تركيا تحت المجهر
الأربعاء / 16 / شعبان / 1439 هـ الأربعاء 02 مايو 2018 02:18
غيداء هيتو
كان مشهد سيدات سوريات على قناة الجزيرة وهن يحضرن الطعام بفرح، في ما يشبه مساكن مؤقتة للاجئين في تركيا في شهر أيار عام 2011، مشهداً مثيراً للحيرة في وقته. بعد إجراء المقابلة مع سيدات كررن بإسهاب غريب عبارة «نحنا مبسوطين كتير هون»، جالت كاميرا قناة الجزيرة على الأراضي المتاخمة، الواقعة في أقصى الجنوب الغربي من الأراضي التركية والتي امتلأت بآلاف الخيم الجاهزة والفارغة. صدق مذيع الجزيرة حينها عندما أدار وجهه للكاميرا وقال «ستمتلئ هذه المخيمات قريباً». المثير للحيرة أن لكنة ولباس السيدات لم يكن يماثل اللكنة والزي التقليدي السوري المعتاد في القرى المتاخمة للحدود السورية التركية، كما أن حادثة جسر الشغور الشهيرة والتي قتل خلالها 120 جندياً وشرطياً سورياً حصلت في حزيران عام 2011. وهي الحادثة التي تم على إثرها حصار المدينة وقصفها، ومن ثم بدء لجوء العائلات والهاربين من الأهوال بوتيرة أسرع إلى الأراضي التركية.
لا يمكن إنكار استيعاب واحتضان تركيا لثلاثة ملايين لاجئ سوري منذ بدء الأزمة، كما أن فداحة الكارثة الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في سورية على مدى 7 سنوات لا تحتاج لإعادة توصيف. بما أن تركيا لم تختر أن تدير وتستوعب تبعات الحرب في سورية فقط، بل جندت جهودها لتدريب ودعم المجموعات المقاتلة والقيام بعمليات عسكرية، فإن الاستفسار عن نمطية التدخل للدولة التركية والمبرر الأخلاقي الممهد الذي ترتكز عليه تركيا هو من ضمن الأسئلة المشروعة. كيف بررت تركيا دورها الفاعل في الجهود الرامية لإسقاط النظام في دولة جارة؟ هل من مصلحة الدول العربية تفنيد أو التعامل مع سابقة التدخل السياسي والعسكري التركي في المنطقة العربية بحيادية؟
اهتمام تركيا بالمنطقة العربية لم يبدأ في عام 2011 أثناء اندلاع ما يسمى بـ«الثورات العربية»، بل كانت نخب تركية تؤدلج منذ نهاية التسعينات لضرورة التعامل والتعاون مع المحيط العربي لكونه يمثل الامتداد الطبيعي للنفوذ التركي من وجهة نظرهم. وزير خارجية تركيا السابق محمد داوود أوغلو في كتابه «العمق الإستراتيجي» المنشور في عام 2001، بادر بتوصيف الحيز الجغرافي الجنوبي لتركيا بأنه عمقها الأيديولوجي وأنه سيكون مصدر قوة لتركيا سياسياً واقتصادياً. لم ير وزير الخارجية السابق والرئيس أردوغان حرجاً في مقابلات لاحقة من انتقاد التعجرف الأوروبي في رفضه لانضمام تركيا على أنه نابع من منظور ديني عنصري بحت، حيث ألمحا أن ما يعيبه الأوروبيون هو بالذات مصدر قوة تركيا. وفعلاً بدأت تركيا فتح مجالات التواصل مع الدول الجارة الجنوبية اقتصادياً وثقافياً وسياحياً بين عامي 2002 و2010، بل امتد هذا التواصل إلى دول آسيا الوسطى ودول جنوب آسيا. كان توظيف القوة الناعمة التركية خلال هذه السنوات نابعاً حصراً من الإرث الإسلامي، الإثنية التركية والتاريخ المشترك مع دول المنطقة. ولكن التوظيف العملي لمبدأ العمق الإستراتيجي انحرف عن مساره بعد 2011، وبدأ ينتهج منهجاً قسرياً يتحين فرص عدم الاستقرار لتسويق النموذج الإسلامي المدعوم من تركيا.
