علي ذرب.. كلَّ يومٍ يعبرُ هذا الألمَ
السبت / 17 / جمادى الأولى / 1439 هـ السبت 03 فبراير 2018 02:37
عبدالله السفر *
منذ العام 2003 والمشهد العراقي يفورُ بالدم ويجلّله الرماد. انهارَ نظامٌ ديكتاتوري، ولم يكن الانهيار يخصّه وحده كنظامٍ رزح طويلاً على صدر الوطن ووجب رحيله..
غير أن الانهيار والرحيل لم يكن لرجلٍ ولا لنظام، إنما لدولة أصبحت مباحة ومتاحة للاحتلال الأمريكي ولجحافل الإرهاب تشقّقت عنها جهاتُ الأرض كلّها؛ فأضحى العراق مع العام 2006 ساحةً تصطخب بالعنف في أشدّ صوره من التطرف والدمويّة، وبأحداث الدمار في أعتى أشكاله بشاعةً.
هذا المشهد القيامي كلّما خلتَ أنّ صفحته مضت؛ جاءت انبعاثات الحرائق والأشلاء ورعود التفجير تنكأ الخاصرة. يطفو الموت بغيمته السوداء.. لا ينشر أجساداً بوصفها مجرّد أرقامٍ إحصائية تذهب إلى النسيان عمّا قليل.. هي قصص ومآسٍ تنحفر في الجلد وفي الذاكرة، حاول الإبداع العراقي ما وسعته المحاولة الدنوّ من ضفاف الموت والفجيعة حتى الالتصاق مع الأجساد وأجزائها.. مع الأثر النفسي والوضع الاجتماعي القاتمين اللذين بات عليهما الإفراد والمجتمع في العراق.. آثار غائرة يسعى الإبداع إلى تظهيرها في الصورة نفسها من الخشونةِ والبشاعة.
هذا ما حدث. هذا ما يحدث. وينبغي لكلّ عين أن تطالعه ولا تعرض عنه، ولا ثمّة مرشّحات يمكن أن تخفّف عبء الصورة أو تفلح في إزاحة الرماد الثقيل عن العين.
ومن هذا الصنيع الإبداعي كتابُ "كي لا تظهر أصابعي من حذائي المفتوح" (منشورات ميليشيا الثقافة، بغداد - 2018) للشاعر الشاب علي ذرب "مواليد: 1988".
تنطلق الذات الإبداعية، في الكتاب، من القاع الاجتماعي الذي جرّفته العهود السياسية تجريفاً؛ عهداً بعد عهد وجيلاً إثرَ جيل. تلك الطبقة المسحوقة وكلّ ما حولها يتغيّر إلا هي؛ تزداد تعريةً وانضغاطاً. لا مدى لما تمرّ به ولا قاع محدّد ترتطم به؛ هاوية نازلة تدور فيها أبداً. هي أوّل من يقع في فخاخ التردّي الاقتصادي والضحية البارزة لعاصفة الاحتلال والإرهاب.
مجالٌ من الضنك والأسى ومن الرعب، يعرف علي ذرب تقصّيه في وجوهه الكثيرة المحفوفة بجدارين هائلين من الفقر والموت يتبادلان الجسد الصبي في لعبة الجوع والعري والرماد..
الجسد الفتِيّ المعروض في الخصاصة مضروب بمفاعيل الحصار الجائر والحرب؛ ومنخوب بمتفجّرة الإرهاب. يعرى ويعرى في الحقيقة قبل المجاز. لا حذاء يلمّ قدمين ولا قميص يستر جذعه. أصبح الحلم أن يكون له ذلك الأمل الصغير في قميصٍ مسروق من ابن الخالة الشهيد يصدم به "عيونَ الأصدقاء لمرة واحدة"؛ ترتاح معه الأعضاء ويرقّ النوم: (أن أسحبَ منه جسدي في الليل/ كأنني أسحبه من حلم/ وأنام بين أُختَيَّ/ وعلى وجهي ترقد ابتسامة)..
الجسد المُفرَغ من طفولةٍ سويّة، يعيش "الحياة القصيرة" خارج المتعارف عليه من استجاباتٍ مرتبطة بالسن اللاهية مع "الألعاب"، هنا الألعاب ليست كما هي عليه تحمل اسماً أخرى أدنى إلى الموت: (لم يكن لعبا/ عندما كنت أعيش حياةَ/ الأبطال في الأفلام السينمائية/ لم أختر غير من عانوا/ غير من خسروا كل شيء/ ومن كان الموت قريبا منهم)..
