كتاب ومقالات

ما بعد السينما

ومضة شعاع

إبراهيم إسماعيل كتبي

إلى جانب المباحثات السياسية والاتفاقيات الاقتصادية والعلمية والاستثمارية في جولة سمو ولي العهد الخارجية، كان للجوانب الثقافية والفنية مساحة واسعة من برنامج الزيارة أثمرت عن مشاريع فنية ضخمة ستضع بصماتها لانطلاقة غير عادية لهذين الجناحين بمفهومها الأوسع، ليحلّقان بالتفاعل الحضاري داخلياً وخارجياً، فالثقافة والفنون بفضائهما الواسع رافدان حيويان في التعبير عن الهوية والثقافة الإنسانية بشكل عام، باعتبارها قاسماً مشتركاً بين البشر دون إلغاء السمات الوطنية والهوية الخاصة بالأمم والشعوب، وفي هذا تأتي السينما والمسرح وساحة الفنون بشكل عام في صدارة التعبير عن الإبداع ومرآة لسمات المجتمع.

لنتذكر جيداً، كم من روايات وأعمال مسرحية شهيرة لأدباء من الشرق والغرب لا تزال أيقونات أدبية وفنية في تاريخ المسرح العالمي، وتم عرضها في العديد من الدول بلغات عدة، وكم من الأعمال السينمائية حتى المغرقة في المحلية نالت جوائز عالمية لأنها عبرت بصدق وإبداع أولاً عن واقع مجتمعها، وهذا يؤكد أهمية هذه الفنون في التعبير عن آمال وآلام الإنسانية، مهما تباين البشر في ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم، كما أن مشهد أو عدة مشاهد في مسرحية أو فيلم تؤثر في ملايين المشاهدين وتغني عن آلاف الكلمات والعبارات.

فالمسرح وهو أبو الفنون له رسالة تثقيفية، بل يسهم في التأريخ للشعوب ويوثق لمراحل تطورها الثقافي، ومن الأعمال السينمائية ما يشاهدها عشرات الملايين داخل بلادها وخارجها، وحتى في بلادنا من خلال الفيديو زمان والفضائيات والإنترنت اليوم، ومعظم هذه الملايين تعرفوا على تلك الدول المنتجة من خلال أعمالها بما لها وما عليها، والسينما في ذلك أكثر انتشاراً وسرعة في التأثير إيجاباً وسلباً، لكن المقياس هنا أن تكون صناعتها هادفة وإيجابية وتخدم فكرة الوعي إلى جانب الترفيه. فقطاع السينما بهذا الحجم المنتظر لا بد أن يعبر عن الواقع والتطلعات والنقد البناء الذي يصلح ولا يفسد في المجتمع ولا يقدم نماذج سلبية إلا لأجل كشفها ونقدها لنبذها ومكافحتها مجتمعياً، وبالتالي بث الوعي بمخاطر كثيرة كالفكر الضال والمخدرات والفساد والانحراف والجريمة.

على الصعيد الاقتصادي يمثل هذا القطاع مستقبلاً واعداً للاستثمار المتطور وستصب عوائده داخل بلادنا، وبالتالي توظيف أعداد كبيرة، وتمنح خبرات جديدة في كافة مجالاتها ذات الصلة بهذا العالم الواسع. وأكاديمياً نعرف أن للسينما والمسرح والفنون إجمالاً معاهد وأكاديميات متخصصة وعريقة في كثير من الدول؛ لذا نتفاءل باستثمارات أكاديمية والاستفادة من الخبرات العالمية في تأهيل أجيال من المبدعين السعوديين في تخصصات هذه الفنون، وتوفر الفضاء الواسع لأعمالهم للمشاركة في مهرجانات دولية عريقة في فرنسا وغيرها من أبواب واسعة وقدرات طموحة.

أؤكد مجدداً على أن القوة الناعمة رافد مهم لمفهوم القوة الشاملة لأي مجتمع، وهي الأقرب في التأثير والتثقيف وتعكس قضايا ومشكلات المجتمع وتسهم في علاجها بالنقد الهادف، فالفن والثقافة كما ذكرت، هما صوت ومرآة لمجتمعهما بل لقضايا البشرية، ووجود هذا العدد الكبير من دور السينما خلال سنوات قليلة مقبلة، ستثمر خبرات محلية متراكمة ومتفاعلة تقدم أعمالاً تعكس سماتنا وهويتنا والقواسم الإنسانية المشتركة. فإذا كان الجانب الترفيهي والاقتصادي أمرا أساسيا في مرحلة ما بعد دخول السينما، إلا أن الأهم أيضا هو الأثر طويل المدى من خلال هذه القوة الناعمة في تشكيل الوعي والإصلاح الهادف، فلطالما كان الثمن باهظا لغياب هذه الفنون.

* كاتب سعودي