أبومدين.. رجل الحكاية والكدح والصدق والحداثة
الجمعة / 07 / ذو القعدة / 1439 هـ الجمعة 20 يوليو 2018 02:14
قراءة: د. عبدالله المدني *
كتب عنه الناقد السعودي عبدالله الغذامي في صحيفة الرياض (21/9/2013) فأكد على دوره الكبير في تفعيل الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية وتحويل العمل الثقافي إلى إنتاج فعلي. وقال عنه الناقد السعودي الدكتور سعيد السريحي: «كان يمتلك روحا وثابة تتجاوز البعد الثقافي، ورؤية استشرافية وقفت وراء رهانه على المستقبل الذي كان يدرك أنه منذور لحركة الحداثة، حتى وإن بدأ حاضرها متعثرا وبالغ خصومها في النيل منها» (المصدر السابق). وتطرق الناقد الدكتور حسن النعمي إلى تواضعه حينما قال: «قدمته على أنه راعي الحفل، فصعد المنبر وقال (لست راعيا ولا مرعيا، إنما أنا رجل من عرض الناس، أنا منكم وإليكم، وربما نصيبي من القياس إليكم من الثقافة أقل مما تتوقعون)» (المصدر السابق). ووصفه وائل أبو منصور في مقال عنه بجريدة الشرق الأوسط (7/6/2014) بـ«الطحسني» نسبة إلى الأديب الكبير طه حسين الذي قرأ له فتأثر به قبل أن يبدأ رحلة الكتابة. أما هو فقد قال بتواضع العلماء وناكري الذات في مستهل سيرته الذاتية في كتابه الشهير «حكاية الفتى مفتاح»: «إنني أؤكد من البداية أن حياتي ليس فيها شيء يستحق التسجيل والحديث، لأنها حياة أمثالي ممن عاش اليتم والجهل والفقر».
هذا هو الأديب والإعلامي والناقد السعودي الكبير «عبدالفتاح محمد أبومدين» الذي نتفق معه أنه عاش حياة اليتم والجهل والفقر والعذاب، لكن نختلف معه لجهة خلو حياته مما يستحق التسجيل. ذلك أن حياته حافلة بالإنجازات الأدبية الرفيعة ومرتبطة بالأنشطة الثقافية المتنوعة التي أغنت الساحة السعودية بالمطبوعات والدوريات والصحف المختلفة، وساهمت في خلق وعي حداثي المضمون، عصري التوجه لدى الجنسين ولاسيما في الحجاز، وبالتالي فهو من الرموز الكبيرة التي وقفت مبكرا في وجه الغلاة والمتشددين، و«أشعلت نار الحداثة التي أنضجت كل ما هو نيء»، بحسب تعبير زميله عبدالله الغذامي.
قلة هم من اطلعوا على سيرة الرجل التي تصلح لأن تكون عملا دراميا مشوقا بسبب منعطفاتها الحزينة وما واجه صاحبها منذ طفولته وصباه من مشاق وأحمال ثقيلة إلى أن ألقى برحاله مع والدته في الحجاز سنة 1942 من بعد رحلة طويلة حفت بها المخاطر، فنشأ وترعرع فيها حتى غدا علما من أعلام الفكر في السعودية.
ولد عبدالفتاح أبومدين عام 1344هـ المصادف لعام 1925 في مدينة بنغازي لأبوين ليبيين فقيرين. وبسبب عدم وجود مدارس عربية في ليبيا وقتذاك، أي في عهد الاستعمار الإيطالي، فإنه اكتفى بتعلم القرآن الكريم في الكتاتيب التقليدية بمسقط رأسه، ورفض بتحريض من والديه الالتحاق بالمدارس الإيطالية خشية تجنيده للمحاربة مع الجيش الإيطالي.
وتشاء الأقدار أن يتوفى والده وهو في سن الـ12 دون أن يترك وراءه شيئا يقتات هو وأمه عليه، الأمر الذي اضطر معه أن يدخل سوق العمل مبكرا. عن هذه المرحلة من حياته كتب وائل أبو منصور (مصدر سابق): «ذهب ليفتش عن عمل، فوجد عملا في البناء لكن عضلاته الواهنة لم تساعده على الاستمرار، تركه وعمل في مقهى، ثم في فرن، يجلب النشارة من المناجر، والدقيق من (صوامع) الدقيق، يحمل في سن يفاعة كيس دقيق يزن 80 كيلا».
