«سراج» عمر.. ظل فتيله متقداً 50 عاماً
حفر اسمه في الموسيقى السعودية.. ودوت ألحانه في الأرجاء
الجمعة / 28 / جمادى الآخرة / 1439 هـ الجمعة 16 مارس 2018 02:34
قراءة: د. عبدالله المدني *
في يوم الجمعة الثاني من فبراير 2018 فقدت الساحة الفنية السعودية والخليجية والعربية علما من أعلامها الكبار في الموسيقى والتلحين ممن سطر اسمه بحروف من ذهب في تاريخ وطنه السعودي. وبطبيعة الحال، فإن الإشارة هنا هي إلى الموسيقار السعودي الفذ المغفور له -بإذن الله- عمر عبدالقادر العمودي الشهير فنيا باسم سراج عمر، والذي تمكن بجدارة من صناعة نمط من التعاون المحكم مع زملائه من أعلام الغناء والشعر في المملكة العربية السعودية للارتقاء بالأغنية السعودية وإيصالها إلى ما وراء حدود شبه الجزيرة العربية.
نعم انطفأ في ذلك اليوم الحزين «السراج» الذي ظل فتيله متقدا على مدى نصف قرن. ولئن انطفأ السراج بعد 72 عاما من ميلاده وبعد 50 عاما من عطائه الفني، فإن ذكراه لن تنطفئ وستظل خالدة في قلوب رفاقه ومواطنيه.. كيف لا وهو الذي طور وأعاد توزيع السلام الوطني السعودي الذي يردده الملايين من السعوديين كل يوم، وهو الذي صنع واحدة من أجمل الأغاني الوطنية ممثلة في أغنية «بلادي بلادي منار الهدى» من كلمات الشاعر سعيد فياض، والتي لحنها وهو موجع بخبر وفاة الملك فيصل بن عبدالعزيز، فوضع فيها جذوة مشاعره وأحاسيسه. ولا تزال هذه الأغنية، رغم مرور أكثر من 40 عاما عليها، تشعل الحماس وتلهب وجدان أبناء الوطن كلما عــُزفت أو أذيعت. ومن ناحية أخرى كيف لنا أن ننسى سراج وهو الذي صاغ لحن أغنية «مقادير» لطلال مداح من كلمات الأمير الشاعر محمد العبدالله الفيصل، وهي الأغنية التي لم تأسر القلوب فحسب، وإنما بلغت الآفاق ورددها ملايين العرب في كل مكان وغنتها الفنانة وردة الجزائرية التي قالت عن لحنه أنه «عبقري ساحر».
الفرق الموسيقية منجم النجوم
ولد سراج في «حارة الشام»، أحد أحياء جدة العتيقة المشبعة بعبق التراث والفنون في عام 1946، ودرس في مدرستها الأشهر (مدرسة الفلاح) إلى أن حصل منها على شهادة الثانوية العامة عام 1959، ثم التحق بوظيفة إدارية في الخطوط الجوية السعودية لمدة 19 سنة ابتداء من عام 1960. أما مشواره الفني فقد بدأ في عام 1965 حينما التحق بفرقة النجوم الموسيقية بجدة كعازف كمان، علما أن هذه الفرقة وغيرها من فرق جدة الموسيقية الأهلية مثل «الخماسية» و«الفجر» ساهم سراج مع آخرين
من محبي الفن (مثل الملحنين لاحقا: سامي إحسان ومحمد شفيق وعلي هبلش وحسين عشي ومحمد شاكر) في تأسيسها.
جواز عبوره إلى الأضواء
وفي هذه الفترة المبكرة من حياته راح يضع ألحانا لبعض المنولوجات التي كان يكتب نصوصها محمد رجب ويقدمها محمد الصويغ وعبدالإله نوار وسعيد بصيري، كما راح يتعاون مع فرقتي «الهلال» و«الخماسية» اللتين كانتا تقدمان وقتذاك مقطوعات تراثية تستفيد منها إذاعة جدة. وعلى الرغم من عدم دراسته للموسيقى دراسة أكاديمية، واكتفائه بما تعلمه من بيئته المولعة بالغناء والطرب، وما اكتسبه من خبرة موسيقية تراثية جراء احتكاكه بفناني الحجاز القدامى وبعض من أهله المغرمين بالطرب، إلا أنه تمكن سريعا من تطوير مواهبه الفنية التي تجلت في بروزه الحقيقي وشيوع اسمه في الأوساط الفنية كنجم جديد في عالم التلحين ابتداء من آواخر الستينات. ففي ذلك الوقت قام المطرب محمد عبده لأول مرة في برنامج مسرح التلفزيون في جدة بأداء أغنية من كلمات إبراهيم خفاجي وألحان سراج هي أغنية «يا حبيبي أنستنا».
