أزمـة المكاتبات بين «أدميرال» العامري و«كولونيل» ماركيز
من ديك كولومبيا إلى قمري جازان
السبت / 24 / جمادى الأولى / 1439 هـ السبت 10 فبراير 2018 03:03
قراءة: علي بن محمد الرباعي Al_ARobai@
للأعمال الإبداعية سرّها في تكوين علاقة بالقارئ ومعه، فالكتابة للمبدع خلاص وتطهر وأحياناً رمي أوجاع وتخفف من أعباء، والمعذبون في الأرض أكثر الناس انجذاباً إلى المناجاة بصوت عال، والكتابة السردية حوار مكشوف مع الذات، إلا أن هناك فرقا بين كائن مدني عمل بالصحافة ويكتب عن عالم صارم كفضاء الجيش أو العسكر، وبين كاتب هو عسكري قضى حياته الصارمة في ميادين وشواطئ الجيش البحري ويكتب عن عوالم حنينه المدنية.
من القراءات ما يضعفنا، ومنها ما يقوينا، ومنها ما يصيبنا في مقتل، ومنها ما نعيد به اكتشاف ذواتنا، وأخطرها ما يدفعنا لمحاكاته، وإن في داخل اللاوعي.
من البدهي أن تختلف آليات القراءة لدى كل منا، خصوصاً القارئ الكاتب، ومن الأعمال التي أسرت ألبابنا للكاتب الكولومبي (ماركيز) ليس لدى الكولونيل من يكاتبه. هذا العمل نشر عام 1958 في مجلة، وصدر كتاباً في 1961، وكان في الأصل مادة لرواية «ساعة نحس» التي صدرت عام 1962، ولكن الكاتب عزم فيما بعد على نشر النص في كتاب مستقل، وتحكي قصة الكولونيل المحال للتقاعد، الذي توقع أن تصرف له حقوقه، وتضمن له الحكومة راتباً تقاعدياً يؤمن له حياة كريمة، إلا أن المحارب المتقاعد، والمشغول بانتظار راتبه التقاعدي، خصص موعداً أسبوعياً للذهاب للميناء لانتظار وصول مركب البريد كل جمعة، إلا أنه لم تصله أي رسالة طيلة 15 عاماً.
عنوان الرواية جاء على لسان موظف البريد الذي زهق من رؤية المحارب كل أسبوع فقال ساخراً «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» وبما أنه ليس للكولونيل تركة أو أملاك، لجأ إلى توظيف (ديك) ابنه المغدور (أوجستن) في المصارعة،
وكان للديك محور آخر في الرواية، حيث كان يعول عليه الكولونيل كثيراً بأن ينتصر في بطولة مصارعة الديوك الخاصة بقريته ليتمّكن من بيعه بثمنٍ يكفي لأن يصرف على نفسه وزوجته لثلاث سنين قادمة بدلاً من انتظار معاشه من حكومته، هذا الديك الذي تغذّى من مُؤن العائلة واحتياجاتها في سبيل بقائه حياً، وكلّف هذا الأمر الكولونيل وزوجته آلام الجوع طِوال عدّة ليال في سبيل بقاء هذا الديك حيّاً.
ويقول ماركيز في حوار معه إن العمل يمثل «نوعا من الأدب الهادف الذي يقدم صورة متميزة ومحسوبة بعض الشيء للواقع، ويعده من الكتب التي تنتهي بالصفحة الأخيرة» ولعل من أسباب الاحتفاء بالعمل في طول وعرض أمريكا اللاتينية بعدها عن الأسطرة وتركيزها على الواقع.
الرواية إنسانية جداً، وهي من الروايات المثيرة للسخط على الظلم الاجتماعي، والاستبداد، والقمع، والعبث بالمواطن باسم المصالح العليا التي تبنتها مرحلة (العسكرة) ولم تكن أحداث الرواية كثيرة، ولا عدد شخصياتها المحدود بالقرية وسكانها البسطاء، ونجح (ماركيز) في إذكاء روح حنين القارئ إلى الحياة القروية البسيطة والقائمة على العمل والإنتاج لسد رمق يومي.