من بنغازي للمدينة
المنعطف الأهم في حياة أبومدين ــ طبقا لما ذكره بنفسه خلال تكريمه في «إثنينية عبدالمقصود خوجة» سنة 1984 ــ كان في عام 1942، حينما تمكن خاله من الوصول إلى السفير البريطاني في جدة كي يتوسط، لدى الإدارة البريطانية التي كانت تحكم ليبيا بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، من أجل تسهيل سفره مع والدته بحرا إلى الحجاز.
وبمجرد وصوله إلى الحجاز واستقراره مع خاله في المدينة المنورة، عزم على مواصلة دراسته فالتحق هناك بأشهر مؤسسة تعليمية آنذاك وهي «دار العلوم الشرعية» التي كان قد أسسها «أحمد الفيض آبادي» في أواخر الحقبة الهاشمية وبداية الحقبة السعودية، وخرّجت جيلا من كبار علماء وأدباء الحجاز، كما حرص على حضور حلقات الدرس التي كان يقيمها الشيخ محمد الحافظ موسى في رحاب المسجد النبوي أو في منزله بمنطقة عروة.
بدايات صعبة
تخرج أبومدين في مدرسة العلوم الشرعية بعد عام ونصف العام تقريبا من الدراسة، ورغب في مواصلة دراسته، غير أن الأقدار تدخلت مرة أخرى لتحرم الرجل من فرصة إتمام تعليمه. فخاله الذي كان يعوله أحيل إلى التقاعد وصار من ذوي الأحوال المادية الصعبة، وهو ما جعل أبومدين يصرف النظر عن إكمال تعليمه، ويعود إلى سوق العمل، موظفا في قيد الأوراق الصادرة بدائرة الجمارك ابتداء من 22 أغسطس 1947.
وهكذا نجد أن بدايات الرجل اتسمت بحياة قاسية وظروف شاقة ودهاليز من الأنين والآلام، لكن تلك القسوة هي التي خلقت لديه إرادة حديدية للصبر والعمل الحثيث من أجل بلوغ أهدافه وطموحاته، وهي التي زادته نبلا وتواضعا وأعطته قلبا ناصعا وفيا.
في عام 1951، ومن بعد قراءته لطه حسين وتأثره بأعماله وأسلوبه السردي السهل الجميل على نحو ما جسده في كتب «الأيام»، و«دعاء الكروان»، و«حديث الأربعاء»، يقرر أبومدين دخول عالم الكتابة، هو الذي رُوي عنه قوله إنه كان في مدرسته ضعيفا في مادة الإنشاء، لكنه أصر أن يصلح الخلل عبر القراءة المكثفة والاطلاع.
صحافة و«أضواء»
ارتبط اسم أبومدين، وهو لايزال موظفا في الجمارك، بالصحافة. فقد تعاون مع الشابين محمد سعيد باعشن ومحمد أمين يحيى في إطلاق صحيفة «الأضواء» الأسبوعية بتاريخ 4 يونيو 1957. وقد تولى باعشن رئاسة تحرير هذه الصحيفة، التي عـُدت الصحيفة السعودية الأولى الصادرة من جدة في العهد السعودي وثانية صحف الحجاز بعد صحيفة «بريد الحجاز»، فيما شارك أبومدين بالملكية والكتابة وإدارة التحرير، إضافة إلى رئاسة تحرير سلسلة «كتاب الأضواء» الشهرية التي صدرت منها 6 كتب.
والمعروف أن الصحيفة المذكورة رغم صدور 90 عددا منها على مدى 20 شهرا، تعرضت للكثير من الإشكالات بسبب حماس واندفاع كتابها ومحرريها من ناحية، وشراسة صاحبها باعشن من ناحية أخرى في توجيه الانتقادات لشركة أرامكو النفطية، تارة بحجة التمييز ضد موظفيها السعوديين في الأجور والإجازات والخدمات السكنية والترفيهية، وتارة أخرى بحجة ضعف تبرعاتها الداخلية، وتارة ثالثة بحجة تخلف خدماتها الطبية، وتارة رابعة بحجة سوء نظام ترسية أعمالها على المقاولين، وتارة خامسة بحجة أن سياسات ابتعاث موظفيها هزيلة، وهكذا. ويخال لي أن الصحيفة عمدت إلى ذلك من أجل كسب شعبية وجماهيرية في زمن كان المد القومي ومعاداة الغرب فيه قد بلغ ذروته.
يخبرنا محمود عبدالغني صباغ في مدونته عن حملة «الأضواء» ضد أرامكو قائلا: «صدرت أوامر بسحب رخصة الأضواء بذريعة نشر تحقيق «سالم شاري نفسه» (تحقيق عن قصة من القصص المحلية حول تحرير الرقيق)، لكن أصحاب الجريدة أكدوا في غير مرة أن حملتهم ضد أرامكو هي من تسبب أو لعب دورا رئيسيا على الأقل في اتخاذ القرار»، وأضاف أن المفارقة تكمن في أن الصحيفة دشنت حملتها ضد أرامكو في أغسطس 1958 فيما كانت تواصل نشر إعلانات الشركة عن وظائفها الشاغرة وإنجازاتها.