وعلى الرغم من أن سراج كان قد لحن للمرة الأولى أغنية بعنوان «سألت قلبي» من كلمات فاطمة علي ليؤديها المطرب عبدالغني عبدالرؤوف، إلا أن أغنية «يا حبيبي أنستنا» كانت هي جواز مروره إلى عالم الأضواء.
خلافه مع محمد عبده على عكس المتوقع
لم يؤد نجاح «يا حبيبي أنستنا» إلى تعاون آخر بين صاحب اللحن والفنان محمد عبده الذي كان معروفا آنذاك داخليا وخليجيا وفي حفلات المصايف اللبنانية. وبعبارة أخرى حدث خلاف بين الرجلين ظل مستمرا لسنوات، لكن دون أن يبدر من أحدهما كلمة إساءة بحق الآخر. وفي هذا السياق يخبرنا الكاتب حازم عبده في صحيفة إضاءة الإلكترونية أنه على الرغم من خلافهما، إلا أن سراج قال عن عبده أنه «من أوفى الفنانين على الساحة، وأنهما أصدقاء الصبا والسنوات الطويلة»، مضيفا: «إن من بين أكثر ما يعتز به في مكتبته الموسيقية آلتي عود؛ الأولى صنعت عام 1916 أهداها له الفنان محمد عبده، والثانية أهداها له الموسيقار أحمد فؤاد حسن عام 1979».
وعن أسباب خلاف سراج مع عبده، يخبرنا الإعلامي السعودي أيمن عبدالله زاهد في مقال له منشور في موقع «خبر نيوز» الإلكتروني أن محمد عبده استاء من سماح سراج للفنانة ابتسام لطفي بإعادة غناء «يا حبيبي أنستنا» بصوتها فتوقف التعاون بينهما. وعليه راح سراج يبحث عن فنان آخر، فوجد ضالته في الفنان الكبير طلال مداح -رحمه الله- الذي التقاه في الرياض. وقتها كان طلال لا يغني من ألحان غيره خوفا من الفشل، لكنه اقتنع في نهاية المطاف بأداء أغنية جديدة من ألحان سراج وكلمات علي هباشي، بل وغناها عبر مسرح التلفزيون في الرياض. ولم تكن هذه الأغنية سوى «ما تقول لنا صاحب» التي غناها طلال في عام 1971، وحققت له ولملحنها شهرة إضافية مدوية كان من ثمارها تعاون الرجلين مع بعضهما البعض لفترة طويلة لاحقة أثمرت عن مجموعة من أحلى الأغاني مثل: عز الكلام وغربة ليل، ومري عليّ قبل الرحيل ويا ويلاه والموعد الثاني والله يعلم والعشق ويا كريم وشعاع، ولا تقول لا تقول ولا وعد، والله يرد خطاك وكلمني عن الهوى والاختيار ووعدتيني وغربة وليل وهللي
الجدايل وعطر، وغيرها. هذا ناهيك عن قرار سراج، في هذا المنعطف الهام من حياته، الاكتفاء بالتلحين وترك أمر الأداء لغيره، على الرغم من حلاوة صوته وقدرته على منافسة الآخرين في الغناء.
وهكذا صنع سراج عمر بهدوء وجهد دؤوب أسطورته الخاصة في دنيا الفن في زمن كان الفن خطيئة، ومفارقته سوءة على حد تعبير الكاتب في صحيفة الوطن السعودية ناصر العمري (6/2/2018) ليأتي حاملا بلاده على كف الوتر.. يناجيها بحب وصدق وإيمان على طريقة خيميائي باولو كويلو، مضيفا: يتعاظم الفقد فينا لأن نهر الموسيقى وجداوله تتوقف تباعا برحيل عمالقة الموسيقى: فيلمون وهبي، وأيلي شويري، والموجي، ووديع، والرحابنة، والسنباطي، وبليغ، وبقية جوقة الفن، ليلحق بهم الأنيق سراج، وبهذا الرحيل ندرك أنه ما عاد للأغنية من ظلال في الواقع سوى واقع مجرد، شديد الجفاف، شبه متصحر، فقير.. ينتج أغنيات ميتة لم تعد تشجينا.
تحالف سراح مع «صوت الأرض»
ويخبرنا الإعلامي زاهد (مصدر سابق) عن كيفية وقوع الاختيار في عام 1972 على طلال مداح لتمثيل السعودية في حفل أقيم بالقاهرة بمناسبة مرور 22 عاما على انطلاقة إذاعة «صوت العرب» المصرية، وكيف أن طلال قرر أن يغني فيها أغنية يا قمرنا من ألحان بليغ حمدي، وكيف أن الأغنية لم تحقق النجاح المأمول حينذاك بسبب قلة البروفات وضعف التواصل والتفاهم ما بين طلال والفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن، رغم أنها نجحت لاحقا حينما سجلها طلال في الأستوديو. ويمضي الكاتب ليخبرنا أن الأمير محمد عبدالله الفيصل قرر إقامة حفل غنائي في القاهرة ليعوض
به ما فشل حفل صوت العرب في تحقيقه لجهة تعريف الجمهور بالفن الطربي السعودي، فكتب نص أغنية مقادير وطلب من سراج تلحينه ومن طلال غناءه، بل جمعهما في ما يشبه المعسكر المغلق للقيام ببروفات مكثفة فتحقق ما أراده الأمير من نجاح على أفضل المستويات. وهو ما جعل الأعمدة الثلاثة تلتقي مجددا وتنجز أغنية رائعة جديدة هي أغنية أغراب التي غناها طلال لأول مرة في حفل إذاعة صوت العرب الحادي والعشرين في صيف عام 1974.
غاب طلال فحضر سراج المغني
بعد ذلك حدث ما جعل سراج يخوض أول تجربة له في الغناء بصوته أمام حشد كبير تجاوز أكثر من ألف مستمع. وملخص القصة أن طلال تخلف لسبب ما عن المشاركة في حفل غنائي مقرر في بيروت في صيف 1974، فلم يجد سراج أمامه سوى إنقاذ الموقف بالغناء بدلا من طلال. ويمكن القول إن هذه التجربة شجعت سراج فيما بعد على تقديم بعض الأغاني بصوته في جلسات الطرب، ناهيك عن قيامه بغناء أغنيتين وطنيتين هما بلادي بلادي منار الهدى وأهواكي يا بلادي.
تصالح الفرقاء
في هذه الفترة استوعب محمد عبده أن سراج بات علما من أعلام التلحين، وأن مقاطعته لن تفيد وسوف تصب في صالح غيره، فأعاد وصل ما انقطه بينه وبين الأخير، فكان تعاونهما في أغنية مرتني الدنيا.. تسأل عن خبر من كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، ثم تعاونهما مجددا في أغنية حدثينا يا روابي نجد من كلمات الأمير بدر أيضا. أتلف أعماله احتجاجا.. ولحّن لـ«العندليب»! تجاوز اسم سراج عمر حدود السعودية ووصل بثبات إلى الساحة المصرية، بدليل أن العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ اتصل به في عام 1976 طالبا التعاون كي يغني أغنية سعودية، من بعد نجاح أغنيته الكويتية «يا هلي»، فرحب سراج كعادته وأعدّ من ألحانه وكلمات الأمير محمد العبدالله الفيصل أغنية «أنادي ع اللي غدا في الليل» كي يغنيها العندليب بعد عودته من رحلته العلاجية إلى لندن، لكن يد المنون كانت أسرع فاختطفت حليم، وظل اللحن حبيس الأدراج إلى أن قرر طلال أن يغنيه، فغناه لكن دون أي نجاح. وقد شهد هذا المنعطف في مسيرة سراج الفنية ارتفاع معنوياته إلى حدودها القصوى جراء النجاح المذهل الذي حققته أغنيته الوطنية «بلادي بلادي منار الهندى» التي كانت تبث يوميا من الإذاعة الرسمية، وتعزف في حفلات تخريج الكليات العسكرية.
