ثقافة وفن

سارقات اللغة

agnes-cecile-new-04

الدكتورة فاطمة إلياس *

بعد قرون من الصمت والتخفي خلف الأسماء المستعارة، والتمترس خلف عباءة الفحولة، برز صوت المرأة الأدبي وتمرست تجربتها الشعرية، ونضجت على نار متأججة من التقليد لجهابذة الشعر وتملقهم تارة، ومن القطيعة مع الموروث الشعري والخصام مع حراس القصيدة تارة أخرى. وبلغت هذه التوترات الجنوسية أوجها في القرن العشرين لتكتمل بنهايته فصول التغريبة الشعرية الأنثوية التي ابتدأت بالبكاء ولطم الخدود على الطريقة الخنسائية، ثم بالكبت ولبس أقنعة الوقار، فالهمس والبوح الخجول، ثم الرفض والتمرد، لتنتهي بالخروج من بيت الطاعة الذكوري بعد أن عثرت على صوتها الشعري الكامن في أقانيم أنوثتها، وخصوصية كينونتها وكنه تجربتها وبلاغة اختلافها. وها هي المرأة الشاعرة تتحول إلى بروميثيوس أنثى تسرق النار التي سرقت منها.. تلك النار المقدسة التي سرقها بروميثيوس من زيوس لإنارة العقل البشري بعد أن كانت حكرا على الآلهة كما تقول الأسطورة.. فاحتكرها الشعراء الذكور «لصوص النار» كما وصفهم الشاعر الفرنسي رامبو، ليحملوا الشعلة وحدهم ويبدعوا وحدهم.. ويضيئوا وحدهم. وها هي «باندورا» -رمز الكينونة الأنثوية- تفتح صندوقها لا لتخرج منه شرور العالم، ولكن لتتحداها وتطلق ماردها الشعري من قمقمه، وتحلق ربات الإلهام وفراشات القصيدة حول نارها.. تجوب قضاءات وجدانها هي.. بعيدا عن سماء إله الشعر «أبولو» وخارج حدود امبراطوريته الذكورية.

وها هو صندوق باندورا يتحول إلى موشور تلوح به في سماواتها.. تبدد به بياض الصمت فيتحلل إلى ألوان قوس قزح.. تجمع طيف الأنوثة.. وتصبغ جسد القصيدة. ها هي الشاعرة اليوم تكسر القلم القديم وتستبدل به ريشة تغمسها في قارورة عطرها.. تمتح من مطر اللغة لتخلق مزيجها القزحي وتصيغ مزاجها الشعري. سرقت حواء الشاعرة الشعلة لتشتعل شعرا.. وتبعث النار في أنوثة القصيدة.. تخطف الوقار من لواء الشعر وتتحرر من فرماناته الوزنية وقوالبه الذكورية.

وهكذا، برزت الكثير من الأصوات الشعرية النسائية في الشعر منذ أربعينات القرن العشرين رغم هيمنة الشعراء الرجال على مقاليد الناموس الشعري. وتكاثرت عندنا دجاجات الفرزدق، وعلا صياحهن بتأثير من المد النسوي في الغرب منذ إصدار فرجينيا وولف كتابها «غرفة خاصة بالمرء وحده» عام 1929، ومن بعدها سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر» عام 1949م، والذي سمي بإنجيل الحركة النسوية، وما تلا ذلك من نظريات النقد النسوي المناصرة لصوت الأنثى الشعري والإبداعي بصفة عامة. ولم تكن النساء المتعلمات في العالم العربي في بدايات عصر النهضة أمثال مي زيادة، وفدوى طوقان، ولميعة عباس عمارة، وغيرهن من الشاعرات الرائدات بمنأى عنها. لكن دجاجة واحدة استطاعت أن تسكت جميع ديوك القبيلة، وتنتزع بجدارة الريادة الإبداعية منهم. نجحت نازك الملائكة في تطويع اللغة.. سرقتها ونفخت فيها من أنوثتها، ولتصبح بعدها نازك مرجعية لبنات جنسها بل وللشعراء الذكور.

نقرت نازك عرف القصيدة العمودية، وكستها ريشها الغزير المكتظ حزنا وعاطفة ورقة؛ فكانت قصيدة التفعيلة التي نازعها على ريادتها فيها مواطنها الشاعر شاكر السياب الذي كان شعره هو الآخر نتاج تأثره بأنثى (!!!) هي الشاعرة إيديث سيتويل والتي قلدها حتى في صور المسيح التي كانت تستحضرها في شعرها. ويبدو ذلك جليا في التشابه الكبير بين قصيدته «أنشودة المطر» وقصيدتها «لا يزال المطر يسقط»

ومع ظهور قصيدة النثر أو «النثيرة» كما سماها شاعرنا العواد -أحد أقطاب الشعر السعودي في الحجاز، قلت حدة الصرامة الشعرية، واستسهل الكثير كتابة الشعر وقد تخفف من أرديته العروضية، وحصل ما كانت تخشاه نازك الملائكة على الشعر. تزاحمت الديكة والدجاجات -لا فرق هنا- على مائدة الشعر من بوابة النثر. لكن المهم هنا هو أن قصيدة النثر أصبحت وعاءً لكل التجارب الأنثوية والمواضيع الشعرية التي لم تكن تستطيع المرأة صبها في بنيان القصيدة العمودية أو حتى التفعيلة.

تأتي الشاعرة اليوم تسرق لغة الآباء تلك وتعيدها سيرتها الأولى، أي إلى ما تعتقده النسويات التيار الباطني الكامن تحت سطح البنية التركيبية للغة التي استولى عليها الرجل وألبسها ثوب الفحولة، وطوعها الشعراء ليصبح الشعر على مر العصور، في الغرب وفي الشرق ذكوريا بامتياز. هذه اللغة التي تملك ناصيتها الشاعرات اليوم.. بعد طول مخاض.. هي «اللغة الأم والتي تمثل مورفولوجيا جنسية أنثوية خالصة، إذْ من ضمن جمالياتها التشديد».

باختلاف هذه اللغة الأصل والتي سادت في عصور ما قبل البطريركية. وحسب الناقدة كلودين هيرمانفإن المرأة وهي تكتب إنما تستخدم الفضاء والمكان والزمان والاستعارات والكنايات المجازية بطريقة مختلفة عن الرجل. أما الناقدة النسوية الصميمة هيلين سيكسو صاحبة مصطلح «الكتابة الأنثوية» «ecriture feminine» فتؤكد أن النساء يكتبن بـ«حليب الأم» أي «الحبر الأبيض» وبلغة الحياة.. لغة الدم التي هي لغة الطبيعة. وتؤيدها في ذلك الناقدة النسوية المتعصبة لوس إريغاري بعد تفكيكها لأفلاطون وفرويد لتثبت تاريخ قمع النظام الرمزي (اللغوي) للمرأة.

من هنا شاع مصطلح «كتابة المرأة» أو «كتابة الجسد» وبدأ الكثير من الشاعرات ينظرن إلى «الجسد» كمصدر أساسي للألم، وليس للمتعة. لذا فإن قصائد كتلك التي تدور حول الإجهاض، واستئصال الثدي، والاغتصاب، باتت جزءاً لا يتجزأ من الذخيرة الشعرية النسائية. وبلغ الشعر النسوي أوجه مع ظهور ما يسمى بالنقد الجنثوي gynocriticism، الذي أسست له إلين شوالتر؛ وهو النقد الذي يهتم بتحليل واستبطان الخصائص الأنثوية للكتابة النسائية. لذا فقد أيقظ هذا النقد الوعي الكتابي لدى الشاعرات من خلال تبني الناقدات النسويات أعمالهن، وإبراز الصورة الجديدة للمرأة والتي خلقتها نصوصهن. وظهرت هذه التأثيرات أول ما ظهرت في الستينات من القرن العشرين على يد شاعرات أمثال سيلفيا بلاث، أدريان ريتش، موريل روكيزر، ومارجريت أتوود، وآن سيكستون. ولم يظهر لدينا بصورة جلية إلا في الثمانينات.

* ناقدة سعودية