فريق آخر لمسة حنان وتعاطف قومي مصري مع الفلسطينيين المحاصرين حتى لا يتضورا جوعاً وعطشاً. والغريب أن أحد زعماء حماس في غزّة أخذته نشوة الاعتزاز بالحدث حدّ الإيحاء بأنه كان مخططاً من قبل قيادته وأخذ بإعلان التهديد والوعيد باختراق مماثل على حدود غزّة مع إسرائيل. ويبقى بين هذا الفريق وذاك فريق ثالث سبّب له ما حدث عسر هضم فلم يقبل أيا من التفسيرين ببساطة، لأن مصر وإسرائيل كانتا قادرتين على منع حدوث ما حدث بالقوة لو شاءتا ذلك وهذا ما شاركهم فيه كثير من الكتاب الغربيين الذين رأى بعضهم أن ما حدث لا يعدو كونه مسلسل سير أحداث (سيناريو) مرسوما ومتفقا عليه لإخراج إسرائيل من ورطتها بحصار غزّة بماء الوجه بعد أن تحرك العالم أجمع باتجاه إدانة إسرائيل واضطرار الإدارة الأمريكية تحت ضغط الرأي العام الغربي لتوجيه تعليماتها للقيادة الإسرائيلية بإنهاء الحصار الأكثر إحراجاً في سلسلة المواقف المحرجة للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة. أما المتشبعون بفكر المؤامرة فيرون أن ما يحدث الآن الهدف منه إفراغ غزّة من سكانها وفتح منفذ واضح لهم للهرب من القطاع ومن أسر قيادة حماس قبل تحرك القوات الإسرائيلية للإجهاز على تلك القيادة التي تعيق التوصل إلى اتفاق سلام مع الفريق الآخر في السلطة الفلسطينية، وهذا من وجهة نظرهم ما يفسّر إصرار الفريق الفلسطيني الآخر على استسلام حماس وتسليمهم القطاع قبل أي حوار بين الطرفين ..
وفي خضم التفسيرات والتأويلات المتعددة يتميز الكاتب الأمريكي (مايكل ويتني) في مقالته الدورية (البحوث الدولية) التي استعرت عنوانها لهذه المقالة والتي يطرح فيها أفكاراً جديرة بالاهتمام ترتكز على أن الحدث برمّته ما هو إلا نتاج لخطّة إسرائيلية مدروسة اتضحت معالمها في ردود أفعال القيادة الإسرائيلية على الحدث كما وردت في صحيفة (حاروتز شيفا) التي رصدت ردّ فعل عضو الكنيست اليساري الإسرائيلي (اريه إلداد) الذي أثنى على الفلسطينيين الذين عبروا الحدود مع مصر لأنهم يقدّمون بياناً عملياً للعالم بأن الفلسطينيين غير محاصرين وأن أمامهم بالفعل خياراً واضحاً يتمثل في إمكانية الانتقال الاختياري للدول العربية المجاورة Voluntary transfer. لذلك يرى الكاتب أن الفلسطينيين الذين غادروا القطاع إلى مصر قد استدرجوا إلى فخ تفريغ القطاع من سكانه وأن إسرائيل ستتحرك في الوقت المناسب لإعادة إغلاق الحدود ومنعهم من العودة. ولمزيد من الإيضاح للخطة الإسرائيلية حسبما يراها، يورد الكاتب مزيداً من الشواهد منها تقرير نقلته وكالة الأنباء اليهودية يوم 2004/1/24م يشير إلى أن المسؤولين الإسرائيليين طالبوا بضرورة تولي مصر شؤون قطاع غزّة، وينسب لرئيس الوزراء الإسرائيلي قوله يوم الخميس الماضي (بعد أن اجتاز الفلسطينيون خط الحدود بين غزّة و مصر، هناك فرصة للطلب من مصر تولي شؤون احتياجات القطاع الساحلي، وعلينا أن نفهم أنّ غزّة عندما تفتح على الجانب الآخر تفقد مسؤوليتنا تجاهها وعلينا أن نفك ارتباطنا نهائياً بها)، ويورد الكاتب أيضاً تصريحاً لنائب وزير الدفاع الإسرائيلي لراديو الجيش قال فيه (نحن لا نعتبر مسؤولين عن غزّة إلا إذا لم تكن هناك بدائل أخرى). ورغم كل هذه التصريحات يمضي الكاتب في التأكيد على أن هذه الدعوات وهذه الإجراءات في غزّة لا تعدو كونها إجراءات مؤقتة تهدف إسرائيل من ورائها لتفريغ القطاع من سكانه الذين قد يرغبون في المغادرة طوعاً، أما من يتبقى بعد ذلك فسيجبر على الرحيل والمغادرة كرهاً، لأن إسرائيل لن تتخلى عن غزّة أرضاً مهما كلّف الأمر، وخطّة نشر المستوطنات بالطريقة التي نشرت بها في الأراضي المحتلة تجعل من المستحيل عملياً قيام دولة فلسطينية متصلة أرضاً في القطاع وغزّة.
وسواء كان ما قام به الفلسطينيون تلقائياً أو متفقاً عليه بين أطراف محلية وإقليمية فلا بد من التروي حتى يذوب الثلج ويظهر المرج لتتضح أبعاد هذه القضية الغريبة التي ساهمت في تفريغ قطاع غزّة من 750 ألفاً يمثلون نصف سكانه تقريباً، مع ترحيب مصري وليونة إسرائيلية. وسواء كان الهدف فرض تسوية من نوع ما أو الخروج بماء الوجه للإسرائيليين من حصار عجزوا عن تحمل تبعاته إلا أن تشبيه انهيار خط الحدود المصري الغزّي لا يشبه بحال انهيار سور برلين حسب تشبيه البعض، لأن خطوط الحدود بين البلاد العربية أصعب من أن يتم اجتيازها بمثل هذه البساطة، وينطبق هذا حتى على خطوط الحدود بين إسرائيل والدول المجاورة لها وإلا فلماذا لا يخترق السوريون في الجولان المحتل حدود الاحتلال مع بلادهم سوريا!؟ ولماذا لا يجتاز الفلسطينيون حدود جنوب لبنان باتجاه الجليل والناصرة التي تسمى الان شمال إسرائيل!؟ ولذلك أدعو للتروي في الحكم على الأمور لأن الأحداث عودتنا في هذا الجزء من العالم أن ما نراه بأعيننا لا يعني الحقيقة دائماً وبالتالي لن أصفق لفلسطيني عبر الحدود نحو مصر ولن أصفق لقيادة حماس التي ترعد وتزبد في الفضائيات وتتخذ مواقف مخالفة على الأرض وسأنتظر مع جموع المنتظرين نهاية واضحة لما يبدو أنه مهزلة جديدة من مهازل الحل السلمي المنتظر في إطار إعادة ترتيب الشرق الوسط الجديد أو الكبير أو سمّه ما تشاء ..
altawati@yahoo.com