تلك المعنويات المرتفعة استمرت معه في حقبة الثمانينات وبعض سنوات الحقبة التسعينية التي أفرزت الكثير من إبداعاته الموسيقية التي تغنى بها مطربون سعوديون مثل طلال ومحمد عبده وفوزي محسون وعبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله وعبدالله رشاد وعلي عبدالكريم ومحمد عمر وعودة العودة وعتاب وابتسام لطفي من كلمات الأميرين محمد العبدالله الفيصل وبدر بن عبدالمحسن وسواهما، كما تغنى بها مطربون ومطربات من خارج السعودية مثل وردة الجزائرية والفنان البحريني إبراهيم حبيب، ومصطفى أحمد والمطربتين المغربيتين سميرة سعيد وأسماء المنور. على أن الأمور راحت تتغير شيئا فشيئا في شكل منحنى بياني هابط، مما أثر على نفسيته وأفقده الكثير من الحماس للعمل. ذلك أن الزمن الذي نتحدث عنه كان زمن تدهور الذائقة الفنية، وتكالب شركات الإنتاج الفني على احتكار الفنانين وإنتاج الأغاني ذات الرتم السريع الراقص. وهكذا قرر سراج الابتعاد عن الوسط الفني، بل قام بعمل احتجاجي تمثل في جمع كافة محتويات مكتبته الفنية من أعمال سمعية وبصرية ومكتوبة (ما عدا الأغاني الوطنية) ورميها أمام مكبة للنفايات مقابل مبنى أمانة مدينة جدة.
فسّر بعض رموز «الصحوة» عمل سراج هذا بأنه نوع من التوبة عن ماضيه، لكن جاءهم الرد سريعا وصاعقا من سراج نفسه الذي صدمهم بقوله «لم أكن عاصيا لأتوب.. إنني أعتز بما قمت به ولست نادما على شيء مما فعلت، فأنا لم أفعل إلا ما يقتضيه واجبي الوطني ومسؤوليتي كفنان، وكل هذا لا يتنافى مع معتقداتي الإسلامية». وفاة طلال.. جرح لم يندمل في قلبه جاءت وفاة صديقه ورفيق دربه الفنان طلال مداح المفاجئة في عام 2000، التي أحدثت شرخا وجرحا لا يندمل في قلبه، خصوصا وأن طلال كان من أقرب المقربين إليه وأكثرهم سؤالا عنه. وفاة طلال، الذي وصفه سراج بتوأم روحه في حوار أجرته صحيفة عكاظ معه (3/2/2011)، معطوفا على صراعه مع المرض، أدخلاه في حالة من العزلة الاختيارية والانقطاع عن الناس إلى ساعة وفاته في مستشفى الملك فهد بجدة على إثر متاعب في الصدر ــ بحسب أقوال ابنه ــ ومن ثم دفنه في مقابر الرويس بعد الصلاة عليه.
وقد شكلت وفاة الضلع الثالث والأخير لأغنية «مقادير» من بعد مؤلفها الأمير محمد العبدالله الفيصل ومؤديها الفنان طلال مداح صدمة للكثيرين من محبي سراج عمر ومعارفه وعشاق فنه الأصيل الذين أجمعوا على ما كان يتمتع به من خلق رفيع وصفات إنسانية وأناقة في المظهر والحديث والتعامل. من هؤلاء الفنان الكبير غازي علي الذي روى لـ «العربية نت» قصة الصداقة الطويلة التي ربطته بالراحل منذ لقائهما الأول في الستينات في منزل الملحن عمر كدرس بجدة أثناء تلحين الراحل لأغنية «يا حبيبي أنستنا». وكيف أن سراج أنقذه في عام 1985 من الموت حينما أصيب بأزمة قلبية في الخامسة فجرا، فاتصل بسراج الذي وصل بعد أقل من خمس دقائق، وقام بنقله إلى المستشفى وظل بجواره إلى أن اطمأن عليه. وقال غازي علي أيضا ــ في سياق إبرازه للجوانب الإنسانية لصديقه ــ أن سراج هو من تكفل برعاية وخدمة والدته وأهل بيته طوال سنوات دراسته في معهد الكونسرفتوار بالقاهرة.
ومما يذكر أن سراج عمر كان صاحب أنشطة متنوعة تمثلت في: عضويته الدائمة في لجان تحكيم المهرجانات الموسيقية العربية مثل مهرجان القاهرة الدولي؛ وعضويته في مجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون؛ وعضويته في مهرجان الموسيقى في القاهرة؛ وعضويته في لجنة التحكيم للمسابقة الغنائية للمرأة في مهرجان دبي للتسوق عام 1999؛ وعضويته في لجنة التحكيم في نشاطات دار الأوبرا المصرية؛ وعضويته في لجنة المسابقات الدولية المقامة على هامش مهرجان مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة؛ وعضويته في جمعية المؤلفين والملحنين بباريس.
ومما يذكر أيضا أن الراحل شغل بعض المناصب ذات العلاقة بالفن مثل «ممثل الموسيقيين في اتحاد الفنانين العرب بالقاهرة» و«نائب الأمين العام لاتحاد الموسيقيين العرب»، و«مندوب المملكة العربية السعودية في المجمع الموسيقي العربي».