ولعل القرية كانت مفتاح فضاءات (ليس للأدميرال من يكاتبه) للروائي عمرو العامري علماً بأننا جميعاً توقعنا أن يسبر لنا السارد الجنوبي والحكاء الماهر رحلاته الطويلة في البحر، ورواية الأهوال، والمتاعب والمصاعب في المحيطات، والمدن والبلدان التي مرّ بها، أو تجول فيها.
لا ندري هل هرب العامري في تجربته الأولى التي أعقبها بتذاكر العودة، ومزاد على مقام الذكرى، من التورط السردي ليحيل عمله إلى توثيقي وكأنه عالم أنثروبولوجي، لم تكن المسافات بعيدة بين ديك (ماركيز)، وبين قمري جازان.
تنهض السيرة الذاتية كما يرى فيصل دراج (على كشف ذاتي تختلف مقاديره بين وعي مقيّد وبين بوح مفضوح) وكلا العملين يتقاطعان في حميمية العلاقة بين المكان وبين الأبطال، وإن كان الأدميرال واقعياً ومحسوساً ويختلف عن الكولونيل المصطنع، وإن بسط كل منهما شجنه وبوحه إلا أن العامري طرح جانباً من حياته الخاصة، ولم ينهمك شأن ماركيز في معاشرة أبطاله، ما دفع ماركيز للبكاء في ختام العمل شفقةً على البطل، وخشية عليه من عوادي الدهر بعد أن كان محل حفاوة كاتبه، بينما يظل هاجس من يقرأ تجربة الأدميرال ما سرّ هذا الشجن المخبوء، وما علاقة الدمع بالبحار، وهل من جناية يرتكبها الكاتب عندما يقحم أبطاله في معاناة ولا ينجح في إخراجهم منها؟ ويظل السؤال الكبير ما حجم معاناة الأدميرال في نهاية العمل؟ ألم يحلم بأن يستمر منتظراً لفترات أطول؟ ألم تتحول مناورة الحياة والموت إلى سيناريو شيّق يمكن أخذه منهج حياة واقعية لطرد السأم والممل وكسر الرتابة، وربما لم يقع العامري في معاناة ماركيز الذي عاشها ورواها، بينما كتبها العامري ليتخفف منها.
من القراءات ما يضعفنا، ومنها ما يقوينا، ومنها ما يصيبنا في مقتل، ومنها ما نعيد به اكتشاف ذواتنا، وأخطرها ما يدفعنا لمحاكاته، وإن في داخل اللاوعي.
من البدهي أن تختلف آليات القراءة لدى كل منا، خصوصاً القارئ الكاتب، ومن الأعمال التي أسرت ألبابنا للكاتب الكولومبي (ماركيز) ليس لدى الكولونيل من يكاتبه. هذا العمل نشر عام 1958 في مجلة، وصدر كتاباً في 1961، وكان في الأصل مادة لرواية «ساعة نحس» التي صدرت عام 1962، ولكن الكاتب عزم فيما بعد على نشر النص في كتاب مستقل، وتحكي قصة الكولونيل المحال للتقاعد، الذي توقع أن تصرف له حقوقه، وتضمن له الحكومة راتباً تقاعدياً يؤمن له حياة كريمة، إلا أن المحارب المتقاعد، والمشغول بانتظار راتبه التقاعدي، خصص موعداً أسبوعياً للذهاب للميناء لانتظار وصول مركب البريد كل جمعة، إلا أنه لم تصله أي رسالة طيلة 15 عاماً.