الجسد المهدور حتى لا يبقى منه شيء لـ"الإنسان": (أنبحُ وحيداً/ أنبحُ من أجلي/ ومن أجل الإنسان الذي كنتُهُ).
لا شيء يجسّد محاولة تمزيق العراق وتحطيمه مثل الجسد العراقي نفسه. في مهب العنف، مواكبُ القتل والجنائز تترا. ثلاجة الموتى تضخّمت إلى ما يقارب حجم وطن. جثث يجري التعرف عليها وأخرى تظلّ غفلاً. أنصاف جثث وأرباع. مقابر جماعية وبقايا أجساد بلا دليل إلى أسماء أو هويّات. أجساد حيّة لكنها مثلومة ومنقوصة.
في الموت والنقص، والتشويه.. يمرّ قلم علي ذرب يرسم المشهد تلو المشهد وهو تحت طائلة الألم والعذاب النفسي؛ من العائلة إلى الأصدقاء إلى الأقارب إلى الدائرة الصغيرة التي تأخذ في الاتساع ملتهَمةً في شدق الموت أو تخريب الجسد.
نصوص بقدر ما ترجّ القلب وتهزّ ركائز الجسد بقدر ما تقترب جماليا من الحالة العراقية والتعبير عنها بصدقٍ جارح وبأداةٍ تعبيرية مواتية ترددت في أكثر من نص (نصوص: أمي ص 10، السيد رماد ص 12، أنا أنبح كثيراً ص 17، حياة متخيلة لبطل واقعي ص 28، سُلَّم ص 54، يرى أخته بقدميه ص 62، لوحة ص 69، عدنا وعلى ثيابنا بقعةٌ منه، غارقا في الموت إلى أذنيه ص 77) حيث مطحنة الموت تجوب البلاد في كل لحظة.. الموت الذي أصبح ملصقاً لا يسير أي مشهد إلا ممهوراً به. لا تمرق حركة إلا عبر ألمه وسواده: (كل يوم يعبر هذا الألم/ لممارسة عمل ميّت/ للقاء أصدقاء يموتون كثيراً/ للحديث بسخرية عن يومٍ آخر سيموت/ وكذلك لينام/ ويصحو مرة أخرى/ من أجل عالم ميّت).
غير أن الانهيار والرحيل لم يكن لرجلٍ ولا لنظام، إنما لدولة أصبحت مباحة ومتاحة للاحتلال الأمريكي ولجحافل الإرهاب تشقّقت عنها جهاتُ الأرض كلّها؛ فأضحى العراق مع العام 2006 ساحةً تصطخب بالعنف في أشدّ صوره من التطرف والدمويّة، وبأحداث الدمار في أعتى أشكاله بشاعةً.
هذا المشهد القيامي كلّما خلتَ أنّ صفحته مضت؛ جاءت انبعاثات الحرائق والأشلاء ورعود التفجير تنكأ الخاصرة. يطفو الموت بغيمته السوداء.. لا ينشر أجساداً بوصفها مجرّد أرقامٍ إحصائية تذهب إلى النسيان عمّا قليل.. هي قصص ومآسٍ تنحفر في الجلد وفي الذاكرة، حاول الإبداع العراقي ما وسعته المحاولة الدنوّ من ضفاف الموت والفجيعة حتى الالتصاق مع الأجساد وأجزائها.. مع الأثر النفسي والوضع الاجتماعي القاتمين اللذين بات عليهما الإفراد والمجتمع في العراق.. آثار غائرة يسعى الإبداع إلى تظهيرها في الصورة نفسها من الخشونةِ والبشاعة.
هذا ما حدث. هذا ما يحدث. وينبغي لكلّ عين أن تطالعه ولا تعرض عنه، ولا ثمّة مرشّحات يمكن أن تخفّف عبء الصورة أو تفلح في إزاحة الرماد الثقيل عن العين.
ومن هذا الصنيع الإبداعي كتابُ "كي لا تظهر أصابعي من حذائي المفتوح" (منشورات ميليشيا الثقافة، بغداد - 2018) للشاعر الشاب علي ذرب "مواليد: 1988".