إطفاء الأضواء
وبإيقاف «الأضواء» خرج باعشن من عالم الصحافة نهائيا، لكن شريكه أبومدين لم يستسلم، وقرر خوض تجربة صحفية جديدة أثمرت عن ظهور مجلة «الرائد» في عام 1959 بجدة والتي كان هو مالكها ورئيس تحريرها إلى حين توقفها عن الصدور في عام 1963 أي بـُعيد صدور نظام المؤسسات الصحفية بدلا من ملكية الأفراد للصحف. وقد روى أبومدين في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط (مصدر سابق) ظروف الحصول على ترخيص المجلة وكيفية إصدارها فقال: «أخذتُ أتابع الملك فيصل (يرحمه الله) حيثما يكون على حدود العراق في الصيد في فصل الربيع، أبعث إليه ببرقية رجاء أن يصدر أمره الكريم بمنحي إذنا بإصدار مجلة أدبية باسم (الرائد)، وتابعت ذلك حتى صدر الأمر، وأصدرتها في شكل مجلة على غرار مجلة (الرسالة)، التي كنت أحبها. في البداية أصدرت (الرائد) نصف شهرية لمدة سنة، وبعد ذلك فردتها على شكل تابلوه من غير غلاف، واستمررت أصدرها، ويعينني إخواني وأصدقائي مثل الكاتبين الأستاذ محمود عارف والدكتور محمد سعيد العوضي».
محطة «الرائد»
كما تحدث في الحوار نفسه عن قصته مع الدكتور عبدالله المناع أحد أوائل الذين ساهموا بالكتابة في «الرائد»، فقال ما مفاده أن الأخير كان يدرس في جامعة الإسكندرية ويبعث له بمقالات مزعجة بعنوان (على قمم الشقاء)، وهي عبارة عن قصة مسلسلة تدور حول حب وغرام الشباب، فكنت أسهر على الحلقة الواحدة ليلة كاملة، مثل الطبيب أستبعد كلمة وأضع كلمة، أحذف حرفا وأضع آخر، وفي ذات مرة وأنا في الجمارك وفي موسم الحج اتصل بي الشيخ عبدالملك بن إبراهيم (يرحمه الله) رئيس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحادثني 40 دقيقة، فقال: يا فلان، لقد جاءنا من نثق فيهم من الحجاز، وقالوا إن صحيفة (الرائد) هي بمثابة (روزاليوسف) الحجاز، وكانت (روزاليوسف) في ذلك الوقت غير مرغوب فيها، وطفق الشيخ يعلن، ويعاتبني بقوله: «هذا عمل لا يجوز».
وإذا كانت صحيفته «الأضواء» قد تميزت بمعاركها الصاخبة مع شركة أرامكو، فإن مجلته «الرائد» لم تخل من المعارك الأدبية العنيفة بين جيل الشباب وجيل الشيوخ، لكن أبومدين حرص على ألا تنفرط الأمور، مستفيدا من تجربة «الأضواء»، فعمل على المواءمة بين الطرفين ومنع تطاول أحدهما على الآخر، بحسب قوله.
البلاد بعد الرائد
لم ينته مشوار أبومدين في الصحافة باحتجاب «الرائد»، فقد تولى لمدة 7 سنوات رئاسة تحرير صحيفة البلاد (صوت الحجاز سابقا) التي صدرت لأول مرة في عام 1932، واستطاع بسياساته الحكيمة أن يُخرج هذا الكيان الصحفي العريق من المديونية إلى الربحية، كما رأس تحرير الملحق الأسبوعي لصحيفة عكاظ لبعض الوقت، فجعله ينافس العدد اليومي.
الرئيس الذهبي لـ«أدبي جدة».. أُقيل أسبوعا وأعيد ومن باب الشهرة الصحفية التي تحققت له، اقتحم أبومدين ميدان الأدب فتولى رئاسة «النادي الأدبي الثقافي» بجدة في الفترة ما بين 1980 ــ 2006، أي بعد شغور المنصب بوفاة الشاعر محمد حسن عواد. وهي فترة ذهبية في تاريخ النادي ليس لأنها ارتبطت بجهود الرجل وإسهاماته المتنوعة في إقامة المحاضرات والندوات والمؤتمرات، واستضافة عمالقة الأدب والفكر والنقد العرب من أمثال إحسان عباس وزكي نجيب محمود وعبدالوهاب البياتي وشكري عياد وعبدالسلام المسدي وفاروق شوشة وصلاح فضل وغيرهم، وإنما أيضا لأن تلك الفترة أحدثت ضجة ثقافية كبيرة وخلقت حراكا غير مسبوق، ومناخا تنويرا يليق بعروس البحر الأحمر وتاريخها بمشاركة ومساهمة الجنسين من شبابها ومثقفيها وأعلامها.
