كتاب ومقالات

حبــــال

طارق فدعق

وجدت أن المسافة الرسمية لرحلتي الجوية بين جدة والرياض على الخريطة الجوية تساوي 456 «عقدة». ولو بحثت في معنى العقدة ستجد أنها تساوي 1.852 كيلومتر وسبب استخدامها في الملاحة هو دقتها في الحسابات لأنها تساوي 1/‏60 من الدرجة من درجات قياس الأرض البالغ عددها 360 درجة. ونجد أن جميع الخرائط تركز على قياس الزوايا نسبة إلى القطب الشمالي وخط الاستواء.. أي خطوط الطول والعرض. وأما أساس فكرة العقدة فهو عالم الحبال.

طبعا تعودنا أن نقرن أهمية الحبال بالأعمال الإنشائية والرفع والشد، وتوجد لها استخدامات أخرى كانت لا تقل أهمية عن فوائدها الإنشائية، فمنذ بدء التاريخ ونشأة الحضارات كان القياس من أهم تطبيقاتها العملية. وكان ربط وحل العقد المختلفة في الحبال هو أحد انعكاسات التطور الحضاري في العديد من المجالات. في الملاحة البحرية تم تطوير مهارات تكوين العقد لإدارة الأحمال الهائلة على السفن سواء كان لتثبيتها في المراسي، أو لإدارة أشرعتها ودفتها، وغيرها من الاستخدامات البحرية المهمة. وكانت أيضا تستخدم كمعيار لتثبيت وحدات القياس مثل القدم، والذراع، والياردة، والميل. واستخدمت الحبال والعقد أيضا لقياس السرعة. وهناك المزيد، فقد تطورت تقنيات صناعة الحبال، وتوسعت استخداماتها بشكل هائل على البر أيضا وخصوصا في عالم البناء. كانت من أساسيات التقنيات التاريخية الإبداعية في عالم المساحة، والهندسة المدنية، والعمارة، وتخطيط المدن: لقياس وتوثيق مساحات الأراضي.. ولتحديد مناطق الفيضانات والسيول.. ولتحديد مجاري الري والصرف في المناطق الزراعية.. ولتشييد المنشآت بأحجامها المختلفة.. وتنسيق الشوارع والمساحات المفتوحة.. كل هذا وأكثر كان يعتمد على مهارات استخدام الحبال، وإضافة العقد للقياس.

ومن الطرائف أن أهمية الموضوع وصلت لمرحلة منعت فيها بعض الحكومات القطاع الخاص من صناعة الحبال، فأصبحت صناعة الحبال من مهام الحكومات كصك النقود. وتحديدا ففي فينيقيا التي كانت عاصمة الملاحة العالمية في القرن السادس عشر، وفي إنجلترا عام 1664 أصبحت صناعة الحبال من المجالات المحتكرة من القطاع العام بتراخيص حكومية موثقة، وكانت مخالفة ذلك من الجرائم التي تعرض مرتكبيها للعقاب الشديد. ولا تزال الحبال والعقد تلعب أدوارا مهمة جدا في حياتنا دون أن نشعر بها وخصوصا في عالم الملاحة، وفي القوارب والزوارق والسفن.

أمنية

سبحان الله أن البعض لا يدرك أهمية الحبال، وجوانبها التاريخية التي غيرت تاريخ البشرية علما بأن فنون صناعتها واستخداماتها وتسمى Cordage هي من الانعكاسات الجوهرية لتقدم ورقي الحضارات. ومن المؤسف أنها استخدمت أيضا عبر التاريخ لتكبيل ملايين البشر. واليوم يتجسد المبدأ أن من لا يعرف قيمة الحبال قد «يتعنقل» فيها، بل وهناك حكومات بأكملها مثل قطر قد تشنق أنفسها بالحبال بدلا من أن تستثمر في خيرات بلادها. وهناك أيضا من يتفنن في عالم العقد ليحاول تعقيد حياة الناس بكل الطرق والوسائل. أتمنى أن نقدر ونحترم دور الحبال التاريخي، ومقدار نعمة منافعها بكرم الله عز وجل.

وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي