كتاب ومقالات

# السعودية ــ أولا روح رؤية 2030 وحكمة المؤسس

بناء قدراتنا الوطنية وفي مقدمتها الإنسان

عبدالعزيز الوذناني

يبدو للمراقب أن هناك فجوة كبيرة بين رؤية٢٠٣٠ التي تمثل نظرة وطموح خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمين، والتي نعلق عليها جميعاً آمالنا وأحلامنا ونراها السبيل بعد الله عز وجل لنهضتنا ورفعتنا وتقدمنا، وبين بعض الإدارات الحكومية التي تشارك في تنفيذ بعض برامج الرؤية.

يبدو لي بأن هذه الفجوة تعود لعدم وجود إستراتيجية وطنية شاملة لبناء قدراتنا الوطنية تشارك في تنفيذها جميع القطاعات العامة. هذه الفجوة يجب تداركها وتصحيحها، فبناء قدراتنا الوطنية وفي مقدمتها «الإنسان» السعودي هي روح رؤية المملكة 2030 مثلما يراها ولاة الأمر يحفظهم الله. واستلهاماً لحكمة وحنكة الملك المؤسس في قصته مع شركة أرامكو وإدراكه ببعد نظره -طيب الله ثراه- بأن نهضة وتطور المملكة وتقدمها لمزاحمة الأمم على الصدارة مرهون بالاستثمار في أبناء هذه الأرض وإعطائهم الفرصة لاكتساب المعرفة والخبرة التراكمية الضرورية لإعداد سواعد تعمل وعقول تفكر وتخطط وتنفذ.

على الرغم من كثرة كتاباتي عن سوق العمل لم يسبق للوزارة أن تواصلت معي، ولكن على غير العادة في الأسبوع قبل الماضي وصلتني دعوة من أحد منسوبي إداراتها المعنية بسوق العمل وتوظيف السعوديين، على وجه الخصوص، لحضور ندوة عن سياسات سوق العمل. لا أخفي عليكم بأن عنوان الندوة أغراني لاستقطاع «سبع» ساعات من وقتي للحضور على أمل المساعدة والمشاركة في صياغة سياسات وطنية تجعل قطاعنا الخاص رافداً من روافد بناء الإنسان السعودي بعدما ظل عصياً على أبنائنا لعقود، ولكن تمنيت أني لم أحضر وتمنيت أن الدعوة التي «استبشرت» بها لم تصلني لكي أوفر على نفسي خيبة الأمل والحزن والغربة الداخلية التي شعرت بها ومازالت تنتابني إلى اليوم بسبب الفهم الخاطئ لأهداف رؤية ٢٠٣٠ من قبل بعض إداراتنا الحكومية.

عقود بملايين الريالات تُعطى لأسماء أجنبية رنانة والباحثون «متعاونون» في الكثير من الأحيان والرئيسيون منهم حديثو التخرج وقليلو الخبرة وربما لا يعرفون عن اقتصادنا وقضايانا المحلية حتى المسلّمات، ولهذا فإن معظم توصيات هذه المبادرات المليونية تظل حبيسة الأدراج لعدم ملاءمتها لبيئتنا المحلية، وهذا ربما يكون من نعم الله علينا ومن باب «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم»، إذ تطبيق بعض هذه الدراسات وتوصياتها ربما تكون عواقبها وخيمة.

أنا هنا لا أشكك في إمكانات وكفاءات الآخرين ولست ضد الاستعانة بالخبير الأجنبي أو المستشار الأجنبي، خصوصا إذا كانت هذه الخبرات لا تتوافر في كفاءاتنا الوطنية، ومن يعتقد بأنه يمكن أن يستغني بنفسه عن الآخرين فقد جانبه الصواب ولكن يجب أن يكون ٦٠٪ من فريق العمل على الأقل من أبنائنا لكي يكسبوا المعرفة ويتعلموا الصنعة «الخبرة التراكمية»، فالاستثمار في أبنائنا وتشجيعهم وإعطائهم الفرصه لاكتساب الخبرة والمعرفة التراكمية التي تأتي عن طريق التجربة العملية وصقلها بالعمل الدؤوب والتحسين المستمر. تجربة أرامكو

وهنا تحضرني تجربة نجاح سعودية خالصة ألا وهي تجربة «أرامكو»، شركة الطاقة الأكبر في العالم. عندما بدأت أرامكو كانت تُدار من قبل الأمريكيين من أعلى السلم الإداري في الشركة إلى مُشغل السنترال، واليوم ولله الحمد تتولى إدارة الشركة سواعد وعقول وطنية خالصة من رئيس مجلس الإدارة إلى أصغر مهندس في حقول البترول. كيف تمت هذه التجربة التي من الأحرى بنا استنساخها؟ نجاح هذه التجربة يعود بعدالله عز وجل إلى الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه-، الذي أدرك بحكمته وبعد نظره أن مستقبل هذه البلاد يعتمد بعد الله عز وجل على سواعد وعقول أبنائها.

للملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- قصة جديرة بالدراسة والتوقف عندها لاستخلاص الدروس واستلهام العبر من هذه التجربة، التي أنقلها لكم مثلما سمعتها من الدكتور وحيد الهندي أستاذ الإدارة العامة بجامعة الملك سعود. يقول الدكتور وحيد: في بدايات عمل شركة أرامكو والشركات المتحالفة لمد خط التابلاين طلب الأمريكيون من الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- السماح لهم باستقدام المزيد من الأمريكيين للعمل في المشروع لعدم توفر الخبرات الضرورية في المملكة آنذاك، وعندما شرحوا وجهة نظرهم للمؤسس وافق على طلبهم، ولكنه اشترط على الشركة أن يكون مقابل كل عامل أجنبي يتم استقدامه يكون هناك تدريب لعدد «عشرة» سعوديين.

على الرغم من بساطة وتواضع هذه القصة أمام تاريخ ومنجزات الملك المؤسس إلا أنها تحمل دلالات عظيمة على ما تمتع به الملك عبدالعزيز من حكمة وعبقرية وبعد نظر، ويجدر بنا استلهامها في هذه المرحلة بالذات. لقد أدرك الملك المؤسس بحكمته وبعد نظره بأن المملكة العربية السعودية لن تنهض وتتقدم وتزاحم الأمم على الصدارة إلا بسواعد وعقول أبنائها. وكذلك تتجلى حكمة المؤسس في التحديد الدقيق لعدد المتدربين «عشرة»، فلو كان الهدف عائما وغير محدد فربما كان بالإمكان التحايل عليه ولكن تحديد الأهداف بدقة هو جوهر ما يعرف اليوم بمؤشرات الأداء أو الـ (KPIs).

الملك المؤسس أدرك أهمية الاستثمار في بناء قدراتنا الوطنية، وفي مقدمتها الإنسان والقائمة الطويلة من القيادات الوطنية التي أنتجتها مدرسة أرامكو والمدارس التي استنسخت فكر وقيم وتجربة أرامكو، مثل شركة سابك وصندوق التنمية الصناعي والأجهزة والشركات الأخرى المماثلة والمؤسسات الحكومية الأخرى، التي بدأت تتبنى برامج طموحة لبناء كفاءاتنا الوطنية، مثل صندوق الاستثمارات العامة، هي تجسيد حي لرؤية وحنكة وبعد نظر الملك المؤسس -طيب الله ثراه-.

عدد كبير من هذه القيادات تولى دفة المسؤولية في كل من القطاع العام والخاص وساهم في دفع عجلة التنمية خلال الخمسة عقود الماضية. الدارس لتاريخ التنمية على مر العصور يدرك حكمة وحنكة الملك المؤسس، خصوصا في نقطتين جوهريتين؛ أولاً: تقدم الأمم وتطورها لا يأتي بين يوم وليلة، بل هو نتاج عقود من الاستثمار المخطط والمدروس في «الإنسان» وثانياً: المعرفة والخبرة التراكمية هما الأساس المتين الذي تبنى عليه الشعوب تقدمها وتطورها وصناعة تنميتها المستدامة، فالإنسان هو محور هذين العنصرين: «المعرفة والخبرة» التراكمية والإنسان هو الأساس في اكتساب المعرفة وكذلك هو الأساس في تكوين الخبرة البشرية التي تتراكم عبر الزمن، إذ يتعلم من خبراته السابقة ويطور مهاراته ومعارفه ويصقلها بتجربته العملية. فكلما زادت خبرته في أي مجال من المجالات يصبح أكثر مهارة واتقانا حتى يصل إلى مرتبة ما يسمى «بالخبراء» في مجالهم وصناعتهم. تشير التجارب والأبحاث العلمية أن الإنسان يحتاج إلى 10 آلاف ساعة من العمل الدؤوب والمركز لكي يصبح خبيراً في مجاله ونفس الشيء ممكن يُقال عن الشعوب.