ومن إسهاماته أيضا في هذه الفترة تنويع منتجات وإصدارات النادي من مطبوعات ودوريات متخصصة مثل «جذور» الخاصة بنقد التراث العربي، و«نوافذ» الخاصة بالترجمة للأعمال الأدبية العالمية، و«علامات» الخاصة بالنقد الثقافي والأدبي، و«الراوي» الخاصة بالقصة، و«عبقر» الخاصة بالشعر، إضافة إلى تأسيسه لكيان «ملتقى النص» و«جماعة حوار».
لم يكن نجاح أبو مدين الثقافي راجعا فقط إلى شعاره «الثقافة مغارم وليست مغانم»، وإنما أيضا إلى ما بيّنه عبدالله الغذامي في صحيفة الرياض (مصدر سابق) حول طريقته في العمل القائمة على عمليات العصف الذهني التي يبدأها بسؤال ثم يترك الكرة بيد اللاعبين يتداولونها فكرة فكرة، وهو يراقب ويصغي ويتفحص، فإذا ما اصطاد الفكرة من ضمن خيارات عدة، بدأ التنفيذ معتمدا على عنصرين هما: الشجاعة والتخلي عن المخاوف البيروقراطية، والمضي قدما في التنفيذ بالاعتماد على جهده الشخصي دون الاتكال على الآخرين.
غير أن كل ما سبق لم يشفع للرجل لدى بعض الشباب المتشدد الكاره للتجديد والحداثة والانفتاح، فشنوا عليه حملة شعواء، خصوصا بعد أن أقام في النادي أمسية للشاعرات السعوديات، فصدر قرار من «الرئاسة العامة للشباب والرياضة» بإقالته من رئاسة النادي، لكن بعد مضي أسبوع واحد وصل خطاب من الجهة ذاتها يلغي الإقالة ويعيد أبومدين رئيسا للنادي.
«الطحسني».. المؤلف والصحافي والمفتون بالكلمات وما بين هذا وذلك، وجد أبومدين متسعا من الوقت لإمداد المكتبة السعودية والعربية بالعديد من المؤلفات التي اجتهد في وضعها وإصدارها بصورة تخدم القارئ وتزيده علما في ضروب الصحافة والأدب والتاريخ والنقد وكتابة المقال والسيرة الذاتية. من هذه المؤلفات: حكاية الفتى مفتاح (سيرة ذاتية)، أمواج وأثباج (في النقد الأدبي)، في معترك الحياة (مقالات في الأدب والحياة)، وتلك الأيام (تجربة المؤلف في الصحافة)، الصخر والأظافر (مقالات ودراسات نقدية)، حمزة شحاتة.. ظلمه عصره (قراءات تأملية في شعر الأديب حمزة شحاتة)، هؤلاء عرفتْ (أحاديث عن بعض من عرفهم المؤلف أو خالطهم)، الحياة بين الكلمات (أبحاث نقدية)، وعلامات (مقالات في الأدب)، الذين ضل سعيهم (نقد لمنكري السيرة النبوية)، من أحاديث الحياة (بحوث أدبية وقضايا اجتماعية وإصلاحية)، أيامي في النادي (تجربة المؤلف في قيادة نادي جدة الأدبي الثقافي).
ولئن كانت تلك مجموعة من مؤلفات كتبها أبومدين، فإن ما كُتب فيه عبارة عن كتاب تكريمي يتيم بعنوان «مسيرة عطاء الفتى مفتاح» اشتمل على التوقيعات التي كتبها مثقفون سعوديون عاصروه وعايشوا مسيرته، وذلك تعبيرا عن الامتنان لتجربته ودوره الريادي.
في منتصف يناير 1955 كان أبومدين على موعد للالتقاء لأول مرة بالرجل الذي تأثر به وكان مثله الأعلى في الكتابة وهو «طه حسين»، حيث جاء الأخير إلى جدة للمشاركة في اجتماعات اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية التي كان يترأسها آنذاك. يقول الكاتب عصام حمدان في جريدة «المدينة» السعودية (4/6/2010) إن أبومدين كتب مصورا مشهد وقوف طه حسين متحدثا في جدة فقال: «ويقف الرجل (أي طه حسين) في سمت الكبار، آخذًا في الحديث، بتلك العذوبة النادرة، كأنه نبعٌ زلالٌ قراحٌ يفيض سهلاً متدفقًا في تلك التموّجات التي تشبه السيمفونية المتميّزة في إيقاعها وتأثيرها على السامعين، لا لحنَ ولا توقفَ، ولا يُرتج عليه، تكلّم أربعين دقيقة متواصلة، وكان عمره يومئذٍ ستاً وستين سنة، وكأنه ابن الأربعين، أو ما حولها».
وفي مايو 2018 اختارته السعودية ليكون شخصية العام الأدبية لسنة 1439 للهجرة، فزاره وزير الإعلام في منزله ليؤكد له استعداد وزارته لإقامة حفل تكريم يليق بشخصه ومكانته.
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين
هذا هو الأديب والإعلامي والناقد السعودي الكبير «عبدالفتاح محمد أبومدين» الذي نتفق معه أنه عاش حياة اليتم والجهل والفقر والعذاب، لكن نختلف معه لجهة خلو حياته مما يستحق التسجيل. ذلك أن حياته حافلة بالإنجازات الأدبية الرفيعة ومرتبطة بالأنشطة الثقافية المتنوعة التي أغنت الساحة السعودية بالمطبوعات والدوريات والصحف المختلفة، وساهمت في خلق وعي حداثي المضمون، عصري التوجه لدى الجنسين ولاسيما في الحجاز، وبالتالي فهو من الرموز الكبيرة التي وقفت مبكرا في وجه الغلاة والمتشددين، و«أشعلت نار الحداثة التي أنضجت كل ما هو نيء»، بحسب تعبير زميله عبدالله الغذامي.
قلة هم من اطلعوا على سيرة الرجل التي تصلح لأن تكون عملا دراميا مشوقا بسبب منعطفاتها الحزينة وما واجه صاحبها منذ طفولته وصباه من مشاق وأحمال ثقيلة إلى أن ألقى برحاله مع والدته في الحجاز سنة 1942 من بعد رحلة طويلة حفت بها المخاطر، فنشأ وترعرع فيها حتى غدا علما من أعلام الفكر في السعودية.
ولد عبدالفتاح أبومدين عام 1344هـ المصادف لعام 1925 في مدينة بنغازي لأبوين ليبيين فقيرين. وبسبب عدم وجود مدارس عربية في ليبيا وقتذاك، أي في عهد الاستعمار الإيطالي، فإنه اكتفى بتعلم القرآن الكريم في الكتاتيب التقليدية بمسقط رأسه، ورفض بتحريض من والديه الالتحاق بالمدارس الإيطالية خشية تجنيده للمحاربة مع الجيش الإيطالي.
وتشاء الأقدار أن يتوفى والده وهو في سن الـ12 دون أن يترك وراءه شيئا يقتات هو وأمه عليه، الأمر الذي اضطر معه أن يدخل سوق العمل مبكرا. عن هذه المرحلة من حياته كتب وائل أبو منصور (مصدر سابق): «ذهب ليفتش عن عمل، فوجد عملا في البناء لكن عضلاته الواهنة لم تساعده على الاستمرار، تركه وعمل في مقهى، ثم في فرن، يجلب النشارة من المناجر، والدقيق من (صوامع) الدقيق، يحمل في سن يفاعة كيس دقيق يزن 80 كيلا».
من بنغازي للمدينة
المنعطف الأهم في حياة أبومدين ــ طبقا لما ذكره بنفسه خلال تكريمه في «إثنينية عبدالمقصود خوجة» سنة 1984 ــ كان في عام 1942، حينما تمكن خاله من الوصول إلى السفير البريطاني في جدة كي يتوسط، لدى الإدارة البريطانية التي كانت تحكم ليبيا بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، من أجل تسهيل سفره مع والدته بحرا إلى الحجاز.
وبمجرد وصوله إلى الحجاز واستقراره مع خاله في المدينة المنورة، عزم على مواصلة دراسته فالتحق هناك بأشهر مؤسسة تعليمية آنذاك وهي «دار العلوم الشرعية» التي كان قد أسسها «أحمد الفيض آبادي» في أواخر الحقبة الهاشمية وبداية الحقبة السعودية، وخرّجت جيلا من كبار علماء وأدباء الحجاز، كما حرص على حضور حلقات الدرس التي كان يقيمها الشيخ محمد الحافظ موسى في رحاب المسجد النبوي أو في منزله بمنطقة عروة.
