أخبار

بين زيارتَي الملك خالد ومحمد بن سلمان لبريطانيا.. مصالح متزايدة والأعداء هم الأعداء

«عكاظ» تحصل على «إذن حصري» للاطلاع على أرشيف العلاقات السعودية ـ البريطانية في لندن

ياسين أحمد (لندن) Okaz_online@

استطاعت «عكاظ» بعد حصولها على إذن حصري للاطلاع على أرشيف العلاقات البريطانية - السعودية، في دار الوثائق البريطانية بلندن، أن تستعيد أحد عصور السعودية الزاهية، وهو عهد الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز آل سعود، إحدى الفترات التي شهدت توتراً في العلاقات مع بريطانيا، إثر تلفيق وسائل إعلام بريطانية أخباراً مزيفة عن المملكة.

وسنرى في هذه الحكاية كيف ابتهج العاهل السعودي الراحل الملك خالد، ووزير الدفاع والطيران الأمير الراحل سلطان بن عبدالعزيز، بالترحيب الشعبي بهما في لندن. وعلق الأمير سلطان بن عبدالعزيز بأنه توقع أن يقتصر دفء الترحيب بالملك خالد والوفد المرافق له على الدوائر الرسمية البريطانية، لكنه فوجئ بخروج البريطانيين للترحيب بالملك. وزاد مازحاً: ربما يكون مظهر الثياب العربية هو الذي سحر البريطانيين بهذا القدر.

كان ارتفاع وتيرة التزييف واختلاق الأكاذيب عن المملكة في الإعلام البريطاني تسبب في تأجيل زيارة العاهل السعودي لبريطانيا عاماً بتمامه. وتشير رسالة كتبها سفير بريطانيا آنذاك لدى السعودية جيمس كريغ إلى أن العلاقات ظلت في أسوأ حالاتها لمدة 4 أشهر بعد حملة التشويه والتزييف ضد المملكة عبر مواد مرئية في شبكات التلفزة البريطانية. وقال كريغ إن السعوديين أعادوه إلى بلاده، ورفضوا السماح لأي شخصيات سياسية بريطانية بزيارة السعودية. وعمد السعوديون إلى تقليص زيارات الدبلوماسيين والاقتصاديين السعوديين لبريطانيا.

وكانت الشركات البريطانية تواجه صعوبات جمة في الحصول على عقود بالسعودية، خصوصاً في الرياض، حيث عُرف أن أميرها - خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - لا يقبل أي تنازل عن مبدأ. ولذلك قرر البريطانيون الترويج لمجموعة بريتشارد لدى الملك خالد، باعتبارها أحد الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها السعوديون لتطوير منطقة الرياض. وهو تطوير وصفه السفير كريغ، في رسالة لحكومة رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، بأنه «تطوير سريع ورائع» تحت رعاية الأمير (الملك) سلمان.

وطبقاً للوثائق التي حصلت «عكاظ» على حق الاطلاع عليها، فإن الملك خالد - رحمه الله - تعامل بحنكة وحكمة شديدتين مع الأزمة الطارئة. لكن لم يكن أمامه خيار سوى اتخاذ إجراءات ضد الجانب البريطاني؛ إذ لم تكن بريطانيا مصدر قوة اقتصادية كما أضحت لاحقاً. واعترف السفير كريغ في رسائله لحكومة بلاده بأن السعودية لا تضع تصنيفاً للقدرات الاقتصادية والصناعية البريطانية.

فقد كانت بريطانيا تواجه آنذاك اضطرابات مالية. واضطرت لندن قبل 6 سنوات من ذلك إلى أخذ قرض اضطراري من صندوق النقد الدولي. وبسبب سطوة النقابات العمالية، وضعف حكومة حزب العمال التي استجابت لمطالبها، اضطرت الحكومة لتقصير الأسبوع إلى 3 أيام فقط، حتى تتمكن من ترشيد إمدادات الطاقة التي فاقمها قيام السعودية بزيادة أسعار النفط لزيادة الضغوط على الغرب في شأن القضية الفلسطينية.

وأظهرت الإجراءات السعودية ضد بريطانيا أن السعودية دولة لا يمكن تجاوزها بسهولة. كانت بريطانيا آنذاك تمر بمرحلة تعافٍ اقتصادي تحت ظل مشروع التحديث الذي قادته رئيسة الوزراء تاتشر، وهو أشبه شيء بمشروع «رؤية السعودية 2030» التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز لتوديع الأزمات التي يتسبب بها تذبذب أسعار النفط الذي يجعل الاقتصاد السعودي رهينة له. ويبدو أن خروج مجلة إيكونميست من حوار أجرته مع ولي العهد، بوصف رؤية 2030 بـ«الثورة التاتشرية» يأتي قريباً من واقع الإصلاحات السعودية، وهو ما أكده الأمير محمد بن سلمان بإدخال أصول غير مستغلة تقدر بـ 400 مليار دولار ستذهب إلى الخزينة قبل أن تتحول إلى مشاريع ومن ثم إلى شركات لتطرح في السوق المالية للاكتتاب العام.