عنوان الرواية جاء على لسان موظف البريد الذي زهق من رؤية المحارب كل أسبوع فقال ساخراً «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» وبما أنه ليس للكولونيل تركة أو أملاك، لجأ إلى توظيف (ديك) ابنه المغدور (أوجستن) في المصارعة،
وكان للديك محور آخر في الرواية، حيث كان يعول عليه الكولونيل كثيراً بأن ينتصر في بطولة مصارعة الديوك الخاصة بقريته ليتمّكن من بيعه بثمنٍ يكفي لأن يصرف على نفسه وزوجته لثلاث سنين قادمة بدلاً من انتظار معاشه من حكومته، هذا الديك الذي تغذّى من مُؤن العائلة واحتياجاتها في سبيل بقائه حياً، وكلّف هذا الأمر الكولونيل وزوجته آلام الجوع طِوال عدّة ليال في سبيل بقاء هذا الديك حيّاً.
ويقول ماركيز في حوار معه إن العمل يمثل «نوعا من الأدب الهادف الذي يقدم صورة متميزة ومحسوبة بعض الشيء للواقع، ويعده من الكتب التي تنتهي بالصفحة الأخيرة» ولعل من أسباب الاحتفاء بالعمل في طول وعرض أمريكا اللاتينية بعدها عن الأسطرة وتركيزها على الواقع.
الرواية إنسانية جداً، وهي من الروايات المثيرة للسخط على الظلم الاجتماعي، والاستبداد، والقمع، والعبث بالمواطن باسم المصالح العليا التي تبنتها مرحلة (العسكرة) ولم تكن أحداث الرواية كثيرة، ولا عدد شخصياتها المحدود بالقرية وسكانها البسطاء، ونجح (ماركيز) في إذكاء روح حنين القارئ إلى الحياة القروية البسيطة والقائمة على العمل والإنتاج لسد رمق يومي.
ولعل القرية كانت مفتاح فضاءات (ليس للأدميرال من يكاتبه) للروائي عمرو العامري علماً بأننا جميعاً توقعنا أن يسبر لنا السارد الجنوبي والحكاء الماهر رحلاته الطويلة في البحر، ورواية الأهوال، والمتاعب والمصاعب في المحيطات، والمدن والبلدان التي مرّ بها، أو تجول فيها.
لا ندري هل هرب العامري في تجربته الأولى التي أعقبها بتذاكر العودة، ومزاد على مقام الذكرى، من التورط السردي ليحيل عمله إلى توثيقي وكأنه عالم أنثروبولوجي، لم تكن المسافات بعيدة بين ديك (ماركيز)، وبين قمري جازان.
تنهض السيرة الذاتية كما يرى فيصل دراج (على كشف ذاتي تختلف مقاديره بين وعي مقيّد وبين بوح مفضوح) وكلا العملين يتقاطعان في حميمية العلاقة بين المكان وبين الأبطال، وإن كان الأدميرال واقعياً ومحسوساً ويختلف عن الكولونيل المصطنع، وإن بسط كل منهما شجنه وبوحه إلا أن العامري طرح جانباً من حياته الخاصة، ولم ينهمك شأن ماركيز في معاشرة أبطاله، ما دفع ماركيز للبكاء في ختام العمل شفقةً على البطل، وخشية عليه من عوادي الدهر بعد أن كان محل حفاوة كاتبه، بينما يظل هاجس من يقرأ تجربة الأدميرال ما سرّ هذا الشجن المخبوء، وما علاقة الدمع بالبحار، وهل من جناية يرتكبها الكاتب عندما يقحم أبطاله في معاناة ولا ينجح في إخراجهم منها؟ ويظل السؤال الكبير ما حجم معاناة الأدميرال في نهاية العمل؟ ألم يحلم بأن يستمر منتظراً لفترات أطول؟ ألم تتحول مناورة الحياة والموت إلى سيناريو شيّق يمكن أخذه منهج حياة واقعية لطرد السأم والممل وكسر الرتابة، وربما لم يقع العامري في معاناة ماركيز الذي عاشها ورواها، بينما كتبها العامري ليتخفف منها.