بدايات صعبة
تخرج أبومدين في مدرسة العلوم الشرعية بعد عام ونصف العام تقريبا من الدراسة، ورغب في مواصلة دراسته، غير أن الأقدار تدخلت مرة أخرى لتحرم الرجل من فرصة إتمام تعليمه. فخاله الذي كان يعوله أحيل إلى التقاعد وصار من ذوي الأحوال المادية الصعبة، وهو ما جعل أبومدين يصرف النظر عن إكمال تعليمه، ويعود إلى سوق العمل، موظفا في قيد الأوراق الصادرة بدائرة الجمارك ابتداء من 22 أغسطس 1947.
وهكذا نجد أن بدايات الرجل اتسمت بحياة قاسية وظروف شاقة ودهاليز من الأنين والآلام، لكن تلك القسوة هي التي خلقت لديه إرادة حديدية للصبر والعمل الحثيث من أجل بلوغ أهدافه وطموحاته، وهي التي زادته نبلا وتواضعا وأعطته قلبا ناصعا وفيا.
في عام 1951، ومن بعد قراءته لطه حسين وتأثره بأعماله وأسلوبه السردي السهل الجميل على نحو ما جسده في كتب «الأيام»، و«دعاء الكروان»، و«حديث الأربعاء»، يقرر أبومدين دخول عالم الكتابة، هو الذي رُوي عنه قوله إنه كان في مدرسته ضعيفا في مادة الإنشاء، لكنه أصر أن يصلح الخلل عبر القراءة المكثفة والاطلاع.
صحافة و«أضواء»
ارتبط اسم أبومدين، وهو لايزال موظفا في الجمارك، بالصحافة. فقد تعاون مع الشابين محمد سعيد باعشن ومحمد أمين يحيى في إطلاق صحيفة «الأضواء» الأسبوعية بتاريخ 4 يونيو 1957. وقد تولى باعشن رئاسة تحرير هذه الصحيفة، التي عـُدت الصحيفة السعودية الأولى الصادرة من جدة في العهد السعودي وثانية صحف الحجاز بعد صحيفة «بريد الحجاز»، فيما شارك أبومدين بالملكية والكتابة وإدارة التحرير، إضافة إلى رئاسة تحرير سلسلة «كتاب الأضواء» الشهرية التي صدرت منها 6 كتب.
والمعروف أن الصحيفة المذكورة رغم صدور 90 عددا منها على مدى 20 شهرا، تعرضت للكثير من الإشكالات بسبب حماس واندفاع كتابها ومحرريها من ناحية، وشراسة صاحبها باعشن من ناحية أخرى في توجيه الانتقادات لشركة أرامكو النفطية، تارة بحجة التمييز ضد موظفيها السعوديين في الأجور والإجازات والخدمات السكنية والترفيهية، وتارة أخرى بحجة ضعف تبرعاتها الداخلية، وتارة ثالثة بحجة تخلف خدماتها الطبية، وتارة رابعة بحجة سوء نظام ترسية أعمالها على المقاولين، وتارة خامسة بحجة أن سياسات ابتعاث موظفيها هزيلة، وهكذا. ويخال لي أن الصحيفة عمدت إلى ذلك من أجل كسب شعبية وجماهيرية في زمن كان المد القومي ومعاداة الغرب فيه قد بلغ ذروته.
يخبرنا محمود عبدالغني صباغ في مدونته عن حملة «الأضواء» ضد أرامكو قائلا: «صدرت أوامر بسحب رخصة الأضواء بذريعة نشر تحقيق «سالم شاري نفسه» (تحقيق عن قصة من القصص المحلية حول تحرير الرقيق)، لكن أصحاب الجريدة أكدوا في غير مرة أن حملتهم ضد أرامكو هي من تسبب أو لعب دورا رئيسيا على الأقل في اتخاذ القرار»، وأضاف أن المفارقة تكمن في أن الصحيفة دشنت حملتها ضد أرامكو في أغسطس 1958 فيما كانت تواصل نشر إعلانات الشركة عن وظائفها الشاغرة وإنجازاتها.
