أم كلثوم حزينة
الأحد / 08 / رجب / 1439 هـ الاحد 25 مارس 2018 01:16
وفاء الرشيد
دائماً ما يلعب الفن دورا مهما في رقي الشعوب وعبقريتها ودورا أكبر في بناء التلاحم والتواصل عبر الدبلوماسية الناعمة التي يمارسها. كنت في زيارة لمعرض دبي للفن والذي كان مظاهرة كبيرة لأهم وأرقى فناني وصالات العرض بالعالم، تسابق الكل فيه لتقديم الأفضل لجمهور الجمال الذي ازدحمت القاعات بهم.
مررت على صالات العرض الألمانية والهندية والفرنسية ومنها إلى اللبنانية والسعودية والتونسية لأجد نفسي أقف أمام لوحة بحجم ذاك المكان تشع بياضا بصمت، اقتربت منها وأنا مرتبكة.. مرتبكة جداً ولم أفهم سر ارتباكي فقد كان في المكان حضور لم يشبهه حضور فاستوقفني المشهد.
كانت اللوحة تلخص مشهدا لحفلة من حفلات أم كلثوم في الزمن الجميل، تلبس فستانا أبيض أنيقا من البروكيد ويجلس من ورائها 4 من أهم عازفي فرقتها، حيث كان منهم محمد القصبجي سيد العود ومحمد عبدو صالح أشهر عازفي القانون، وعازف الكمان كريم حلمي أكبر الأعضاء سنا وأقدمهم. الكل في المشهد كان يعزف على آلته بملامح غريبة مرسومة بشحوب، فعدت بعيني للست ووجدتها تجلس على كرسي خشبي بوجه مخذل حزين تحدق بالأرض بصمت... بعيدا عن الغناء!!
أم كلثوم كانت صامتة شاحبة تجلس على الكرسي ولا تنظر إلى جمهورها! كانت رسالة قوية من الرسام الدكتور إبراهيم الدسوقي في أرت دبي للجمهور العربي، رسالة استوقفت كل من يمر أمام تلك اللوحة ليتشرب من الزمن الجميل ليصطدم برسالة أهم مما يشاهده أي متذوق للفن. أم كلثوم كانت حزينة متألمة جالسة بحسرة، لا تغني ولن تغني.. بعيون محدقة بالأرض... أم كلثوم معترضة على الحال العربي العربي وعلى حال أرضها بصمت... هكذا أرادها الفنان أن تكون، صامتة لا تغني.
هذا المشهد هو بناء للوحة من فنان مثقف سياسياً وليس مسيسا، وهي نقطة بالغة الأهمية في علاقة الفن بالمشهد السياسي! فغير أنه على دراية بما يدور حوله، هو صاحب موقف ورأي... فالفن ليس فقط عبارة عن لوحة مشبعة بقواعد علم الجمال، وألوان تلمس أرواحنا ومشاعرنا، وأفكار تذهب بعيدا بنا إلى عوالم حالمة هربا من الواقع المعاش..
أم كلثوم حزينة ليس فقط على سورية وليبيا وتونس واليمن والعراق وفلسطين ولبنان بل حتى على مصر... تمتنع أن تطربكم لأنكم شعوب هجرت قيمها.. حزينة من السياسي والمهندس والطبيب.. حزينة من المعلم والكاتب والفنان العربي.. «لن أغني لأنكم خذلتوني» هكذا قرأت اللوحة.
وهكذا هو الفنان الواعي سياسياً، الفنان الذي تكون لوحته قضية يحارب بها... منسجماً مع مقتضيات العصر عبر دوره الإبداعي والفكري الذي يترجمه بأشكال بصرية مختلفة، ليصبح راصدا لكل التحولات الفكرية والوجدانية والعقائدية من حولنا.
أحد التعاريف الأساسية للسياسة هو «فن الممكن» فقد ارتبط الفن الحقيقي ارتباطا وثيقا بالسياسة عبر تاريخنا الحديث، فمحمود مختار، سيف وانلي، أدهم وانلي، عبد الهادي الجزار، وحامد عويس (في مصر) مجدوا إنجازات ثورة يوليو.. وكل من جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وجماعة بغداد للفن الحديث (في العراق) جسدوا رموز التحرير والاستقلال.. ومحمد إيسياخم (الجزائر)، الذي انشغل كثيراً بالهوية، وعمل مع آخرين على إيجاد طراز من الفن الوطني المتميز بطابع عربي إسلامي أفريقي، وإسماعيل شمّوط ومصطفى الحلاج ومنى حاطوم (فلسطين) الذين واكبوا تحولات الانتفاضة وما بعدها، كما جسدوا معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وبكاء رموزه الثابتة الخالدة مثل المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وفاتح المدرس ومروان قصاب باشي (سورية)، وخليفة القطان (الكويت) الذي تناول بحماس فكرة القومية العربية.