الدعم التركي للمجموعات الإسلامية المسلحة في ليبيا بعد سقوط معمر القذافي، والتي كان من ضمنها أنصار الشريعة المتحالفة مع تنظيم القاعدة، كان بمثابة إعلان توجه لدولة قررت أن تجند إمكانياتها لتشكيل بنية الحكم لدول الجوار. مع تكرار التوجه والتفاعل التركي في كل من أزمة الحكم في مصر بين عامي 2011 و2013 الداعم لحكم الإخوان المسلمين، بالإضافة لتوفير الدعم للمجموعات المسلحة في سورية، فإن ثمة صورة نمطية بدأت تتشكل لماهية الأهداف السياسية التركية في الوطن العربي. عند مراجعة التصريحات الرسمية التركية التي تناولت الشأن الليبي أو المصري أو السوري بعد 2011 نجد أن التعابير المسوغة للتدخل تتراوح بين: دفع ظلم الطغاة الذي يحيق بالمستضعفين من أهل السنة، التمكين والدفاع عن وصول الإسلاميين للحكم، الدفاع عن الإرث التاريخي العثماني، الدفاع عن أعراض وممتلكات المسلمين. لا يخفى أن هذا النوع من التصريحات الشمولية تتميز بمرونة التماهي مع الأزمات الداخلية التي عصفت في السنوات السبع الماضية ببعض الدول، أو التي قد تعصف بدول عربية أخرى في المستقبل. كما لا يخفى أن الرئاسة في تركيا تعرض الزعامة التركية في منطقة الشرق الأوسط من منظور المخلص والمنقذ. آن الأوان لتسليط الضوء على سياسة تركيا تجاه الدول العربية لإعادتها داخل إطار الاحترام المتبادل والتعاون الندي. كما يجب رفض التلميحات الرسمية التركية عن ضرورة تأمين المقدسات الإسلامية في معرض تهييج الرأي العام حول مصير القدس، أو الإشارة إلى أن حكومات بعض الدول التي لا تروق لتركيا على أنها دمى لأمريكا. التجاوزات الخطرة للسياسة التركية في المنطقة والتي استغلت فترة عدم الاستقرار التي نتجت عن ما يسمى الربيع العربي، يجب التوقف عندها والعمل على إعادة العلاقة مع تركيا إلى مسارها الصحيح.
* رئيسة مركز دراسات المخاطر السياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
iStrategic1@
لا يمكن إنكار استيعاب واحتضان تركيا لثلاثة ملايين لاجئ سوري منذ بدء الأزمة، كما أن فداحة الكارثة الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في سورية على مدى 7 سنوات لا تحتاج لإعادة توصيف. بما أن تركيا لم تختر أن تدير وتستوعب تبعات الحرب في سورية فقط، بل جندت جهودها لتدريب ودعم المجموعات المقاتلة والقيام بعمليات عسكرية، فإن الاستفسار عن نمطية التدخل للدولة التركية والمبرر الأخلاقي الممهد الذي ترتكز عليه تركيا هو من ضمن الأسئلة المشروعة. كيف بررت تركيا دورها الفاعل في الجهود الرامية لإسقاط النظام في دولة جارة؟ هل من مصلحة الدول العربية تفنيد أو التعامل مع سابقة التدخل السياسي والعسكري التركي في المنطقة العربية بحيادية؟