إطفاء الأضواء
وبإيقاف «الأضواء» خرج باعشن من عالم الصحافة نهائيا، لكن شريكه أبومدين لم يستسلم، وقرر خوض تجربة صحفية جديدة أثمرت عن ظهور مجلة «الرائد» في عام 1959 بجدة والتي كان هو مالكها ورئيس تحريرها إلى حين توقفها عن الصدور في عام 1963 أي بـُعيد صدور نظام المؤسسات الصحفية بدلا من ملكية الأفراد للصحف. وقد روى أبومدين في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط (مصدر سابق) ظروف الحصول على ترخيص المجلة وكيفية إصدارها فقال: «أخذتُ أتابع الملك فيصل (يرحمه الله) حيثما يكون على حدود العراق في الصيد في فصل الربيع، أبعث إليه ببرقية رجاء أن يصدر أمره الكريم بمنحي إذنا بإصدار مجلة أدبية باسم (الرائد)، وتابعت ذلك حتى صدر الأمر، وأصدرتها في شكل مجلة على غرار مجلة (الرسالة)، التي كنت أحبها. في البداية أصدرت (الرائد) نصف شهرية لمدة سنة، وبعد ذلك فردتها على شكل تابلوه من غير غلاف، واستمررت أصدرها، ويعينني إخواني وأصدقائي مثل الكاتبين الأستاذ محمود عارف والدكتور محمد سعيد العوضي».
محطة «الرائد»
كما تحدث في الحوار نفسه عن قصته مع الدكتور عبدالله المناع أحد أوائل الذين ساهموا بالكتابة في «الرائد»، فقال ما مفاده أن الأخير كان يدرس في جامعة الإسكندرية ويبعث له بمقالات مزعجة بعنوان (على قمم الشقاء)، وهي عبارة عن قصة مسلسلة تدور حول حب وغرام الشباب، فكنت أسهر على الحلقة الواحدة ليلة كاملة، مثل الطبيب أستبعد كلمة وأضع كلمة، أحذف حرفا وأضع آخر، وفي ذات مرة وأنا في الجمارك وفي موسم الحج اتصل بي الشيخ عبدالملك بن إبراهيم (يرحمه الله) رئيس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحادثني 40 دقيقة، فقال: يا فلان، لقد جاءنا من نثق فيهم من الحجاز، وقالوا إن صحيفة (الرائد) هي بمثابة (روزاليوسف) الحجاز، وكانت (روزاليوسف) في ذلك الوقت غير مرغوب فيها، وطفق الشيخ يعلن، ويعاتبني بقوله: «هذا عمل لا يجوز».
وإذا كانت صحيفته «الأضواء» قد تميزت بمعاركها الصاخبة مع شركة أرامكو، فإن مجلته «الرائد» لم تخل من المعارك الأدبية العنيفة بين جيل الشباب وجيل الشيوخ، لكن أبومدين حرص على ألا تنفرط الأمور، مستفيدا من تجربة «الأضواء»، فعمل على المواءمة بين الطرفين ومنع تطاول أحدهما على الآخر، بحسب قوله.
البلاد بعد الرائد
لم ينته مشوار أبومدين في الصحافة باحتجاب «الرائد»، فقد تولى لمدة 7 سنوات رئاسة تحرير صحيفة البلاد (صوت الحجاز سابقا) التي صدرت لأول مرة في عام 1932، واستطاع بسياساته الحكيمة أن يُخرج هذا الكيان الصحفي العريق من المديونية إلى الربحية، كما رأس تحرير الملحق الأسبوعي لصحيفة عكاظ لبعض الوقت، فجعله ينافس العدد اليومي.
الرئيس الذهبي لـ«أدبي جدة».. أُقيل أسبوعا وأعيد ومن باب الشهرة الصحفية التي تحققت له، اقتحم أبومدين ميدان الأدب فتولى رئاسة «النادي الأدبي الثقافي» بجدة في الفترة ما بين 1980 ــ 2006، أي بعد شغور المنصب بوفاة الشاعر محمد حسن عواد. وهي فترة ذهبية في تاريخ النادي ليس لأنها ارتبطت بجهود الرجل وإسهاماته المتنوعة في إقامة المحاضرات والندوات والمؤتمرات، واستضافة عمالقة الأدب والفكر والنقد العرب من أمثال إحسان عباس وزكي نجيب محمود وعبدالوهاب البياتي وشكري عياد وعبدالسلام المسدي وفاروق شوشة وصلاح فضل وغيرهم، وإنما أيضا لأن تلك الفترة أحدثت ضجة ثقافية كبيرة وخلقت حراكا غير مسبوق، ومناخا تنويرا يليق بعروس البحر الأحمر وتاريخها بمشاركة ومساهمة الجنسين من شبابها ومثقفيها وأعلامها.
ومن إسهاماته أيضا في هذه الفترة تنويع منتجات وإصدارات النادي من مطبوعات ودوريات متخصصة مثل «جذور» الخاصة بنقد التراث العربي، و«نوافذ» الخاصة بالترجمة للأعمال الأدبية العالمية، و«علامات» الخاصة بالنقد الثقافي والأدبي، و«الراوي» الخاصة بالقصة، و«عبقر» الخاصة بالشعر، إضافة إلى تأسيسه لكيان «ملتقى النص» و«جماعة حوار».