ومن جهة أخرى، يعتبر سراج صاحب أول أوبريت وطني سعودي، وهو «أوبريت التوحيد» الذي لحنه لمهرجان الجنادرية الوطني في عام 1994 من كلمات الأمير خالد الفيصل وأداء طلال مداح ومحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وعبدالله رشاد، والذي دخل به صاحبه دار ثقافات العالم بفرنسا، محققا بذلك سبقا مهما، على اعتبار أن الأوبريت كان أول الأنغام السعودية التي حظيت بذلك التكريم.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
نعم انطفأ في ذلك اليوم الحزين «السراج» الذي ظل فتيله متقدا على مدى نصف قرن. ولئن انطفأ السراج بعد 72 عاما من ميلاده وبعد 50 عاما من عطائه الفني، فإن ذكراه لن تنطفئ وستظل خالدة في قلوب رفاقه ومواطنيه.. كيف لا وهو الذي طور وأعاد توزيع السلام الوطني السعودي الذي يردده الملايين من السعوديين كل يوم، وهو الذي صنع واحدة من أجمل الأغاني الوطنية ممثلة في أغنية «بلادي بلادي منار الهدى» من كلمات الشاعر سعيد فياض، والتي لحنها وهو موجع بخبر وفاة الملك فيصل بن عبدالعزيز، فوضع فيها جذوة مشاعره وأحاسيسه. ولا تزال هذه الأغنية، رغم مرور أكثر من 40 عاما عليها، تشعل الحماس وتلهب وجدان أبناء الوطن كلما عــُزفت أو أذيعت. ومن ناحية أخرى كيف لنا أن ننسى سراج وهو الذي صاغ لحن أغنية «مقادير» لطلال مداح من كلمات الأمير الشاعر محمد العبدالله الفيصل، وهي الأغنية التي لم تأسر القلوب فحسب، وإنما بلغت الآفاق ورددها ملايين العرب في كل مكان وغنتها الفنانة وردة الجزائرية التي قالت عن لحنه أنه «عبقري ساحر».
الفرق الموسيقية منجم النجوم
ولد سراج في «حارة الشام»، أحد أحياء جدة العتيقة المشبعة بعبق التراث والفنون في عام 1946، ودرس في مدرستها الأشهر (مدرسة الفلاح) إلى أن حصل منها على شهادة الثانوية العامة عام 1959، ثم التحق بوظيفة إدارية في الخطوط الجوية السعودية لمدة 19 سنة ابتداء من عام 1960. أما مشواره الفني فقد بدأ في عام 1965 حينما التحق بفرقة النجوم الموسيقية بجدة كعازف كمان، علما أن هذه الفرقة وغيرها من فرق جدة الموسيقية الأهلية مثل «الخماسية» و«الفجر» ساهم سراج مع آخرين
من محبي الفن (مثل الملحنين لاحقا: سامي إحسان ومحمد شفيق وعلي هبلش وحسين عشي ومحمد شاكر) في تأسيسها.
جواز عبوره إلى الأضواء
وفي هذه الفترة المبكرة من حياته راح يضع ألحانا لبعض المنولوجات التي كان يكتب نصوصها محمد رجب ويقدمها محمد الصويغ وعبدالإله نوار وسعيد بصيري، كما راح يتعاون مع فرقتي «الهلال» و«الخماسية» اللتين كانتا تقدمان وقتذاك مقطوعات تراثية تستفيد منها إذاعة جدة. وعلى الرغم من عدم دراسته للموسيقى دراسة أكاديمية، واكتفائه بما تعلمه من بيئته المولعة بالغناء والطرب، وما اكتسبه من خبرة موسيقية تراثية جراء احتكاكه بفناني الحجاز القدامى وبعض من أهله المغرمين بالطرب، إلا أنه تمكن سريعا من تطوير مواهبه الفنية التي تجلت في بروزه الحقيقي وشيوع اسمه في الأوساط الفنية كنجم جديد في عالم التلحين ابتداء من آواخر الستينات. ففي ذلك الوقت قام المطرب محمد عبده لأول مرة في برنامج مسرح التلفزيون في جدة بأداء أغنية من كلمات إبراهيم خفاجي وألحان سراج هي أغنية «يا حبيبي أنستنا».
وعلى الرغم من أن سراج كان قد لحن للمرة الأولى أغنية بعنوان «سألت قلبي» من كلمات فاطمة علي ليؤديها المطرب عبدالغني عبدالرؤوف، إلا أن أغنية «يا حبيبي أنستنا» كانت هي جواز مروره إلى عالم الأضواء.