لا يخفى على المراقب كثرة شركات الاستشارات العالمية بأطقمها الأجنبية التي تجوب وزاراتنا ومصالحنا الحكومية بشكل يومي والبعض من هذه الأطقم يُقال بأنها تعمل بصفة شبه دائمة داخل وزاراتنا وعندما نقترح على أحد مسؤولينا اشتراط مشاركة الكفاءات الوطنية في العقود المليونية مع هذه الشركات يُقال لنا «عندي مؤشرات وأهداف محددة ويجب علي إنجازها ولا يهمني من ينفذ سعودي ولا أجنبي»، وهنا من وجهة نظري مكمن الخطر على الرؤية فبعض وزاراتنا ومسؤولينا شتتوا طاقاتهم وأهدروا مواردهم وأشغلوا أنفسهم عن حسن نية بتحقيق أهداف ومؤشرات جانبية ونسوا الهدف الأساسي والأسمى الذي من أجله أتت الرؤية في المقام الأول، ألا وهو بناء قدراتنا الوطنية وفي مقدمتها «الإنسان السعودي». هيئة الاستثمار

للتوضيح أكثر للقارئ الكريم، فلنأخذ الهيئة العامة للاستثمارالأجنبي كمثال بحكم أنها معروفة للجميع. الهدف الأساسي لهيئة الاستثمار هو استقطاب الاستثمارات الأجنبية التي تحقق شرطين رئيسيين هما: تدريب وتوظيف السعوديين ونقل التقنية. هذان الهدفان هما البوصلة الذي يجب أن تحدد اتجاه عمل الهيئة وتستخدم لتقييم أدائها ومؤشرات قياس الأداء الخاصة بالهيئة يجب أن تكون مبنية على هذين الهدفين. في المقابل لنفرض أنه مع مرور الزمن وضع الإخوة في الهيئة عددا من مؤشرات الأداء (KPIs) للمساعدة في قياس أداء الهيئة في تحقيق أهدافها وكان من ضمن هذه المؤشرات عدد رخص الاستثمار الأجنبي المصدرة سنوياً من الهيئة بدون ربط هذه الرخص بهدفي الهيئة الرئيسيين وهما: تدريب وتوظيف السعوديين ونقل التقنية. في هذه الحالة نقدر أن نقول بأن الهيئة فقدت بوصلتها وركزت طاقتها ومواردها على قياس أهداف فرعية وظلت طريق هدفيها الرئيسيين، ألا وهما تدريب وتوظيف السعوديين ونقل التقنية. 4 مبادئ للإستراتيجية

ربما من الأفضل تبني إستراتيجية وطنية شاملة للاستثمار في بناء قدراتنا الوطنية، وعلى رأسها الإنسان وأن تكون هذه الإستراتيجية ركيزة من الركائز الأساسية لسياسات الدولة العامة بحيث يلتزم القطاع العام بجميع مكوناته بتنفيذها ويكون مسؤولاً عن تحقيق أهدافها أمام الملك وولي عهد يحفظهما الله.هذه الإستراتيجية يجب أن ترتكز على المبادئ الأربعة التالية:

المبدأ الأول

تنمية قدراتنا الوطنية، وفي مقدمتها الإنسان السعودي هو روح رؤية 2030 وقلبها النابض والضمان لنجاحها واستمراريتها بعد الله عز وجل. وهنا يجب علينا استلهام قصة الملك المؤسس مع شركة أرامكو وإدراكه بأن نهضة المملكة العربية السعودية وتطورها مرهون بالاستثمار في أبناء هذه الأرض الطاهرة وأنها لن تستطيع مزاحمة أمم الأرض على الصدارة إلا بسواعد وعقول أبنائها.

المبدأ الثاني

لا بأس من الاستعانة بالخبرات الأجنيبة وخاصة عندما تكون هذه الخبرات غير متوافرة في كفاءاتنا الوطنية، ولكن شريطة أن يكون 60% من فريق العمل من السعوديين على أقل تقدير لكي يكتسبوا المعرفة والخبرة التراكمية الضرورية لبناء رأس مالنا البشري. يجب أن يكون هناك شروط ومؤشرات محددة ورقابة فاعلة لضمان نقل المعرفة والخبرة اللازمة لكفاءتنا الوطنية. كذلك يجب أن يكون هناك معايير معينة تضمن بأن يكون أبناؤنا شركاء حقيقيين في أي مشروع تنموي تدفع عليه الدولة -أعزها الله- ملايين الريالات لشركات الاستشارات الأجنبية وليس مجرد ديكور لإعطاء هذه المشاريع لمسة محلية، عبارة عن إضافة ثلاثة أو أربعة من حديثي التخرج أوموظفي الصف الأخير من أجل «الغترة والعقال والعباءة والطرحة»، بينما القيادة والتفكير والتخطيط والأمر والنهي بيد الفريق الأجنبي. يفترض في مسؤولينا أن يكونوا أكثر فطنة وأن لا تنطلي عليهم هذه الإضافات الصورية.