تنطلق الذات الإبداعية، في الكتاب، من القاع الاجتماعي الذي جرّفته العهود السياسية تجريفاً؛ عهداً بعد عهد وجيلاً إثرَ جيل. تلك الطبقة المسحوقة وكلّ ما حولها يتغيّر إلا هي؛ تزداد تعريةً وانضغاطاً. لا مدى لما تمرّ به ولا قاع محدّد ترتطم به؛ هاوية نازلة تدور فيها أبداً. هي أوّل من يقع في فخاخ التردّي الاقتصادي والضحية البارزة لعاصفة الاحتلال والإرهاب.
مجالٌ من الضنك والأسى ومن الرعب، يعرف علي ذرب تقصّيه في وجوهه الكثيرة المحفوفة بجدارين هائلين من الفقر والموت يتبادلان الجسد الصبي في لعبة الجوع والعري والرماد..
الجسد الفتِيّ المعروض في الخصاصة مضروب بمفاعيل الحصار الجائر والحرب؛ ومنخوب بمتفجّرة الإرهاب. يعرى ويعرى في الحقيقة قبل المجاز. لا حذاء يلمّ قدمين ولا قميص يستر جذعه. أصبح الحلم أن يكون له ذلك الأمل الصغير في قميصٍ مسروق من ابن الخالة الشهيد يصدم به "عيونَ الأصدقاء لمرة واحدة"؛ ترتاح معه الأعضاء ويرقّ النوم: (أن أسحبَ منه جسدي في الليل/ كأنني أسحبه من حلم/ وأنام بين أُختَيَّ/ وعلى وجهي ترقد ابتسامة)..
الجسد المُفرَغ من طفولةٍ سويّة، يعيش "الحياة القصيرة" خارج المتعارف عليه من استجاباتٍ مرتبطة بالسن اللاهية مع "الألعاب"، هنا الألعاب ليست كما هي عليه تحمل اسماً أخرى أدنى إلى الموت: (لم يكن لعبا/ عندما كنت أعيش حياةَ/ الأبطال في الأفلام السينمائية/ لم أختر غير من عانوا/ غير من خسروا كل شيء/ ومن كان الموت قريبا منهم)..
الجسد المهدور حتى لا يبقى منه شيء لـ"الإنسان": (أنبحُ وحيداً/ أنبحُ من أجلي/ ومن أجل الإنسان الذي كنتُهُ).
لا شيء يجسّد محاولة تمزيق العراق وتحطيمه مثل الجسد العراقي نفسه. في مهب العنف، مواكبُ القتل والجنائز تترا. ثلاجة الموتى تضخّمت إلى ما يقارب حجم وطن. جثث يجري التعرف عليها وأخرى تظلّ غفلاً. أنصاف جثث وأرباع. مقابر جماعية وبقايا أجساد بلا دليل إلى أسماء أو هويّات. أجساد حيّة لكنها مثلومة ومنقوصة.
في الموت والنقص، والتشويه.. يمرّ قلم علي ذرب يرسم المشهد تلو المشهد وهو تحت طائلة الألم والعذاب النفسي؛ من العائلة إلى الأصدقاء إلى الأقارب إلى الدائرة الصغيرة التي تأخذ في الاتساع ملتهَمةً في شدق الموت أو تخريب الجسد.
نصوص بقدر ما ترجّ القلب وتهزّ ركائز الجسد بقدر ما تقترب جماليا من الحالة العراقية والتعبير عنها بصدقٍ جارح وبأداةٍ تعبيرية مواتية ترددت في أكثر من نص (نصوص: أمي ص 10، السيد رماد ص 12، أنا أنبح كثيراً ص 17، حياة متخيلة لبطل واقعي ص 28، سُلَّم ص 54، يرى أخته بقدميه ص 62، لوحة ص 69، عدنا وعلى ثيابنا بقعةٌ منه، غارقا في الموت إلى أذنيه ص 77) حيث مطحنة الموت تجوب البلاد في كل لحظة.. الموت الذي أصبح ملصقاً لا يسير أي مشهد إلا ممهوراً به. لا تمرق حركة إلا عبر ألمه وسواده: (كل يوم يعبر هذا الألم/ لممارسة عمل ميّت/ للقاء أصدقاء يموتون كثيراً/ للحديث بسخرية عن يومٍ آخر سيموت/ وكذلك لينام/ ويصحو مرة أخرى/ من أجل عالم ميّت).