كم كاتب حي تحت الأرض مدفون

وليد احمد فتيحي

كتبت الأسبوع الماضي مقالاً بعنوان "إلى كل صاحب قلم وقرائي الأعزاء"، ذكرت فيه سبب انقطاعي عن الكتابة لأشهر مضت، ووصفت فيه الحال الذي وصل إليه القلم في مجتمعاتنا، وعجزه عن تغيير الواقع المؤلم الذي نعيشه، وكيف انني لم أجد للقلم في مجتمعاتنا وللكلمة قوة التغيير التي رأيت وعايشت على مدى عقدين من الزمن وأنا في أمريكا، وكيف انني وصلت إلى قناعتي الخاصة أن مجتمعاتنا لن تتغير بالمواعظ والخطب والمقالات وإنما بالقدوات والأعمال التي تنطق بلغتها أصدق الكلمات ولتوصل للأفئدة أبلغ المعاني التي قد تعجز الكلمات المسموعة والمقروءة أن تبلغها. وكما قال الرافعي في مقال قرأته منذ أعوام طويلة ومازلت أردد ما قرأته "إن هذا الشرع لا يحيى إلا أن يختلط بلحم ودم ويمشي على الأرض". وقد فوجئت بالكم الهائل نوعًا وكمًا من رسائل القراء تعقيبًا على المقال من صفوة المجتمعات العربية والإسلامية فكرًا وعلمًا ومكانةً، وكأنما أصاب المقال موضع جرح قديم فقلَّب المواجع والآلام وبدأ الجرح القديم ينزف منه الدم ويَسيل. وقد اخترت بعض المقاطع من الرسائل، ولن اضع اسماءهم فإنني لم استأذن منهم وضاق بي الوقت لأفعل ذلك، وحذفت ما استطعت، من كلمات الثناء على المقال دون إخلالٍ بالمعنى حرصًا على وقت القارئ والتزامًا بالموضوعية وخشية الوقوع في براثن وشراك حظوظ النفس.
(عزيزي الدكتور وليد فتيحي.. أعانه ربي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. قرأت مقالكم اليوم، الموجه لأصحاب الأقلام والقراء والمتابعين، فراودني شعور.. بأنه ربما هو أصدق كلام تكتبه.. أحس كأنه كلام صادر من وسط القلب.. محملا بحسرة طالما أحسست أنا بها.. وطالما بلعت الكلمات ومزقت الورق وكسرت الأقلام لوجود ذلك الإحساس المؤلم، الإحساس بأن الأذن ضرب عليها.. والأعين مغمضة.. والأفواه مكممة.. فلا أحد يرى أو يسمع أو يقول كلمة حق أو يرغب في الإصلاح.. فالتملق والنفاق والكذب هو القاعدة وماعدا ذلك هو الشاذ.
نعم أحسست بصدقك مع ذاتك.. ومع القراء.. وأظن قبل ذلك مع ربك العالم بكل خافيه، وأعرف تمامًا وأعيش ما تحس به من ألم وحسرة.. وأحسب أن كل مخلص لربه ثم أمته ووطنه يحس بها.. حسرة وغصة وألمًا.. نقف أمامه مكتوفي الأيدي.. نتألم ونتمزق من الداخل لما نرى وما نعايش وما نسمع.. ونحن نرى الأمة والبلد والمجتمع والفرد يطحن أو يطحنون جميعًا ويمزقون.. ليس فقط في المظهر ولكن في القيمة وفي الذات وفي الكينونة.. في الجوهر.. في النواه.
والسبب هو هذه الأنا التي تحكم تصرفات الكل.. وهذا الفكر المادي المسيطر على كل شيء في سلوكياتنا وتصرفاتنا.. تلاشت الرحمة.. وتلاشى التلاحم.. وتلاشت الروحانية والزهد، فالكل يسعى لاستغلال الفرصة المتاحة وغير المتاحة للنهب وللذة المادية الحسية. نعم لقد لمست اليوم بكلامك يا سيدي وترًا أوجعني طول عمري.. وهو حبي لهذا المجتمع الذي أراه يتفكك قيميًا وأخلاقيًا.. والقادم أسوأ.. ليس بأيدي غيرنا ولكن بأيدينا نحن من يدمر ذواتنا بذاتنا.. مع وجود المؤامرة من الخارج التي لا ننكرها.. ولكن أيضًا نحن بأيدينا من فتح الباب لهذه المؤامرة ولهذا الخارج ليدمرنا في العمق بأيدينا نحن.
