كتاب ومقالات

عن «شرق العجائب الأوسط»

صدقة يحيى فاضل

تلعب مسميات المحيطات والبحار والأنهار والمناطق، وما إلى ذلك، دورا مؤثرا في العلاقات الدولية المعاصرة. وكثيرا ما تنشب خلافات وصراعات على بعض مسميات هذه الأمور والظواهر الجغرافية، ومن الأمثلة على ذلك: إصرار إسرائيل على محو كلمة فلسطين من القاموس الجغرافي – السياسي، وإصرارها على تسمية الضفة الغربية بـ«يهودا والسامرة». كذلك إصرار إيران على تسمية الخليج «العربي» بـ«الخليج الفارسي»، وإقليم الأهواز بـ«خوزستان»، وقس على ذلك. فهنا يصر البعض على أن التسمية تعني التبعية...؟! ودرءا للخلافات، كثيرا ما اتفق على تسمية هذه الظواهر ببعض ما اشتهرت به، لا بما يريد البعض أن يسميها به.

وقد ظهر مصطلح «الشرق الأوسط» (Middle East) عندما أطلقه الضابط البحري الأمريكي «ألفريد ماهان» عام 1902م، على المنطقة العربية. وقصد به – كما يقال: «إعادة صياغة للوطن العربي، تفقده وحدته السياسية والبشرية، من خلال إدخال بعض دول الجوار الجغرافي في قلب هذا المصطلح». أما المعنى السياسي (الدبلوماسي الغربي) لهذا المصطلح فيهدف إلى: طمس الهوية العربية للمنطقة، وبخاصة عروبة فلسطين، وربط الدول العربية بالإستراتيجية الغربية، وخلق «هوية» جديدة ومفتعلة للمنطقة، هي الـ«شرق أوسطية»، وهي الهوية التي تريدها إسرائيل وأنصارها لشعوب المنطقة.

وعندما ننظر إلى هذا المصطلح بالذات من الزاوية السياسية – التاريخية، نجد أنه هو، في حد ذاته، مصطلح مغرض، ابتدعه المستعمرون الأوروبيون الذين ما زالوا يعتبرون أوروبا هي «مركز الكون»... وعلى هذا الأساس قسموا «مناطق» العالم. فالجزء من العالم العربي القريب من أوروبا (المغرب العربي) أسموه «الشرق الأدنى» (Near East)... وأسموا المشرق العربي بـ«الشرق الأوسط»، بينما سموا شرق آسيا بـ«الشرق الأقصى» (Far East).

***

ولعل من أبسط صور المقاومة العربية والإسلامية للاستعمار ومصطلحاته، هي: أن ترفض الأمة العربية هذه المفاهيم، ولا ترددها وسائل إعلامها المختلفة، وكأنها من المسلمات الجغرافية – السياسية، كما يحصل الآن. حيث بإمكان العرب أن يطلقوا مسمى «المشرق العربي»، على الجزء من العالم العربي الواقع في آسيا... و«المغرب العربي الكبير» على كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. بينما يطلق مسمى «الوسط العربي» على كل من مصر والسودان، أو أي مصطلحات أخرى مشابهة.

وليس هناك من مبرر قوي بأن يستمر معظم الإعلام العربي، الرسمي والشعبي، في استخدام مصطلح «الشرق الأوسط» بخاصة، للدلالة على المشرق العربي ومصر وتركيا وإيران – كما اصطلح الغرب أن يسمي هذا الجزء من العالم. وبالنسبة للعالم الإسلامي، بالإمكان تقسيمه إلى: العالم الإسلامي الآسيوي، والعالم الإسلامي الإفريقي، والعالم الإسلامي خارج آسيا وأفريقيا، أو ما شابه ذلك.

بل يمكن للعرب أن يعتبروا مكة المكرمة هي «مركز الأرض»... ويقسموا العالم على هذا الأساس. فيصبح «الغرب» – بالنسبة لهم – مقسماً إلى: الغرب الأدنى، والغرب الأوسط، والغرب الأقصى... وهكذا. المهم أن لا تؤدي بعض المصطلحات إلى فرض وقائع سياسية – جغرافية مناهضة لمصالح الأمة، وهويتها... فالمسميات قد يترتب عليها ما لا تحمد عقباه، وان بعد حين. وفي أسوأ الأحوال، يمكن استخدام المصطلحات الدولية الحالية بما اشتهرت به من مسميات، على أن ندرك دائما ما ترمي إليه من أهداف سلبية ومعادية خفية ومبيتة، ونرفضها.

***

ومن كثرة ما في هذه المنطقة من أعاجيب سياسية، يطلق البعض عليها أحيانا «شرق العجائب الأوسط». وقد سمعت هذا الوصف من أحد أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين. فاعترضت في البدء على هذه التسمية. ثم أصبحت أتفق معها بقوة، بعد ما رأيته من أوضاع سياسية بالغة الغرابة والعجب بالمنطقة. ومن أبرز «عجائب» وغرائب هذه المنطقة هي: انتشار الحركات الإرهابية المسلحة في كثير من أجزائها وبلدانها. والمثال على ذلك هو: حركة «داعش»... وما يحيط بها من حيثيات، أقل ما يقال عنها أنها: من غرائب وعجائب هذا الزمن السياسية.

ولا جدال أن أول وأبرز عجيبة سياسية هي: إقامة «دولة» في قلب المنطقة لمهاجرين أتوا من شتى بقاع الأرض، وتشريد شعب البلد المغتصب، وقتل وجرح نسبة كبيرة من سكانه الأصليين، وتدمير منشآتهم، ومصادرة ممتلكاتهم، بحجج أوهى من خيوط العنكبوت، أهمها أن: بعض أجداد عدد من هؤلاء الغزاة عاشوا في هذه البلد قبل ألفي عام...؟! وتكتمل هذه العجيبة بعدم اعتبار إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل على مدار الساعة إرهابا... بينما تعتبر المقاومة الوطنية ضد القمع الإسرائيلي البشع إرهابا...!

ومن العجائب ظهور جماعات تستغل الدين للهيمنة على الآخرين، وتسخير مقدراتهم لرغباتها وشهواتها... مدعية أنها تمثل الدين الإسلامي، ومحاولة فرض مفهومها (المريض) لهذا الدين لاستعباد الآخرين. وباسم الدين ذاته ترتكب أبشع الجرائم، وأفظع الخروقات لكل حقوق الإنسان، الأساسية والمكملة. ولا يشك مراقب عاقل لحظة أن لقوى الغرب المتنفذ «دور» مباشر وغير مباشر، في خلق ودعم كثير من هذه العجائب. فمن أبرز حيل هذه القوى هي أنها أحيانا تخلق «عدوا» في وقت معين، لتحاربه في وقت «مناسب» آخر، بعد استخدامه لغرض محدد.

ومن العجائب أن تفرض بعض القوى الإقليمية والعالمية على بعض شعوب المنطقة أنظمة قمعية، تعمل ضد شعبها وأمتها، ولصالح هذه القوى. والنظام الأسدي السوري هو المثال الآن على هذه العجيبة. أما انتهاك حقوق الإنسان في بعض أرجاء هذه المنطقة، فإنه ممارسة يومية لبعض القوى. ولا يهب الغرب المتنفذ ضد هذه الانتهاكات إلا عندما تبدر من قوى وأطراف غير موالية له. وفي الوقت الذي بدأت تسود فيه المبادئ السياسية النبيلة معظم القارات الست، نجد أن أغلب بلاد هذه المنطقة لا تعرف هذه المبادئ، ناهيك أن تستفيد من تطبيقاتها.

***

كل هذه العجائب جعلت معظم المنطقة أكثر مناطق العالم سخونة واضطرابا وعدم استقرار. وانعكس ذلك بالسلب على وضعها الحضاري، والتنموي. إنه الاضطراب السياسي، أو «عدم الاستقرار السياسي» الظاهر والخفي، والذي يسود كثيرا من أنحاء هذه المنطقة، بسبب توفر «أسباب» نشوئه، ذاتيا وخارجيا. أصبح منظر بعض المدن وقد تحولت إلى خرائب، وأثرا بعد عين، تنتشر فيها الأطلال وجثث الضحايا ورائحة الموت، منظرا مألوفا. إضافة إلى صور الحروب والقتل والتدمير، وتفشي الأمراض والأوبئة والمعاناة الإنسانية القاسية، وهروب الناس كلاجئين إلى المجهول...إلخ

يحدث ذلك في منطقة لو توحد العنصر السائد فيها لشكل دولة عظمى... أو لو اتحد اتحادا منطقيا لأصبح له ثقل الدولة العظمى، لأن ما تملكه المنطقة من موارد بشرية ومادية، إن استغل بشكل صحيح، كفيل بجعلها واحدة من أهم الكتل الدولية في عالم اليوم. وعندما نفكر جادين في الخلاص، وإخراج هذه المنطقة من مأساتها المزمنة هذه، لا بد أن نتعامل مع الأسباب الداخلية والخارجية المترابطة، ونعالجها.