لم يكن نجاح أبو مدين الثقافي راجعا فقط إلى شعاره «الثقافة مغارم وليست مغانم»، وإنما أيضا إلى ما بيّنه عبدالله الغذامي في صحيفة الرياض (مصدر سابق) حول طريقته في العمل القائمة على عمليات العصف الذهني التي يبدأها بسؤال ثم يترك الكرة بيد اللاعبين يتداولونها فكرة فكرة، وهو يراقب ويصغي ويتفحص، فإذا ما اصطاد الفكرة من ضمن خيارات عدة، بدأ التنفيذ معتمدا على عنصرين هما: الشجاعة والتخلي عن المخاوف البيروقراطية، والمضي قدما في التنفيذ بالاعتماد على جهده الشخصي دون الاتكال على الآخرين.
غير أن كل ما سبق لم يشفع للرجل لدى بعض الشباب المتشدد الكاره للتجديد والحداثة والانفتاح، فشنوا عليه حملة شعواء، خصوصا بعد أن أقام في النادي أمسية للشاعرات السعوديات، فصدر قرار من «الرئاسة العامة للشباب والرياضة» بإقالته من رئاسة النادي، لكن بعد مضي أسبوع واحد وصل خطاب من الجهة ذاتها يلغي الإقالة ويعيد أبومدين رئيسا للنادي.
«الطحسني».. المؤلف والصحافي والمفتون بالكلمات وما بين هذا وذلك، وجد أبومدين متسعا من الوقت لإمداد المكتبة السعودية والعربية بالعديد من المؤلفات التي اجتهد في وضعها وإصدارها بصورة تخدم القارئ وتزيده علما في ضروب الصحافة والأدب والتاريخ والنقد وكتابة المقال والسيرة الذاتية. من هذه المؤلفات: حكاية الفتى مفتاح (سيرة ذاتية)، أمواج وأثباج (في النقد الأدبي)، في معترك الحياة (مقالات في الأدب والحياة)، وتلك الأيام (تجربة المؤلف في الصحافة)، الصخر والأظافر (مقالات ودراسات نقدية)، حمزة شحاتة.. ظلمه عصره (قراءات تأملية في شعر الأديب حمزة شحاتة)، هؤلاء عرفتْ (أحاديث عن بعض من عرفهم المؤلف أو خالطهم)، الحياة بين الكلمات (أبحاث نقدية)، وعلامات (مقالات في الأدب)، الذين ضل سعيهم (نقد لمنكري السيرة النبوية)، من أحاديث الحياة (بحوث أدبية وقضايا اجتماعية وإصلاحية)، أيامي في النادي (تجربة المؤلف في قيادة نادي جدة الأدبي الثقافي).
ولئن كانت تلك مجموعة من مؤلفات كتبها أبومدين، فإن ما كُتب فيه عبارة عن كتاب تكريمي يتيم بعنوان «مسيرة عطاء الفتى مفتاح» اشتمل على التوقيعات التي كتبها مثقفون سعوديون عاصروه وعايشوا مسيرته، وذلك تعبيرا عن الامتنان لتجربته ودوره الريادي.
في منتصف يناير 1955 كان أبومدين على موعد للالتقاء لأول مرة بالرجل الذي تأثر به وكان مثله الأعلى في الكتابة وهو «طه حسين»، حيث جاء الأخير إلى جدة للمشاركة في اجتماعات اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية التي كان يترأسها آنذاك. يقول الكاتب عصام حمدان في جريدة «المدينة» السعودية (4/6/2010) إن أبومدين كتب مصورا مشهد وقوف طه حسين متحدثا في جدة فقال: «ويقف الرجل (أي طه حسين) في سمت الكبار، آخذًا في الحديث، بتلك العذوبة النادرة، كأنه نبعٌ زلالٌ قراحٌ يفيض سهلاً متدفقًا في تلك التموّجات التي تشبه السيمفونية المتميّزة في إيقاعها وتأثيرها على السامعين، لا لحنَ ولا توقفَ، ولا يُرتج عليه، تكلّم أربعين دقيقة متواصلة، وكان عمره يومئذٍ ستاً وستين سنة، وكأنه ابن الأربعين، أو ما حولها».
وفي مايو 2018 اختارته السعودية ليكون شخصية العام الأدبية لسنة 1439 للهجرة، فزاره وزير الإعلام في منزله ليؤكد له استعداد وزارته لإقامة حفل تكريم يليق بشخصه ومكانته.
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين