كتاب ومقالات

الهروب للأمام

محمد مفتي

مع بدايات إجازات الربيع والصيف تتأهب الآلاف من الأسر السعودية للسفر شرقاً وغرباً، لقضاء عدة أيام أو أسابيع في رحاب تلك الدول، وما يتبع ذلك من هروب مبالغ ضخمة من الأموال خارج حدود الدولة، والتي لن نبالغ اذا قلنا إنها تحسب بمليارات الريالات، والتي تصب في نهاية المطاف في صالح الدول السياحية التي تجتذب السائحين السعوديين، وهي الأموال التي كان من الممكن ضخها في شرايين الدولة الداخلية لتنشيط وتطوير القطاع السياحي المحلي، ليتمكن بجدارة من منافسة تلك الدول الرائدة سياحياً.

إن ظاهرة نفور السعوديين من السياحة الداخلية واتجاههم للخارج يطرح سؤالين مهمين؛ الأول منهما: لماذا يسافر السعوديون للخارج للسياحة؟ والثاني وهو الأكثر عمقاً: هل توجد معالم سياحية فعلاً داخل المملكة؟ ومن المستفيد منها؟ والإجابة عن هذين السؤالين واحدة تقريباً، فعلى الرغم من امتلاك المملكة جميع المقومات السياحية، سواء مقومات السياحة الدينية أو الترفيهية أو الثقافية أو العلاجية أو سياحة المعارض والمؤتمرات، إلا أن صناعة السياحة نفسها لا زالت تعاني الكثير من العثرات وأهمها على المستوى الفكري.

لا نريد إلقاء اللوم على الدولة لتردي اقتصادها السياحي، بل إن ذلك ليس من الإنصاف في شيء، فتيار الصحوة الذي نشط في سبعينات القرن الماضي بالمملكة - والذي لا زالت بعض أفكاره تسيطر على قطاع كبير من المواطنين حتى وقتنا الراهن - هو السبب الرئيسي لانتكاس النهضة السياحية بالمملكة، ذلك أن الكثير من المقومات السياحية كانت وحتى فترة قريبة من المحرمات، من وجهة نظر أنصار الصحوة، منها على سبيل المثال دور السينما، كما أن الآثار اعتبرت وقتذاك بمثابة بدع أو دلائل جاهلية، وغيرها وغيرها.

من المؤلم أن المملكة تزخر بمقومات سياحية لو تم تنشيطها واستغلالها منذ زمن لكانت المملكة في الوقت الحالي رائدة في المجال السياحي في المنطقة، فالمملكة دولة شاسعة مترامية الأطراف، لديها شواطئ ساحرة وجزر خلابة تصلح للسياحة الترفيهية بجدارة، ولديها الكثير من الآثار التاريخية النادرة التي تنفرد بها على مستوى دول العالم أجمع، مما يميزها في مجالات سياحية عدة بخلاف السياحة الدينية التي توليها الدولة جل اهتمامها في المقام الأول، كما أن لديها صحارى واسعة تصلح للسياحة الرياضية على اختلاف مجالاتها، ومروراً بالمدن التجارية العملاقة والتي تؤهلها لإقامة مراكز الأعمال والتسوق، وفوق هذا وذاك توافر رؤوس الأموال التي يمكن استثمارها لتأسيس بنية سياحية تحتية تساهم في إنجاز كل ما سبق.

قبل أشهر.. وفي اللقاء الصحفي لتدشين مشروع نيوم بالمملكة، أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأننا لن نعود للوراء، وقد توعد الأمير الشاب بالقضاء على أي أفكار متطرفة ستكون عثرة في طريق التنمية، وقد اعتبر هذا التصريح بمثابة نقطة انطلاق لتدشين عصر جديد من النهضة السياحية بالمملكة، هذا التصريح تزامن مع الكثير من الحقائق الملموسة، ومنها بدء الدولة بمنح التراخيص لدور السينما، وتنشيط الجزر السياحية وإعادة تأهيلها، والسماح للمرأة بقيادة المركبات، وغيرها، مما يؤكد أن الدولة عازمة بالفعل لبناء فكر معتدل جديد، لا يتحكم فيه حفنة ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على مقدرات الدولة وعلى شعب بأكمله.

إن إرث تيار الصحوة متعمق في الجذور، ومن هنا ظهرت الحاجة الماسة لشخصية قوية وفاعلة تستطيع بجسارة نفض الغبار عن التقاليد البائدة، كما تستطيع أيضاً إيقاف الاحتكار الاقتصادي للبعض على مرافق الدولة العامة كالأراضي الساحلية، وهو ما تجسد في شخص الأمير الشاب محمد بن سلمان، والذي جاء بمنهج جديد وفكر حديث يقوض به دعائم المعتقدات المتحجرة والأفكار البالية، والتي أضرت الشعب على مدار تاريخ المملكة ولم تفده بشيء يذكر، حيث اعتبر الأمير قطاع السياحة أحد ركائز الاقتصاد الوطني، وأحد موارد الدخل المهمة التي تمكن الدولة من التطور بعيداً عن النفط، وأن سواحل المملكة الشاسعة لعموم الشعب وليست للقلة منهم، لقد طرح الأمير أجندته والتي لم يكن يجرؤ أحد من قبل حتى على مناقشة بنودها على هذا النحو، معلناً من خلالها أنه يعمل بكل جهده لصالح هذا الوطن ولصالح مستقبله البعيد، بعيداً عن مناخ التحريض الفكري والاقتصادي، والذي لطالما ظل جاثما على صدر هذا الوطن لعشرات السنين، والذي يعني صراحة الهروب من الماضي.. ولكنه الهروب للأمام.