خلافه مع محمد عبده على عكس المتوقع
لم يؤد نجاح «يا حبيبي أنستنا» إلى تعاون آخر بين صاحب اللحن والفنان محمد عبده الذي كان معروفا آنذاك داخليا وخليجيا وفي حفلات المصايف اللبنانية. وبعبارة أخرى حدث خلاف بين الرجلين ظل مستمرا لسنوات، لكن دون أن يبدر من أحدهما كلمة إساءة بحق الآخر. وفي هذا السياق يخبرنا الكاتب حازم عبده في صحيفة إضاءة الإلكترونية أنه على الرغم من خلافهما، إلا أن سراج قال عن عبده أنه «من أوفى الفنانين على الساحة، وأنهما أصدقاء الصبا والسنوات الطويلة»، مضيفا: «إن من بين أكثر ما يعتز به في مكتبته الموسيقية آلتي عود؛ الأولى صنعت عام 1916 أهداها له الفنان محمد عبده، والثانية أهداها له الموسيقار أحمد فؤاد حسن عام 1979».
وعن أسباب خلاف سراج مع عبده، يخبرنا الإعلامي السعودي أيمن عبدالله زاهد في مقال له منشور في موقع «خبر نيوز» الإلكتروني أن محمد عبده استاء من سماح سراج للفنانة ابتسام لطفي بإعادة غناء «يا حبيبي أنستنا» بصوتها فتوقف التعاون بينهما. وعليه راح سراج يبحث عن فنان آخر، فوجد ضالته في الفنان الكبير طلال مداح -رحمه الله- الذي التقاه في الرياض. وقتها كان طلال لا يغني من ألحان غيره خوفا من الفشل، لكنه اقتنع في نهاية المطاف بأداء أغنية جديدة من ألحان سراج وكلمات علي هباشي، بل وغناها عبر مسرح التلفزيون في الرياض. ولم تكن هذه الأغنية سوى «ما تقول لنا صاحب» التي غناها طلال في عام 1971، وحققت له ولملحنها شهرة إضافية مدوية كان من ثمارها تعاون الرجلين مع بعضهما البعض لفترة طويلة لاحقة أثمرت عن مجموعة من أحلى الأغاني مثل: عز الكلام وغربة ليل، ومري عليّ قبل الرحيل ويا ويلاه والموعد الثاني والله يعلم والعشق ويا كريم وشعاع، ولا تقول لا تقول ولا وعد، والله يرد خطاك وكلمني عن الهوى والاختيار ووعدتيني وغربة وليل وهللي
الجدايل وعطر، وغيرها. هذا ناهيك عن قرار سراج، في هذا المنعطف الهام من حياته، الاكتفاء بالتلحين وترك أمر الأداء لغيره، على الرغم من حلاوة صوته وقدرته على منافسة الآخرين في الغناء.
وهكذا صنع سراج عمر بهدوء وجهد دؤوب أسطورته الخاصة في دنيا الفن في زمن كان الفن خطيئة، ومفارقته سوءة على حد تعبير الكاتب في صحيفة الوطن السعودية ناصر العمري (6/2/2018) ليأتي حاملا بلاده على كف الوتر.. يناجيها بحب وصدق وإيمان على طريقة خيميائي باولو كويلو، مضيفا: يتعاظم الفقد فينا لأن نهر الموسيقى وجداوله تتوقف تباعا برحيل عمالقة الموسيقى: فيلمون وهبي، وأيلي شويري، والموجي، ووديع، والرحابنة، والسنباطي، وبليغ، وبقية جوقة الفن، ليلحق بهم الأنيق سراج، وبهذا الرحيل ندرك أنه ما عاد للأغنية من ظلال في الواقع سوى واقع مجرد، شديد الجفاف، شبه متصحر، فقير.. ينتج أغنيات ميتة لم تعد تشجينا.