حقًا يا سيدي.. إن الواحد منا يقف محتارًا لما يرى وما يعايش.. آسف لإزعاجكم بكلامي الطويل.. ولكن هو أقل من تنهيدة أو زفرة لأخ أكن له التقدير مع أني لا أعرفه ولا يعرفني.
دم على إخلاصك يا سيدي وحبك لدينك ولبلدك وللمواطن الغلبان وقدم ما استطعت له بلا انتظار لشكر.. فربك أكرم.. وهو يرى ولا تخفى عليه خافيه..) انتهى.
ورسالة أخرى يقول كاتبها (لقد أسعدتني وأزعجتني اليوم بمقالك الهادف في جريدة عكاظ، أسعدتني بواقعيتك في الطرح بالأفكار التي تغني عن آلاف المقالات والواقعية والتي أنا من أشد المتحمسين لها هي مع الأسف ما نفتقده في وطننا الغالي والتي تبين مدى انتماء الانسان لوطنه وأنا مؤمن بأنك من يتنفس الانتماء، وأزعجني ما لمسته من ترددك بالكتابة ومناقشة أحوال الوطن والمواطن بإخلاص وواقعية حتى لو مر عليك عشرون سنة في الكتابة إلا ان عقيدتك ووطنيتك وأمانة الوطن في أعناقنا جميعًا تفرض عليك الاستمرار بدون خشية لومة لائم فنحن في حاجة لاستمرارك ومن يماثلك بالرأي فالوطن يمر بفترة عصيبة كمثل سفينة تواجهه أمواج عاتية يبذل كل راكب جهده للوصول بهذه السفينة إلى بر الأمان فاصدع يا أخي بفكرك ورأيك والله معك ولن يترك عملك) انتهى. لم أكن أُدرك قبل أن تخط يدي كلمات مقالي الأخير مدى الآلام والأوجاع التي يعاني منها أصحاب الأقلام الهادفة المتجردة في مجتمعاتنا. هذا حالنا وعزاؤنا هو اننا نُسأل عن النية والعمل لا النتائج وإحداث التغيير، ولنا في أنبياء الله القدوة كلهم أخذوا بأسباب الدعوة والإصلاح ولكن النتائج هي بيد الله وحده لا شريك له فيها، وصدق الله العظيم "ان عليك إلا البلاغ". فمنهم من دعا قومه أكثر من تسعمئة عام فما آمن من قومه إلا قليل.. عليك سلام الله يا نبي الله نوح، ومنهم من انقطع عن الدعوة والأخذ بالأسباب وقَنِط من قومه وغضب عليهم فتركهم وبالرغم من ذلك آمن كل قومه.. عليك سلام الله يا نبي الله يونس.. لله الأمر من قبل ومن بعد. نعم.. بالقدوات لا بالمواعظ والكلمات والمقالات تَسري في جسد المجتمعات أرواحها فتحيا وتُحيي بها وتعمر الأرض. وما جاء الأنبياء إلا لهذا يقول الرافعي في مقال بعنوان "الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام" (ويجيء النبي فتجيء الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني، لتكون أقوى أثرًا، وأيسر فهمًا، وأبدع تمثيلًا، وليس عليها خلاف من الحِسّ. وهذا هو الأسلوب الذي يجعل إنسانًا واحدًا فَنَّ الناس جميعًا، كما تكون البلاغة فنَّ لغة بأكملها، هو الشخص المفسِّر إذا تعسَّف الناس الحياة لا يدرون أين يؤمون منها، ولا كيف يتهدَّون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا، ثم يُخْلَقُ رجل واحد ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي، فتظهر به حقائق الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي، أبلغ مما تظهر في قصةٍ متكلمة مروية. وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفس النبي أبلغ نفوس قومه، حتى لَهُوَ في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها، كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي يُنْصَبُ لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تُنادي الناس: أن أَقبلوا على هذا الأصيل وصحّّحوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية) انتهى.
انقضت عصور الأنبياء وأُكْمِلت رسالتهم بخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما بقي على الأرض إلا العلماء ورثة الأنبياء وأمة محمد تحمل هذا الإرث الثقيل والأمانة العظيمة التي أبت الأرض والجبال أن تحملها وحملها الإنسان.. إنه كان ظلوما جهولا.
* طبيب استشاري، ورئيس مجلس إدارة المركز الطبي الدولي
فاكس: 6509659 - kazreaders@imc.med.sa