اهتمام تركيا بالمنطقة العربية لم يبدأ في عام 2011 أثناء اندلاع ما يسمى بـ«الثورات العربية»، بل كانت نخب تركية تؤدلج منذ نهاية التسعينات لضرورة التعامل والتعاون مع المحيط العربي لكونه يمثل الامتداد الطبيعي للنفوذ التركي من وجهة نظرهم. وزير خارجية تركيا السابق محمد داوود أوغلو في كتابه «العمق الإستراتيجي» المنشور في عام 2001، بادر بتوصيف الحيز الجغرافي الجنوبي لتركيا بأنه عمقها الأيديولوجي وأنه سيكون مصدر قوة لتركيا سياسياً واقتصادياً. لم ير وزير الخارجية السابق والرئيس أردوغان حرجاً في مقابلات لاحقة من انتقاد التعجرف الأوروبي في رفضه لانضمام تركيا على أنه نابع من منظور ديني عنصري بحت، حيث ألمحا أن ما يعيبه الأوروبيون هو بالذات مصدر قوة تركيا. وفعلاً بدأت تركيا فتح مجالات التواصل مع الدول الجارة الجنوبية اقتصادياً وثقافياً وسياحياً بين عامي 2002 و2010، بل امتد هذا التواصل إلى دول آسيا الوسطى ودول جنوب آسيا. كان توظيف القوة الناعمة التركية خلال هذه السنوات نابعاً حصراً من الإرث الإسلامي، الإثنية التركية والتاريخ المشترك مع دول المنطقة. ولكن التوظيف العملي لمبدأ العمق الإستراتيجي انحرف عن مساره بعد 2011، وبدأ ينتهج منهجاً قسرياً يتحين فرص عدم الاستقرار لتسويق النموذج الإسلامي المدعوم من تركيا.
الدعم التركي للمجموعات الإسلامية المسلحة في ليبيا بعد سقوط معمر القذافي، والتي كان من ضمنها أنصار الشريعة المتحالفة مع تنظيم القاعدة، كان بمثابة إعلان توجه لدولة قررت أن تجند إمكانياتها لتشكيل بنية الحكم لدول الجوار. مع تكرار التوجه والتفاعل التركي في كل من أزمة الحكم في مصر بين عامي 2011 و2013 الداعم لحكم الإخوان المسلمين، بالإضافة لتوفير الدعم للمجموعات المسلحة في سورية، فإن ثمة صورة نمطية بدأت تتشكل لماهية الأهداف السياسية التركية في الوطن العربي. عند مراجعة التصريحات الرسمية التركية التي تناولت الشأن الليبي أو المصري أو السوري بعد 2011 نجد أن التعابير المسوغة للتدخل تتراوح بين: دفع ظلم الطغاة الذي يحيق بالمستضعفين من أهل السنة، التمكين والدفاع عن وصول الإسلاميين للحكم، الدفاع عن الإرث التاريخي العثماني، الدفاع عن أعراض وممتلكات المسلمين. لا يخفى أن هذا النوع من التصريحات الشمولية تتميز بمرونة التماهي مع الأزمات الداخلية التي عصفت في السنوات السبع الماضية ببعض الدول، أو التي قد تعصف بدول عربية أخرى في المستقبل. كما لا يخفى أن الرئاسة في تركيا تعرض الزعامة التركية في منطقة الشرق الأوسط من منظور المخلص والمنقذ. آن الأوان لتسليط الضوء على سياسة تركيا تجاه الدول العربية لإعادتها داخل إطار الاحترام المتبادل والتعاون الندي. كما يجب رفض التلميحات الرسمية التركية عن ضرورة تأمين المقدسات الإسلامية في معرض تهييج الرأي العام حول مصير القدس، أو الإشارة إلى أن حكومات بعض الدول التي لا تروق لتركيا على أنها دمى لأمريكا. التجاوزات الخطرة للسياسة التركية في المنطقة والتي استغلت فترة عدم الاستقرار التي نتجت عن ما يسمى الربيع العربي، يجب التوقف عندها والعمل على إعادة العلاقة مع تركيا إلى مسارها الصحيح.
* رئيسة مركز دراسات المخاطر السياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
iStrategic1@