السياسة بلا فنون هي سياسة مكبلة، والشعوب بلا فنون هي شعوب مهمشة، والفنان بلا ثقافة هو ريشة مشوهة.
WwaaffaaA@
مررت على صالات العرض الألمانية والهندية والفرنسية ومنها إلى اللبنانية والسعودية والتونسية لأجد نفسي أقف أمام لوحة بحجم ذاك المكان تشع بياضا بصمت، اقتربت منها وأنا مرتبكة.. مرتبكة جداً ولم أفهم سر ارتباكي فقد كان في المكان حضور لم يشبهه حضور فاستوقفني المشهد.
كانت اللوحة تلخص مشهدا لحفلة من حفلات أم كلثوم في الزمن الجميل، تلبس فستانا أبيض أنيقا من البروكيد ويجلس من ورائها 4 من أهم عازفي فرقتها، حيث كان منهم محمد القصبجي سيد العود ومحمد عبدو صالح أشهر عازفي القانون، وعازف الكمان كريم حلمي أكبر الأعضاء سنا وأقدمهم. الكل في المشهد كان يعزف على آلته بملامح غريبة مرسومة بشحوب، فعدت بعيني للست ووجدتها تجلس على كرسي خشبي بوجه مخذل حزين تحدق بالأرض بصمت... بعيدا عن الغناء!!
أم كلثوم كانت صامتة شاحبة تجلس على الكرسي ولا تنظر إلى جمهورها! كانت رسالة قوية من الرسام الدكتور إبراهيم الدسوقي في أرت دبي للجمهور العربي، رسالة استوقفت كل من يمر أمام تلك اللوحة ليتشرب من الزمن الجميل ليصطدم برسالة أهم مما يشاهده أي متذوق للفن. أم كلثوم كانت حزينة متألمة جالسة بحسرة، لا تغني ولن تغني.. بعيون محدقة بالأرض... أم كلثوم معترضة على الحال العربي العربي وعلى حال أرضها بصمت... هكذا أرادها الفنان أن تكون، صامتة لا تغني.
هذا المشهد هو بناء للوحة من فنان مثقف سياسياً وليس مسيسا، وهي نقطة بالغة الأهمية في علاقة الفن بالمشهد السياسي! فغير أنه على دراية بما يدور حوله، هو صاحب موقف ورأي... فالفن ليس فقط عبارة عن لوحة مشبعة بقواعد علم الجمال، وألوان تلمس أرواحنا ومشاعرنا، وأفكار تذهب بعيدا بنا إلى عوالم حالمة هربا من الواقع المعاش..
أم كلثوم حزينة ليس فقط على سورية وليبيا وتونس واليمن والعراق وفلسطين ولبنان بل حتى على مصر... تمتنع أن تطربكم لأنكم شعوب هجرت قيمها.. حزينة من السياسي والمهندس والطبيب.. حزينة من المعلم والكاتب والفنان العربي.. «لن أغني لأنكم خذلتوني» هكذا قرأت اللوحة.
وهكذا هو الفنان الواعي سياسياً، الفنان الذي تكون لوحته قضية يحارب بها... منسجماً مع مقتضيات العصر عبر دوره الإبداعي والفكري الذي يترجمه بأشكال بصرية مختلفة، ليصبح راصدا لكل التحولات الفكرية والوجدانية والعقائدية من حولنا.
أحد التعاريف الأساسية للسياسة هو «فن الممكن» فقد ارتبط الفن الحقيقي ارتباطا وثيقا بالسياسة عبر تاريخنا الحديث، فمحمود مختار، سيف وانلي، أدهم وانلي، عبد الهادي الجزار، وحامد عويس (في مصر) مجدوا إنجازات ثورة يوليو.. وكل من جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وجماعة بغداد للفن الحديث (في العراق) جسدوا رموز التحرير والاستقلال.. ومحمد إيسياخم (الجزائر)، الذي انشغل كثيراً بالهوية، وعمل مع آخرين على إيجاد طراز من الفن الوطني المتميز بطابع عربي إسلامي أفريقي، وإسماعيل شمّوط ومصطفى الحلاج ومنى حاطوم (فلسطين) الذين واكبوا تحولات الانتفاضة وما بعدها، كما جسدوا معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وبكاء رموزه الثابتة الخالدة مثل المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وفاتح المدرس ومروان قصاب باشي (سورية)، وخليفة القطان (الكويت) الذي تناول بحماس فكرة القومية العربية.
السياسة بلا فنون هي سياسة مكبلة، والشعوب بلا فنون هي شعوب مهمشة، والفنان بلا ثقافة هو ريشة مشوهة.
WwaaffaaA@