كتاب ومقالات

«ما لهم خلق».. معهم حق..!

صدقة يحيى فاضل

يقول مراقبو وخبراء العلاقات الدولية، وخاصة مراقبي هذه العلاقات في المنطقة العربية، أو ما يسمى بـ«منطقة الشرق الأوسط»، إن هذه المنطقة هي الآن أكثر مناطق العالم سخونة واضطرابا، وعدم استقرار... لسببين رئيسين متداخلين ومترابطين... المسبب الداخلي الذاتي والمسبب الخارجي. هذان المسببان (وما يتفرع عنهما) جعلا هذه المنطقة تعيش على «صفيح ساخن»، بل ملتهب، منذ نحو نصف قرن.

وقد زادت سخونة هذا الصفيح مؤخرا، خاصة في العقدين الماضيين، لدرجة غير مسبوقة... أدت -حتى الآن- لاضطراب وتفكك 4 دول عربية... وأحالت حياة شعوبها (نحو 90 مليون نسمة) إلى جحيم لا يطاق... وخيمت على أجواء المنطقة نذر الاضطراب وعدم الاستقرار، ودخلت معظم أرجائها في نفق مظلم، لا يبدو أن له نهاية، ناهيك أن يكون به بصيص من نور. الأمر الذى يجعل التفاؤل بمستقبل طبيعي طيب، لأغلب هذه المنطقة، لا أساس منطقيا له.

***

وقد كتب المعنيون بأمن واستقرار هذه المنطقة مقالات وتحليلات كثيرة تؤكد هذه الحقيقة المرة. وكاتب هذه السطور كتب عدة مقالات متواضعة في هذا الشأن... طغى عليها التشاؤم. ولكن، بقي أمل محدود في الخروج من هذا المأزق... إن تم التغلب على تأثيرات مسببي المأساة. وهذا أمر غير مستحيل، وإن كان بالغ الصعوبة. وهذا ما يبعث على قدر محدود من التفاؤل. ما هو «تأثير» هذه الحقائق التي تحملها تلك المقالات في الناس؟! ما زال لهذه المقالات قدر من التأثير في المتعلمين والمثقفين، وربما قلة من العامة. ولكن، يلاحظ أن غالبية العامة إما غير مكترثة، وإما لديها قليل من القلق على الحاضر والمستقبل... وبدرجة أقل كثيرا مما يجب أن يكون، ومما هو موجود لدى أغلب المثقفين والمفكرين المعنيين.

***

ولكن، ليس المقالات والتحليلات، في موضوع الشأن العام، وحدها هي التي تؤثر في الناس. هناك «وسائل» تأثير أخرى، بالغة الفعالية، وإن كانت محدودة النطاق. ويأتي الفن (بأشكاله المختلفة) في مقدمة هذه الوسائل... وخاصة الفن الموسيقي والغنائي. فما زلنا نتذكر أغاني، من قبيل: «بلاد العرب أوطاني»، «وطني الحبيب»، «أخي جاوز الظالمون المدى»، وما كان لها من تأثير.

استمعت قبل مدة، باستمتاع وإعجاب، لأغنية «سياسية – إنسانية» رائعة، للفنان العراقي العربي الشهير كاظم الساهر. لا أدري من كاتب كلمات الأغنية وملحنها. استمع الناس لها من كاظم الساهر ومجموعة من الأطفال «الفنانين»... المشاركين في برنامج تلفزيوني شهير، لاختيار أفضل «المغنين» من الأطفال العرب. وقد أدى الفنان الساهر هذه الأغنية مع هؤلاء الأطفال الموهوبين المشاركين بهذا البرنامج والذين تم اختيارهم بعناية. عنوان هذه الأغنية هو «ما لي خلق» بضم الخاء واللام وتسكين القاف – باللغة الفصحى... ولكنها أديت بالعامية الشامية. تقول كلماتها: ما لي خلق، أحب واحترق؟ نار العشق، تحرق حرق؟

نحن في وطن، كله محن كله وجع، كله فتن!

واللي يحكموا في هذا الزمن! اتفقوا أن لا نتفق! ما لي خلق!

متغربين في العالمين! شمال ويمين!

دمع الحنين، في كل عين رعد وبرق!

لكم السلام والاحترام، لكن حرام وطن السلام!

يصبح حطام، وينسرق؟ ما لي خلق!

قلبي الصفي، طيب وفي! مش طائفي!

بيحب الخلق، كل الخلق!

واللي يحكموا في هذا الزمن، اتفقوا أن لا نتفق؟ ما لي خلق!

***

كلمات جميلة ومعبرة جدا، ولحن متقن، وأداء رائع. وملخص «الرسالة» التي تحملها هذه الأنشودة، هي: أن الناس، خاصة في دول المنطقة المضطربة، أصبح ليس لديهم رغبة واستعداد لممارسة المحبة، وهي أسمى المشاعر الإنسانية. بسبب أن وطن هؤلاء أمسى ساحة للاضطراب والقلاقل، والصراعات والحروب... بسبب أن من يحكمون هذه الأقطار المضطربة (الاستبداد السياسي) يستفيدون من تفاقم الفرقة بين شعوبهم، التي أصبحت نسبة كبيرة منها مشردة في شتى ديار العالم، تعاني من الأسى والانكسار. وليس لهذه الشعوب مطامع، سوى أنها تريد السلام والاحترام، وعدم نهب حقوقها. فغالبية هذه الشعوب تحترم الآخرين، وترفض الطائفية. ولكن «السياسة» الرديئة أدت إلى غمط حقوق هذه الشعوب وبلادها المضطربة، ووضعها في هذه المأساة. معهم كل الحق أن لا يكون لديهم «خلق»، أو رغبة، كي يحبوا...

***

لهذه الأنشودة تأثير بالغ في كل من يسمعها. شخصت واقع البلاد المضطربة، وخلقت لدى الكثير وعيا جيدا بما في المنطقة من اهتراء وعناء. وأظن أن هذا التأثير يفوق تأثير عشرات المقالات التي تحاول تقديم التشخيص الصحيح لأمراض المنطقة، وأبعاد ما بها من قلاقل. وربما يعود ذلك إلى كون غالبية الناس تفضل الفن، على القراءة الجادة.

كل هذا، يدفع للمطالبة بالمزيد من أمثال هذا العمل الفني، الذى تناول الشأن العام بالتحليل العفوي الجميل، والمؤثر والأكثر فعالية في تكوين الوعي السياسي المطلوب لخدمة قضايا الأمة. ولنتطلع أيضا لأغان توضح لنا طرق النجاة، وسبل الخلاص من مآسي المسببين العتيدين (الداخلي والخارجي) في هذه المنطقة البائسة.