ثقافة وفن

رمزية «بأجنحتها تدق أجراس النافذة» بين السريالية والصوفية

IMG_3988

قراءة: علي بن محمد الرباعيokaz_online@

يذهب نقاد شعر الحداثة، خصوصاً من تيار ما عُرف بالأدب الإسلامي، إلى أن كتابة الشعر الحديث مكيدة مبطنة للإسلام والقيم والأخلاق، وهذا هو شأن العداء الأيديولوجي في تشويه منافسيه وإن قام التشويه على الكذب والافتراء.

من يقرأ جلال الدين الرومي ويقرأ مهرة الكتابة للنص الحديث سيكتشف أن قصيدة النثر سابقة إبداعية موغلة في القيدومة، وتجلت تحديداً في الشعر الصوفي الأقرب إلى ترنيمات وجدانية ومقاطع مناجاة مع الكون والخالق في رحلة تبدأ بالتخلي ثم ترتقي للتحلي وتصل إلى الكشف والتجلي.

ليست التجربة الصوفية مجرد حالة وجدانية وروحية بل هي تجربة فنيّة أيضاً تتقاطع مع ما عرف لاحقاً بالسريالية في كون كل منهما يعتمد على حدس وقدرات خارقة خاصة في التعامل مع المتخيل لنحت مصطلحات وكلام ليس كالكلام إلا في شكله، بينما مضامينه تشرع أبواب التأويل على فضاء سرمدي لا حدود لمداه.

وكما يعتمد الصوفي الفن في هيئته الخاصة، ونظامه الصارم في الغذاء والنوم، ورمزيته ومجازه في الصور التعبيرية التي ينعتها البعض بهرطقات المجاذيب، حد ذهاب البعض إلى أن الصوفي الخالص مجنون بحكم اللباس الرث وترديده عبارات غير مفهومة للعوام ولا حتى أنصاف المثقفين، كذلك يغرق السريالي في حالة تخيل فنية يعبّر عنها برمزية منهكة أحياناً، وكذلك الفنان الشاعر أو الشاعر الفنان.

في مجموعة الشاعر علي الدميني (بأجنحتها تدق أجراس النافذة) أول ما يستوقف مقتني المجموعة صورة الغلاف المعبرة عن مدرسة فنية تنوس بين التجريدية والسريالية ما يحفّز على تأويل الدلالات واستنطاق العمل بأكثر من فهم، ليكشف في الصفحات التالية أن رسمة الغلاف من إبداع سوسن علي الدميني، ويأتي إهداء العمل من أبيها لها لاحقاً ليعزز الإيحاء الأولي للمجموعة من عنوانها الذي هو عتبة أولى إلى لوحة الغلاف إلى الإهداء.

في البهو الأول للمجموعة (بهو الأصدقاء) يبدأ الكشف بالنص الصوفي السريالي (هؤلاء الذين يربّون قطعانهم في حشائش ذاكرتي، هؤلاء الذين يقيمون تحت لساني موائدهم كالهواء الأخير). يتحول النص إلى لوحة أو مشهد مرئي فانتازي الروح فيه واحة، والأصدقاء رعاة، والمفردات قطعان بيضاء، وانشغالات الذهن وتعبئته حشائش خضراء، والحب مائدة ورافد للسان ليمكنه القول والبوح، ورائحة الأصدقاء هواء أخير، هكذا عشتُ الحالة الشعرية.

ومثل ما الصوفي يشعرن الكلام ويرمزه حد تذويب معشوقه في كأس، وإعلاء محبوبته لتكون سماء أو فاكهة أو وردة، هكذا يذهب بنا علي الدميني في (فوضى الكلام): ليكن للحروف القتيلة في حبرها قبة من عزاء.. وليكن لحبيبي عليّ ثلاثون حُجّةٌ: أولاً: أن أُصلّي وأبكي عليه، ثانياً: أن أُغني إذا جاع بين يديه، ثالثاً: أن أَعُبّ هواء المدينة عني وعنه لأتلو صباح الحدائق من شفتيه. الرؤية السابقة صوفية بمعنى الكلمة فالمعاني تتماهى وتتناهى، تتباين وتتلاقى، تأتلف وتختلف، تنمو اللغة تحت ظل الكلام وتتفرع الدلالات، وكأنها تقول كل الأشياء حتى يتوهم القارئ أنه قبض على المعنى ولكن هيهات، هنا تجليات، وهناك معنى سريالي غامض لعله المستحيل، أو اللاممكن، أو اللامفكر فيه، ولتتعدد التأويلات بتعدد مستوى وعي القارئ وعشقه للمجاز.

ويأخذنا الدميني لمظان الدهشة «هل تأملت نوم الشجر عارياً في المياه، متخفياً بورقة التوت حتى يحفّزنا لاكتناه رؤاه، هل تتبعت صوت الغناء النابع من حناجر الحفاة العصاة»، وبما أن للصوفي معناه الباطني، وإشاراته الرمزية، ها هو الدميني يعزز ما بدأنا به «يا حبيبي الذي لاح لي، نجمةً في مقام الولي، هل أشيرُ إلى ما أرى، أم إلى ظلك المقبلِ».

وكما يعتني السريالي بالفن الخالص خارج المألوف، تغدو سحابة الدميني منديلاً يلم به الحنين للبَرَد، والضباب، وصوت نساء القرية وهن يغرّبن على أغنام الفتيان المنشغلين بالحب في نطاق فيء سدرة. ليست الحداثة تفعيلاً وقصيدة نثر إلا مرحلة من مراحل تجلي الصوفي، ولا يبلغها إلا ذو حظ عظيم، وليست كما يقول البعض أنها هروب من النص العمودي، وها هو الدميني يؤكد في المجموعة أن مهارته في الغناء تفوق تجارب مجايليه ومريديه «أصُبُّ وجه البلاد الصحو فاتحةً، فيرقصُ الحجرُ الصافي يداً بيدِ».

* من أسرة تحرير «عكاظ»