ثقافة وفن

مهدي بن سعيد.. كتب ما لم يره حتى ارتوت الشمس من دمه

الريح تأخذ من أحزاني «ثمر» وأجنحة

الشاعر مهدي بن سعيد

قراءة: علي الرباعي

أن يكون الشعرُ تكثيفاً وتأملاً وانفعالاً فذاك أمر متفق عليه، أما أن يتحول إلى شيفرة جمالية، محفزة للتأويلات فتلك ثورة حداثية أتقنها شعراء عدة، وتفرّد منهم مهدي بن سعيد في جرأته على تبادل المواقع مع شعريته في مجابهة الريح، واختيار المطلق دون مراعاة للنسبية، متجاوزاً رقيبه الداخلي، في مساءلة المستحيل، وأسطرة الممكن، وقبل أن يتهاوى الجسدُ الباحث عن سلام سرمدي، ها هو يستعيد أسلافه الواقفين منذ آلاف السنين على الأطلال، ويجاريهم بالوقوف حولين وأكثر وفي يده كلماته البيضاء قبل أن يتجاسر على تحويلها إلى مدية لتشريح الهم في داخله حتى وإن ارتوت الشموس من دمائه (حولين وأكثر وأنا واقف بخط الزوال، والريح تأخذ من أحزاني «ثمر» وأجنحة، أشرب هجير القوايل وأحلف أنه زلال، والشمس تشرب دمي عذبٍ ولا تمدحه).

لم تخن مهدي بن سعيد لباقة الشعر، فالمركزية عنده في حبه المغلف بصوره الاستثنائية. القوي قوة إرادته في إخفاء مشاعره، مع يقينه أن المركزية العاطفية لا تعني التسامي الكلامي لتقطير أشواق الروح، قدر ما تعني اللعب على ألغام الذاكرة وتحريك ديناميت التذكر، وإذ هو يستعيد شجرة حبه لا يتبرم من توظيفات الدلالات من الحكمة والمثل، فالشيء البلاش ربحه بادي كما يقول المثل (شجرة طريق الثمر والعود منها حلال، بلاش.. واللي بلاش الفوز به مربحه، من مر حافي خذا منها عصاة ونعال، يقطع ويجرح وهي تدراه لا تجرحه، طوّل ثيابي ومرجحتك عبث وارتحال، في هالقسا ماحلمت بغيمةٍ مفرحة، إن شفت خيل العواصف قلت هذا احتلال، وإن هوّنت قبل توصل قلت لا.. مذبحه!).

من طبيعة الشعراء المتفردين أن تنشحن شعريته بقدر من الشخصنة والذاتية، وبقدر ما يجنح الشاعر إلى لغته الخاصة التي لا تشبه إلا هو قدر ما يتعالى على العدمية والسوداوية، ويخرج من نرجسيته ليردف الهوية الإنسانية الجمعية بالقيم الجمالية ومن سقط الزند يقدح شرارة الموهبة ويستولد طاقاتها الكامنة لتتداخل فصول العام في ظل انشغال شاعر بالتقاط روحه من براثن الفقد، ومع كل قدرات الشاعر على تحويل معجزته إلى منهل لسبك الثيمات إلا أنه كائن بشري يعجزه أحياناً التمرد على بياض القلب ونثر رماد الذكريات تحت طائلة النسيان فيتسع به المكان روحياً وينسى تقنيات الشرح بحكم أن لوحة القصيدة سريالية الرؤية وواقعية المدرسة (نسيت كيف أشرح الرمضا بعشب الخيال، الواقع اللي تشربته محال اشرحه، أنسيتني سكّر الجابه ومر السؤال، صوتي نشز مكرفونه وانطفى مسرحه).