تحالف سراح مع «صوت الأرض»
ويخبرنا الإعلامي زاهد (مصدر سابق) عن كيفية وقوع الاختيار في عام 1972 على طلال مداح لتمثيل السعودية في حفل أقيم بالقاهرة بمناسبة مرور 22 عاما على انطلاقة إذاعة «صوت العرب» المصرية، وكيف أن طلال قرر أن يغني فيها أغنية يا قمرنا من ألحان بليغ حمدي، وكيف أن الأغنية لم تحقق النجاح المأمول حينذاك بسبب قلة البروفات وضعف التواصل والتفاهم ما بين طلال والفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن، رغم أنها نجحت لاحقا حينما سجلها طلال في الأستوديو. ويمضي الكاتب ليخبرنا أن الأمير محمد عبدالله الفيصل قرر إقامة حفل غنائي في القاهرة ليعوض
به ما فشل حفل صوت العرب في تحقيقه لجهة تعريف الجمهور بالفن الطربي السعودي، فكتب نص أغنية مقادير وطلب من سراج تلحينه ومن طلال غناءه، بل جمعهما في ما يشبه المعسكر المغلق للقيام ببروفات مكثفة فتحقق ما أراده الأمير من نجاح على أفضل المستويات. وهو ما جعل الأعمدة الثلاثة تلتقي مجددا وتنجز أغنية رائعة جديدة هي أغنية أغراب التي غناها طلال لأول مرة في حفل إذاعة صوت العرب الحادي والعشرين في صيف عام 1974.
غاب طلال فحضر سراج المغني
بعد ذلك حدث ما جعل سراج يخوض أول تجربة له في الغناء بصوته أمام حشد كبير تجاوز أكثر من ألف مستمع. وملخص القصة أن طلال تخلف لسبب ما عن المشاركة في حفل غنائي مقرر في بيروت في صيف 1974، فلم يجد سراج أمامه سوى إنقاذ الموقف بالغناء بدلا من طلال. ويمكن القول إن هذه التجربة شجعت سراج فيما بعد على تقديم بعض الأغاني بصوته في جلسات الطرب، ناهيك عن قيامه بغناء أغنيتين وطنيتين هما بلادي بلادي منار الهدى وأهواكي يا بلادي.
تصالح الفرقاء
في هذه الفترة استوعب محمد عبده أن سراج بات علما من أعلام التلحين، وأن مقاطعته لن تفيد وسوف تصب في صالح غيره، فأعاد وصل ما انقطه بينه وبين الأخير، فكان تعاونهما في أغنية مرتني الدنيا.. تسأل عن خبر من كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، ثم تعاونهما مجددا في أغنية حدثينا يا روابي نجد من كلمات الأمير بدر أيضا. أتلف أعماله احتجاجا.. ولحّن لـ«العندليب»! تجاوز اسم سراج عمر حدود السعودية ووصل بثبات إلى الساحة المصرية، بدليل أن العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ اتصل به في عام 1976 طالبا التعاون كي يغني أغنية سعودية، من بعد نجاح أغنيته الكويتية «يا هلي»، فرحب سراج كعادته وأعدّ من ألحانه وكلمات الأمير محمد العبدالله الفيصل أغنية «أنادي ع اللي غدا في الليل» كي يغنيها العندليب بعد عودته من رحلته العلاجية إلى لندن، لكن يد المنون كانت أسرع فاختطفت حليم، وظل اللحن حبيس الأدراج إلى أن قرر طلال أن يغنيه، فغناه لكن دون أي نجاح. وقد شهد هذا المنعطف في مسيرة سراج الفنية ارتفاع معنوياته إلى حدودها القصوى جراء النجاح المذهل الذي حققته أغنيته الوطنية «بلادي بلادي منار الهندى» التي كانت تبث يوميا من الإذاعة الرسمية، وتعزف في حفلات تخريج الكليات العسكرية.
تلك المعنويات المرتفعة استمرت معه في حقبة الثمانينات وبعض سنوات الحقبة التسعينية التي أفرزت الكثير من إبداعاته الموسيقية التي تغنى بها مطربون سعوديون مثل طلال ومحمد عبده وفوزي محسون وعبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله وعبدالله رشاد وعلي عبدالكريم ومحمد عمر وعودة العودة وعتاب وابتسام لطفي من كلمات الأميرين محمد العبدالله الفيصل وبدر بن عبدالمحسن وسواهما، كما تغنى بها مطربون ومطربات من خارج السعودية مثل وردة الجزائرية والفنان البحريني إبراهيم حبيب، ومصطفى أحمد والمطربتين المغربيتين سميرة سعيد وأسماء المنور. على أن الأمور راحت تتغير شيئا فشيئا في شكل منحنى بياني هابط، مما أثر على نفسيته وأفقده الكثير من الحماس للعمل. ذلك أن الزمن الذي نتحدث عنه كان زمن تدهور الذائقة الفنية، وتكالب شركات الإنتاج الفني على احتكار الفنانين وإنتاج الأغاني ذات الرتم السريع الراقص. وهكذا قرر سراج الابتعاد عن الوسط الفني، بل قام بعمل احتجاجي تمثل في جمع كافة محتويات مكتبته الفنية من أعمال سمعية وبصرية ومكتوبة (ما عدا الأغاني الوطنية) ورميها أمام مكبة للنفايات مقابل مبنى أمانة مدينة جدة.