المبدأ الثالث

ربط دعم المال العام لمشاريع القطاع الخاص بشعار«استثمر في السعودي أستثمر فيك». اليوم وبعد عقود من الدعم السخي لقطاعنا الخاص الذي يصل إلى أكثر من 800 مليار ريال من الصناديق الحكومية المختلفة، وفي مقدمتها صندوق التنمية الصناعي نسبة التوطين في القطاع الخاص لا تتجاوز 17% حسب الإحصاءات الرسمية ونحو 45% من السعوديين العاملين في القطاع الخاص لا تتجاوز مرتباتهم 3 آلاف ريال، مما يوحي بأنه هذه الوظائف خليط بين التوطين الوهمي وتوظيف إعانات صندوق الموارد. من هذا يمكن الاستنتاج بأن التوطين الحقيقي في القطاع الخاص قد لا تتجاوز 12% وإذا تم استبعاد الشركات الكبيرة التي أنشأتها الدولة، أو تمتلك فيها حصصا مُسيطرة، مثل شركة سابك والكهرباء والاتصالات والبنوك فقد لا تتجاوز نسبة التوطين الحقيقية في القطاع الخاص 6%. هذا يقودنا للسؤال التالي: أين ذهبت مليارات المال العام التي وجهت لدعم القطاع الخاص خلال العقود الماضية؟ من المستفيد الحقيقي من هذه المليارات التي كنا ندفعها عن حسن نية ونتوقع بأننا نستثمر في الاقتصاد السعودي؟ الحقيقة التي يجب أن نعترف بها جميعاً حتى لا نعيد تكرارها في المستقبل هي أن المستفيدين من دعم مليارات المال العام خلال هذه العقود، هما مجموعتان فقط لا ثالث لهما: التجار والعمالة الأجنبية. بمعنى آخر الاقتصاد الوطني لم يستفد شيئا يذكر. هذه المليارات كانت تنفق على أمل تنمية الاقتصاد السعودي، ولكن المليارات ذهبت والأمل لم يتحقق وهذه نتيجة طبيعة للسياسات غير المرتبطة بأهداف إستراتيجية محددة يمكن قياسها وتصحيحها إذا لزم الأمر.

المبدأ الرابع

هذه الإستراتيجية يحب أن تُربط بنظام المنافسات والعقود والمشتريات الحكومية. فمثلاً يجب أن لا يقبل دخول أي شركة في المنافسات على المشاريع والمشتريات الحكومية ما لم تتجاوز نسبة التوطين فيها 60% من الوظائف المستهدفة بالتوطين. هنا أقصد جميع الوظائف التي يرغب السعوديون فيها ومؤهلون للقيام بها وهي الغالبية الساحقة من الوظائف الوسطى، وكذلك الوظائف القيادية والإشرافية. ليس هذا فحسب، بل يجب أن تعطى الأفضلية في عقود المشاريع والمشتريات الحكومية على أساس نسبة السعودية. فالشركة التي نسبة السعودة فيها تتجاو90% تكون أفضل حظاً في الفوز بالعقود من الشركة التي لا تتجاوز نسبة السعودة فيها 80% على سبيل المثال.

في الختام اليوم لدينا رؤية ولدينا أمير لهذه الرؤية والدولة خصصت مليارات الريالات لتنفيذ برامج الرؤية وبرامج التحول الوطني 2020 وأتمنى على وزاراتنا وإداراتنا الحكومية إدراك أهمية هذه اللحظة التاريخية واستغلالها في بناء قدراتنا الوطنية وفي مقدمتها «الإنسان» السعودي فهو الأساس في نجاح الرؤية والضامن بعد الله عز وجل لاستمراريتها. هذا هو مربط الفرس وجوهر رؤية 2030، مثلما أراد لها ولاة الأمر حفظهم الله. كلي ثقة في الكفاءات الوطنية التي تشارك في تنفيذ برامج الرؤية المختلفة وأتمنى عليهم أن لا ينشغلوا بالأهداف الجانبية والمشاغل اليومية التي تبدو مُلحة ومهمة عن الهدف الأساسي والأسمى ألا وهو الاستثمار في بناء كفاءاتنا الوطنية، فهم ثروتنا التي لا تنضب ومستقبلنا الذي لا مستقبل لنا غيره، وهم قوّتنا التي نعول عليها -بعد الله عز وجل- في تطور وتقدم المملكة لتحتل مكانة الريادة التي تستحقها.

* أستاذ المحاسبة المشارك رئيس قسم المحاسبة بكلية إدارة الأعمال /‏ جامعة الفيصل بالرياض

wathnani@alfaisal.edu