عن أي سعادة نبحث !
الاثنين / 21 / ربيع الثاني / 1439 هـ الاثنين 08 يناير 2018 01:52
نجيب يماني
وددت لو أنّ الزمن منحني سعة من الوقت لحضور أمسية الدكتور سعيد السريحي، ضمن فعاليات معرض جدة للكتاب، لمكانة هذا الرجل في قلبي، ومسيرته التي لم تخلُ من «منعطفات» عديدة، تستبطن في جوفها كثيرا من الأسرار والمفاجآت، كانت المسامرة تدور حول حلول الدكتور السريحي ضيفاً على المعرفة، معدداً ولادته المتجددة تحت وفاء أنوار الكتب ومستعيدا مع معشوقته القراءة حكاية 60 عاما خلت.
هرعت إلى الصحف للوقوف على ما جاء في الندوة، فما بلغت مرادي، بقدر ما أعادت ملخصات الندوة في داخلي جدلاً وأسئلة قلقة، في خاطري منذ زمن طويل، وبخاصة في ما يتصل بنظرة الأجيال لبعضها في تتابعها الزمني، من جهة، والربط الوثيق بين الثقافة والتعاسة من جهة أخرى، وهو ما مرّ عليه بالتأكيد والمعاضدة حديثة في صحيفة «عكاظ». حيث «اعترف السريحي بأن جيله كان أكثر جدية من الجيل الحالي، إلا أنه لم يكن جيلاً سعيداً بما يكفي كما هو حال الجيل الحالي، ولم يتردد في مقايضة جيل اليوم في منحه سعادة مقابل الجدية والمعرفية، مستعيدا مقولة أحد الفلاسفة كلما زادت ثقافة الإنسان زادت تعاسته».
إن هذا المجتزأ من حديث الدكتور السريحي، يعيد في داخلي صورة مكررة لماهية العلاقة بين أجيالنا، فقلّ أن تجد جيلاً من الأجيال لا يمتدح من سلفه بالمحامد، ويحط من قدر الذي يليه، في متوالية من المقارنات، التي ما كان لنا أن نأخذها بهذا الشكل لو استصحبنا في هذه المقارنات دالة الزمن ومتغيرات العصور بوصفها العامل الحاسم في ذلك. فحديثه يأخذ بالجملة والتعميم ما كان يتوجب عليه أن يضعه في ميزان الفحص بالمعلومة والتدقيق، بقوله إن جيله كان أكثر جدية من الجيل الحالي، يحفز على طرح أسئلة عديدة في ماهية هذه الجدية، وفي أي مجال كانت؟، وما هي ثمرتها؟، وما هو المعيار الذي استند إليه في هذا التقييم، وما هي المحصلة التي خرج بها على وجه الاستبيان والإحصاء؟، فتجريد جيل بأكمله من الجدية يعني أن «المستقبل» رهن لموات وضمور، بما يعلّق جرس المسؤولية نفسه في عاتق الجيل الذي أنتج هذا الجيل، وعلى هذا فإن «الجدية» التي وصم بها السريحي جيله تصبح محل نظر برأيي، وإلا؛ فكيف أغفلت عنصر التربية الذي يهيئ جيلاً جاداً، ولا حرج عندي من القول إذاً إن جدية جيل السريحي كانت ناقصة بمعياره الذي طرحه.
إن حديث أستاذنا السريحي لا يكاد يخرج مما ظللنا نسمعه، ونتداوله في مجالسنا والخاصة، ومحاولة النظر إلى الجيل الحالي بعين النقيصة، والازدراء من أحلامه، والتقزيم من نواتج تفكيره، في صورة تشي بحالة من انقطاع الأجيال عن بعضها البعض، ومحاولة بناء «حواجز» زمنية بين جيل وجيل، وممارسة حالة من «الأستاذية» تستلف كل أدوات التقييم والتصحيح وحتى المعاقبة، دون أن تسائل نفسها عن دورها في وصول الجيل الحالي إلى ما هو عليه أن الأمر يحتاج إلى كثير بحث، ومزيد من الصبر على معرفة كيف يفكر هذا الجيل، وإلى أي غاية يرمي، وماذا عندنا له ليستعين به في رسم حالته المائزة، فليست الغاية أن تتناسخ الأجيال، وإنما الغاية أن تتكامل أدوارها في سياق بناء متصل في تناغم لا يئد ضرورة التميز والتفرد المطلوبين.
أما في ما يتصل بالربط الوثيق و«السيامي» ما بين الثقافة والتعاسة، ومقايضة للجيل الحالي بما يحمله من ثقافة ومعرفة أورثته بؤسا وتعاسة حال، في مقابل جيل خلوِ من ذلك بما مكنه من التمرغ في السعادة، فقول درج يعفي الأدباء على التحجج به وقفز إلى خاطري قول المتنبي، الذي يجيء رديفًا لما ساقه من قول الفيلسوف «كلما زادت ثقافة الإنسان زادت تعاسته»، فالمتنبي يقول:
ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
ولا يخفى جودة قول المتنبي على صاحبه الفيلسوف، وعلوّه معنى ومرمى.
غير أني لا أجد لهذا الربط من معنى أو مبرر، إلا إذا لم تعد السعادة أمرا غير نسبي كما هو المتعارف عليه، فأي سعادة يتمتع بها هذا الجيل يطلبها وينشدها السريحي.. راجح القول إنها سعادة تخليص الذات من رهق الأسئلة الوجودية التي ما زالت تحاصر الإنسان في حياته، ولا إجابة عنها.. لكن ألا يتفق معي أن ما ينشده من هذه المقايضة - إن صحت عناصرها - لا يعدو أن يكون «ازدراء للمعرفة واحتفاء بالخواء».. متنبها مع ذلك إلى ما في قوله من فخاخ التجهيل لجيل كامل، لا أعرف كيف وصل إلى حقيقته المطلقة هذه، وربما يكون في تعقيبي هذا ما يحرضه على المضي عميقا في استجلاء هذا الملحظ، مساهمة في البحث عن الأسباب والدوافع، واستبيان كل جوانبه استكناها لما ينطوي عليها من نواتج آنية ومستقبلية، والحلول المقترحة بمراحلها المطلوبة لمعالجة ذلك، فليست الغاية استمرار صراع «لعنة الأجيال»، وإنما الهدف أن تنتقل «جينات» الوعي والثقافة والمعرفة بكل حمولاتها المستطابة في «صبغيات» الأجيال بلا نزعة لـ«الادعاء» في حالة الرضا، أو جنوح نحو «التبرؤ» حين الفشل.
هرعت إلى الصحف للوقوف على ما جاء في الندوة، فما بلغت مرادي، بقدر ما أعادت ملخصات الندوة في داخلي جدلاً وأسئلة قلقة، في خاطري منذ زمن طويل، وبخاصة في ما يتصل بنظرة الأجيال لبعضها في تتابعها الزمني، من جهة، والربط الوثيق بين الثقافة والتعاسة من جهة أخرى، وهو ما مرّ عليه بالتأكيد والمعاضدة حديثة في صحيفة «عكاظ». حيث «اعترف السريحي بأن جيله كان أكثر جدية من الجيل الحالي، إلا أنه لم يكن جيلاً سعيداً بما يكفي كما هو حال الجيل الحالي، ولم يتردد في مقايضة جيل اليوم في منحه سعادة مقابل الجدية والمعرفية، مستعيدا مقولة أحد الفلاسفة كلما زادت ثقافة الإنسان زادت تعاسته».
إن هذا المجتزأ من حديث الدكتور السريحي، يعيد في داخلي صورة مكررة لماهية العلاقة بين أجيالنا، فقلّ أن تجد جيلاً من الأجيال لا يمتدح من سلفه بالمحامد، ويحط من قدر الذي يليه، في متوالية من المقارنات، التي ما كان لنا أن نأخذها بهذا الشكل لو استصحبنا في هذه المقارنات دالة الزمن ومتغيرات العصور بوصفها العامل الحاسم في ذلك. فحديثه يأخذ بالجملة والتعميم ما كان يتوجب عليه أن يضعه في ميزان الفحص بالمعلومة والتدقيق، بقوله إن جيله كان أكثر جدية من الجيل الحالي، يحفز على طرح أسئلة عديدة في ماهية هذه الجدية، وفي أي مجال كانت؟، وما هي ثمرتها؟، وما هو المعيار الذي استند إليه في هذا التقييم، وما هي المحصلة التي خرج بها على وجه الاستبيان والإحصاء؟، فتجريد جيل بأكمله من الجدية يعني أن «المستقبل» رهن لموات وضمور، بما يعلّق جرس المسؤولية نفسه في عاتق الجيل الذي أنتج هذا الجيل، وعلى هذا فإن «الجدية» التي وصم بها السريحي جيله تصبح محل نظر برأيي، وإلا؛ فكيف أغفلت عنصر التربية الذي يهيئ جيلاً جاداً، ولا حرج عندي من القول إذاً إن جدية جيل السريحي كانت ناقصة بمعياره الذي طرحه.
إن حديث أستاذنا السريحي لا يكاد يخرج مما ظللنا نسمعه، ونتداوله في مجالسنا والخاصة، ومحاولة النظر إلى الجيل الحالي بعين النقيصة، والازدراء من أحلامه، والتقزيم من نواتج تفكيره، في صورة تشي بحالة من انقطاع الأجيال عن بعضها البعض، ومحاولة بناء «حواجز» زمنية بين جيل وجيل، وممارسة حالة من «الأستاذية» تستلف كل أدوات التقييم والتصحيح وحتى المعاقبة، دون أن تسائل نفسها عن دورها في وصول الجيل الحالي إلى ما هو عليه أن الأمر يحتاج إلى كثير بحث، ومزيد من الصبر على معرفة كيف يفكر هذا الجيل، وإلى أي غاية يرمي، وماذا عندنا له ليستعين به في رسم حالته المائزة، فليست الغاية أن تتناسخ الأجيال، وإنما الغاية أن تتكامل أدوارها في سياق بناء متصل في تناغم لا يئد ضرورة التميز والتفرد المطلوبين.
أما في ما يتصل بالربط الوثيق و«السيامي» ما بين الثقافة والتعاسة، ومقايضة للجيل الحالي بما يحمله من ثقافة ومعرفة أورثته بؤسا وتعاسة حال، في مقابل جيل خلوِ من ذلك بما مكنه من التمرغ في السعادة، فقول درج يعفي الأدباء على التحجج به وقفز إلى خاطري قول المتنبي، الذي يجيء رديفًا لما ساقه من قول الفيلسوف «كلما زادت ثقافة الإنسان زادت تعاسته»، فالمتنبي يقول:
ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
ولا يخفى جودة قول المتنبي على صاحبه الفيلسوف، وعلوّه معنى ومرمى.
غير أني لا أجد لهذا الربط من معنى أو مبرر، إلا إذا لم تعد السعادة أمرا غير نسبي كما هو المتعارف عليه، فأي سعادة يتمتع بها هذا الجيل يطلبها وينشدها السريحي.. راجح القول إنها سعادة تخليص الذات من رهق الأسئلة الوجودية التي ما زالت تحاصر الإنسان في حياته، ولا إجابة عنها.. لكن ألا يتفق معي أن ما ينشده من هذه المقايضة - إن صحت عناصرها - لا يعدو أن يكون «ازدراء للمعرفة واحتفاء بالخواء».. متنبها مع ذلك إلى ما في قوله من فخاخ التجهيل لجيل كامل، لا أعرف كيف وصل إلى حقيقته المطلقة هذه، وربما يكون في تعقيبي هذا ما يحرضه على المضي عميقا في استجلاء هذا الملحظ، مساهمة في البحث عن الأسباب والدوافع، واستبيان كل جوانبه استكناها لما ينطوي عليها من نواتج آنية ومستقبلية، والحلول المقترحة بمراحلها المطلوبة لمعالجة ذلك، فليست الغاية استمرار صراع «لعنة الأجيال»، وإنما الهدف أن تنتقل «جينات» الوعي والثقافة والمعرفة بكل حمولاتها المستطابة في «صبغيات» الأجيال بلا نزعة لـ«الادعاء» في حالة الرضا، أو جنوح نحو «التبرؤ» حين الفشل.