فسّر بعض رموز «الصحوة» عمل سراج هذا بأنه نوع من التوبة عن ماضيه، لكن جاءهم الرد سريعا وصاعقا من سراج نفسه الذي صدمهم بقوله «لم أكن عاصيا لأتوب.. إنني أعتز بما قمت به ولست نادما على شيء مما فعلت، فأنا لم أفعل إلا ما يقتضيه واجبي الوطني ومسؤوليتي كفنان، وكل هذا لا يتنافى مع معتقداتي الإسلامية». وفاة طلال.. جرح لم يندمل في قلبه جاءت وفاة صديقه ورفيق دربه الفنان طلال مداح المفاجئة في عام 2000، التي أحدثت شرخا وجرحا لا يندمل في قلبه، خصوصا وأن طلال كان من أقرب المقربين إليه وأكثرهم سؤالا عنه. وفاة طلال، الذي وصفه سراج بتوأم روحه في حوار أجرته صحيفة عكاظ معه (3/2/2011)، معطوفا على صراعه مع المرض، أدخلاه في حالة من العزلة الاختيارية والانقطاع عن الناس إلى ساعة وفاته في مستشفى الملك فهد بجدة على إثر متاعب في الصدر ــ بحسب أقوال ابنه ــ ومن ثم دفنه في مقابر الرويس بعد الصلاة عليه.
وقد شكلت وفاة الضلع الثالث والأخير لأغنية «مقادير» من بعد مؤلفها الأمير محمد العبدالله الفيصل ومؤديها الفنان طلال مداح صدمة للكثيرين من محبي سراج عمر ومعارفه وعشاق فنه الأصيل الذين أجمعوا على ما كان يتمتع به من خلق رفيع وصفات إنسانية وأناقة في المظهر والحديث والتعامل. من هؤلاء الفنان الكبير غازي علي الذي روى لـ «العربية نت» قصة الصداقة الطويلة التي ربطته بالراحل منذ لقائهما الأول في الستينات في منزل الملحن عمر كدرس بجدة أثناء تلحين الراحل لأغنية «يا حبيبي أنستنا». وكيف أن سراج أنقذه في عام 1985 من الموت حينما أصيب بأزمة قلبية في الخامسة فجرا، فاتصل بسراج الذي وصل بعد أقل من خمس دقائق، وقام بنقله إلى المستشفى وظل بجواره إلى أن اطمأن عليه. وقال غازي علي أيضا ــ في سياق إبرازه للجوانب الإنسانية لصديقه ــ أن سراج هو من تكفل برعاية وخدمة والدته وأهل بيته طوال سنوات دراسته في معهد الكونسرفتوار بالقاهرة.
ومما يذكر أن سراج عمر كان صاحب أنشطة متنوعة تمثلت في: عضويته الدائمة في لجان تحكيم المهرجانات الموسيقية العربية مثل مهرجان القاهرة الدولي؛ وعضويته في مجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون؛ وعضويته في مهرجان الموسيقى في القاهرة؛ وعضويته في لجنة التحكيم للمسابقة الغنائية للمرأة في مهرجان دبي للتسوق عام 1999؛ وعضويته في لجنة التحكيم في نشاطات دار الأوبرا المصرية؛ وعضويته في لجنة المسابقات الدولية المقامة على هامش مهرجان مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة؛ وعضويته في جمعية المؤلفين والملحنين بباريس.
ومما يذكر أيضا أن الراحل شغل بعض المناصب ذات العلاقة بالفن مثل «ممثل الموسيقيين في اتحاد الفنانين العرب بالقاهرة» و«نائب الأمين العام لاتحاد الموسيقيين العرب»، و«مندوب المملكة العربية السعودية في المجمع الموسيقي العربي».
ومن جهة أخرى، يعتبر سراج صاحب أول أوبريت وطني سعودي، وهو «أوبريت التوحيد» الذي لحنه لمهرجان الجنادرية الوطني في عام 1994 من كلمات الأمير خالد الفيصل وأداء طلال مداح ومحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وعبدالله رشاد، والذي دخل به صاحبه دار ثقافات العالم بفرنسا، محققا بذلك سبقا مهما، على اعتبار أن الأوبريت كان أول الأنغام السعودية التي حظيت بذلك التكريم.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين