مفاوضو الدول النامية.. هل يستمرُّ غيابهم دولياً ؟
الأربعاء / 26 / جمادى الآخرة / 1439 هـ الأربعاء 14 مارس 2018 01:24
محمد سالم سرور الصبان
يعيش النظام العالمي فترة من الارتباك لم يشهدها منذ فترة طويلة، فما كنا نظن أنها قواعد صارمة تحكم أداء النظام العالمي في مختلف المجالات، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، - وتم التفاوض عليها لعقود من الزمن - نجد أنها تنهار فجأة مع تحدي دول صناعية كبرى لها؛ بحجة أنها لم تكن عادلة وقد ثبت ذلك عبر تطبيقها، ولذا وجب إعادة التفاوض حولها. هذه المطالبات جاءت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وتشاركها فيها – على استحياء - الدول النامية، وخاصة الفقيرة منها؛ فقد أضحت فريسة لهذه الاتفاقيات الدولية.
وبعد إلغاء أمريكا لاتفاقيات تجارية، منها «النافثا»، واتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي وغيرهما، وإصرارها على أن منظمة التجارة العالمية ما هي إلا «كارثة حقيقية» عليها، بادرت إلى الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ؛ فوجهت بذلك ضربة للاتحاد الأوروبي - على وجه الخصوص - الذي خطط عبر «كذبة المناخ» إلى إحداث تفوق أوروبي على الولايات المتحدة وغيرها بحجة حماية المناخ من التغيرات الضارة به، وهو الذي يتغير طبيعيا منذ ملايين السنين ولا علاقة للنشاط الإنساني بحدوثه بأي حال من الأحوال.
بعد كل هذه الأحداث نجد أن العالم قد دخل مرحلة مصيرية لا أحد يعرف إلى أين ستتجه، إلى مزيد من الحمائية التجارية العالمية وتقوقع الدول على نفسها، أم إلى إعادة التفاوض على مختلف الاتفاقيات الدولية، فيكون المخرج من هذا المأزق الذي يعيشه العالم. ومع التوقع الأكبر بتبني الاحتمال الثاني - وهو إعادة التفاوض على بعض الاتفاقيات الدولية حفاظا على ما تحقق من عولمة - ظن مناصروها لفترة أنهم على وشك تأسيس ما أسموه بـ«الحكومة العالمية» لتحكم العالم من خلال القرارات الدولية المتخذة التي استغرق التفاوض عليها سنوات طويلة حتى كادت تكون شبه مكتملة.
وإعادة التفاوض حول مختلف الاتفاقيات – إن تمت – ستتيح للدول النامية فرصة لتحقيق توازن أكبر في هذه الاتفاقيات الظالمة بالنسبة لها. ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا دائما هو: هل لدى الدول النامية القدرة التفاوضية لانتزاع التوازن المطلوب الذي يؤدي إلى المحافظة على مصالحها الجوهرية التي سبق التفريط فيها؟ والإجابة هي: إن دخولها جولات إعادة التفاوض بنفس مستوى الضعف الذي كان عليه مفاوضوها لن يحقق أية نتائج إيجابية، ولو تمت إعادة التفاوض عشرات المرات.
ومع الأسف، معظم الدول النامية ليس بين مفاوضيها المفاوض الماهر الصبور الواعي الملم بحيثيات ما يفاوضه؛ ولذلك تجده يرضخ لأقل الضغوطات من الدول الأخرى. ودائما ما نجده مفاوضا ناعما هادئا يسير مع التيار، ومصالح وطنه التي جاء من أجل الدفاع عنها ليست أولوية عنده؛ ليس لنقصان حبه لوطنه، لكن لأن الصمود في الدفاع عن تلك المصالح، يعرضه لانتقاد الآخرين يهمه مظهره وطريقة حديثه وتكوين صداقات تنفعه شخصيا بعد انتهاء المفاوضات؛ ضامنا أن يستمر انتدابه إلى هذه المفاوضات أو تلك دون ضغوط على حكومته باستبداله، وهو الأمر الذي يحدث باستمرار.
أما في ما يخص مساءلته، بعد عودته الى وطنه، عما حققه في سبيل الدفاع عن مصالح الوطن، فهو يعرف أنه لن تكون هنالك مساءلة ذات شأن يذكر، ويمكنه بتبريرات يسيرة - ومعظمها يصب في خانة «ليس بالإمكان أحسن مما كان» - أن يفلت من نتائج أية مساءلة، إن وجدت.
وكما هو معلوم، فمفاوض الدولة النامية هو الأكثر عرضة لتلقي الرشاوى بمختلف أنواعها، وقد تم اكتشاف العديد منها، وبالذات في المفاوضات التي تجري في الأمم المتحدة بنيويورك، حيث تم إيداع العديد من المفاوضين - وبينهم مسؤولون كبار – السجن هناك لتلقيهم رشاوى ضخمة للدفاع عن مواقف لا تمت لمصالح بلدانهم بصلة. بل قد رأيت بأم عيني كيف أن مفاوض إحدى الدول النامية قد استدعاه مفاوض دولة أوروبية ليعطيه ورقة طلب منه قراءتها، وبعد أن فعل ما طلب منه - باعتبار ذلك موقفا لدولته -، قام على الفور وأعاد الورقة إلى وفد تلك الدولة الأوروبية، أمام الجميع. وهنالك العديد من الأمثلة الأخرى التي نخجل من ذكرها، وهي لا تصنف ضمن ضعف المهارات التفاوضية فقط، بل نتيجة للعمالة الواضحة لدول أخرى أيضا.
هكذا إذن، العديد من مفاوضي الدول النامية منشغل بما يتناسب وأجندته الخاصة، إضافة إلى افتقاده القدرات التي تجعله قادرا على مجاراة المفاوضين الآخرين. ونادرا ما تجد مفاوضي الدول النامية قد استمروا في البقاء في جلسات المفاوضات التي تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، بل حتى إن استمروا، فأغلبهم يتخذ من طاولات الاجتماعات سريرا يتمدد عليه وبأشكال يعطف عليها الجميع.
وختاما، المرحلة القادمة من التفاوض وإعادة التفاوض الثنائي والدولي، تتطلب من حكومات الدول النامية أن تصحو من غفوتها وأن تؤهل كفاءاتها المخلصة وتحاسبها، بعد تبني مواقف واضحة تجاه مختلف الموضوعات محل التفاوض، كما تتطلب أيضا التنسيق مع دول مجموعة السبعة والسبعين لتدعيم موقفها، وإلا فستضطر إلى قبول أن يكون دور مفاوضها مقتصرا على «حمل الوثائق» ذهابا إلى المفاوضات وعودة منها؛ فالوثائق لا تعني أنه قد «أتى برأس كليب». كل ذلك ينبغي أن تحرص الدول النامية عليه مع إدراك كامل لعدم إمكانها إعادة التفاوض مرة تلو الأخرى حتى تستدرك مصالحها؛ فما فات مات، وما مات لا يمكن إحياؤه.
sabbanms@
وبعد إلغاء أمريكا لاتفاقيات تجارية، منها «النافثا»، واتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي وغيرهما، وإصرارها على أن منظمة التجارة العالمية ما هي إلا «كارثة حقيقية» عليها، بادرت إلى الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ؛ فوجهت بذلك ضربة للاتحاد الأوروبي - على وجه الخصوص - الذي خطط عبر «كذبة المناخ» إلى إحداث تفوق أوروبي على الولايات المتحدة وغيرها بحجة حماية المناخ من التغيرات الضارة به، وهو الذي يتغير طبيعيا منذ ملايين السنين ولا علاقة للنشاط الإنساني بحدوثه بأي حال من الأحوال.
بعد كل هذه الأحداث نجد أن العالم قد دخل مرحلة مصيرية لا أحد يعرف إلى أين ستتجه، إلى مزيد من الحمائية التجارية العالمية وتقوقع الدول على نفسها، أم إلى إعادة التفاوض على مختلف الاتفاقيات الدولية، فيكون المخرج من هذا المأزق الذي يعيشه العالم. ومع التوقع الأكبر بتبني الاحتمال الثاني - وهو إعادة التفاوض على بعض الاتفاقيات الدولية حفاظا على ما تحقق من عولمة - ظن مناصروها لفترة أنهم على وشك تأسيس ما أسموه بـ«الحكومة العالمية» لتحكم العالم من خلال القرارات الدولية المتخذة التي استغرق التفاوض عليها سنوات طويلة حتى كادت تكون شبه مكتملة.
وإعادة التفاوض حول مختلف الاتفاقيات – إن تمت – ستتيح للدول النامية فرصة لتحقيق توازن أكبر في هذه الاتفاقيات الظالمة بالنسبة لها. ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا دائما هو: هل لدى الدول النامية القدرة التفاوضية لانتزاع التوازن المطلوب الذي يؤدي إلى المحافظة على مصالحها الجوهرية التي سبق التفريط فيها؟ والإجابة هي: إن دخولها جولات إعادة التفاوض بنفس مستوى الضعف الذي كان عليه مفاوضوها لن يحقق أية نتائج إيجابية، ولو تمت إعادة التفاوض عشرات المرات.
ومع الأسف، معظم الدول النامية ليس بين مفاوضيها المفاوض الماهر الصبور الواعي الملم بحيثيات ما يفاوضه؛ ولذلك تجده يرضخ لأقل الضغوطات من الدول الأخرى. ودائما ما نجده مفاوضا ناعما هادئا يسير مع التيار، ومصالح وطنه التي جاء من أجل الدفاع عنها ليست أولوية عنده؛ ليس لنقصان حبه لوطنه، لكن لأن الصمود في الدفاع عن تلك المصالح، يعرضه لانتقاد الآخرين يهمه مظهره وطريقة حديثه وتكوين صداقات تنفعه شخصيا بعد انتهاء المفاوضات؛ ضامنا أن يستمر انتدابه إلى هذه المفاوضات أو تلك دون ضغوط على حكومته باستبداله، وهو الأمر الذي يحدث باستمرار.
أما في ما يخص مساءلته، بعد عودته الى وطنه، عما حققه في سبيل الدفاع عن مصالح الوطن، فهو يعرف أنه لن تكون هنالك مساءلة ذات شأن يذكر، ويمكنه بتبريرات يسيرة - ومعظمها يصب في خانة «ليس بالإمكان أحسن مما كان» - أن يفلت من نتائج أية مساءلة، إن وجدت.
وكما هو معلوم، فمفاوض الدولة النامية هو الأكثر عرضة لتلقي الرشاوى بمختلف أنواعها، وقد تم اكتشاف العديد منها، وبالذات في المفاوضات التي تجري في الأمم المتحدة بنيويورك، حيث تم إيداع العديد من المفاوضين - وبينهم مسؤولون كبار – السجن هناك لتلقيهم رشاوى ضخمة للدفاع عن مواقف لا تمت لمصالح بلدانهم بصلة. بل قد رأيت بأم عيني كيف أن مفاوض إحدى الدول النامية قد استدعاه مفاوض دولة أوروبية ليعطيه ورقة طلب منه قراءتها، وبعد أن فعل ما طلب منه - باعتبار ذلك موقفا لدولته -، قام على الفور وأعاد الورقة إلى وفد تلك الدولة الأوروبية، أمام الجميع. وهنالك العديد من الأمثلة الأخرى التي نخجل من ذكرها، وهي لا تصنف ضمن ضعف المهارات التفاوضية فقط، بل نتيجة للعمالة الواضحة لدول أخرى أيضا.
هكذا إذن، العديد من مفاوضي الدول النامية منشغل بما يتناسب وأجندته الخاصة، إضافة إلى افتقاده القدرات التي تجعله قادرا على مجاراة المفاوضين الآخرين. ونادرا ما تجد مفاوضي الدول النامية قد استمروا في البقاء في جلسات المفاوضات التي تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، بل حتى إن استمروا، فأغلبهم يتخذ من طاولات الاجتماعات سريرا يتمدد عليه وبأشكال يعطف عليها الجميع.
وختاما، المرحلة القادمة من التفاوض وإعادة التفاوض الثنائي والدولي، تتطلب من حكومات الدول النامية أن تصحو من غفوتها وأن تؤهل كفاءاتها المخلصة وتحاسبها، بعد تبني مواقف واضحة تجاه مختلف الموضوعات محل التفاوض، كما تتطلب أيضا التنسيق مع دول مجموعة السبعة والسبعين لتدعيم موقفها، وإلا فستضطر إلى قبول أن يكون دور مفاوضها مقتصرا على «حمل الوثائق» ذهابا إلى المفاوضات وعودة منها؛ فالوثائق لا تعني أنه قد «أتى برأس كليب». كل ذلك ينبغي أن تحرص الدول النامية عليه مع إدراك كامل لعدم إمكانها إعادة التفاوض مرة تلو الأخرى حتى تستدرك مصالحها؛ فما فات مات، وما مات لا يمكن إحياؤه.
sabbanms@