استثمار حكيم من الملك

ونجح الملك خالد في إعادة الدفء للعلاقات مع بريطانيا في الفترة المناسبة قبل أن يؤتي مشروع تاتشر أُكله، وتصبح بريطانيا قوة مالية واقتصادية وصناعية. وكان ذلك استثماراً حكيماً من الملك الراحل لا تزال السعودية تجني ثماره وهي تجتاز عتبات القرن الـ21. وتشير الوثائق إلى أن الملك خالد أذهل البريطانيين بمفاجآت عدة. فقد فوجئوا بطاقته وحيويته وطبيعته الودودة المنفتحة على رغم كبر سنه. كما أنهم اكتشفوا أنه منظم ودقيق للغاية، وكان واعياً ومحترماً لتقاليدهم. وكتب السفير كريغ لرئيسة الحكومة واصفاً شخصية الملك خالد بأنه من جيل العائلة المالكة الذين خاضوا معارك الصحراء، وأنه ظل منذ بلوغه عامه الـ14 من العمر قائداً جسوراً يحمي العِرض، والشعب، والدولة. وأوضح كريغ - الذي أنعمت عليه الملكة إليزابيث لاحقاً بلقب «سير» - أنه على رغم أن الملك خالد يعد من أبرز اللاعبين في الساحة السياسية الدولية، التي شهدت زياراته لكبريات عواصم العالم؛ فإنه لا يزال يهرع للصحراء، ويستمتع بأوقاته مع أهل الصحراء الذين لم ينسهم مطلقاً حتى بعدما أضحى ملكاً، بل لم ينس قط حياة الشدة والشظف التي عاشها قبل قيام والده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود بتوحيد أرجاء المملكة الشاسعة.

تحديد القبلة

وفي مأدبة العشاء التي أقامتها الحكومة البريطانية على شرف الملك خالد حدثت واقعة مهمة أربكت المضيفين. فقد فات عليهم أن يحددوا اتجاه القبلة في مكان المأدبة لتيسير الأمر على الضيوف المسلمين، خصوصاً أن الملك خالد اصطحب معه مستشاره الديني. وتشير وثائق الأرشيف البريطاني إلى أن المسؤولين عن ترتيب فعاليات زيارة الملك خالد لبريطانيا أعربوا عن أسفهم لعدم حرصهم على مراعاة «المسائل الحساسة» المتعلقة بضيوفهم.

إسرائيل لا تريد حلولاً وسطية

وكان الملك خالد دقيقاً جداً وحكيماً في محادثاته مع تاتشر بشأن القضية الفلسطينية. وكان وزير خارجيتها لورد كارينغتون، الذي توفي الأسبوع الماضي في لندن، عائداً لتوه من إسرائيل، حيث أجرى محادثات بشأن الغارة الإسرائيلية على المفاعل النووي العراقي. ونددت بريطانيا بالخطوة الإسرائيلية. لكن الملك خالد أبلغ تاتشر بأن تحليله للوضع يذهب إلى أن إسرائيل قامت بتلك الغارة نتيجة للتعاون الخليجي المتزايد، خصوصاً أنه تم إعلان قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وقال الملك خالد إن إسرائيل هاجمت العراق لتمهد للقوى العظمى للتدخل في المنطقة. ووصف الإسرائيليين بأنهم لا يعملون على أرضية وسطى للوصول إلى حلول معهم.

واستخدم الملك خالد بن عبدالعزيز وضعه كزعيم لأكبر دولة عربية إسلامية للدفاع أمام تاتشر عن منظمة التحرير الفلسطينية.

وأكد أن تظلمات الفلسطينيين مشروعة. وحذر من أن تصعيد الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة سيؤدي إلى تصاعد الإجراءات التي سيتخذها الفلسطينيون. وأضاف أنه يصعب على العرب أن يثقوا بإسرائيل.

وبدلاً من الاكتفاء بالشكوى من الأوضاع، سعى الملك خالد - رحمه الله - إلى عرض حلول وإجابات. فقد أشار إلى عقد مؤتمر في جنيف ليضع خلاله الأوروبيون خريطة واضحة لمواقف الطرفين. ولاحظ العاهل السعودي الراحل أن إسرائيل سارعت للتنديد بمؤتمر جنيف. وأكد لتاتشر أن مرونة الطرف العربي تتعدى المواقف الآيديولوجية، ولذلك فقد طالب الملك خالد بدعوة الاتحاد السوفيتي (سابقاً) للمشاركة في المؤتمر. وذلك على رغم أن السعودية كانت آنذاك في حالة خلاف مع السوفيت أثناء احتلالهم أفغانستان. ويوضح ذلك بجلاء براعة الملك خالد وإجادته فنون اللعبة السياسية. وإدراكه التام بأن الأخلاق السياسية إنما يُحكم عليها بعواقبها ونتائجها.

تعللت الحكومة البريطانية بأن من الصعب على بريطانيا أن تدافع عن منظمة التحرير الفلسطينية؛ لأن ميثاق المنظمة يتضمن العمل على تدمير إسرائيل. وطلبت من الحكومة السعودية ممارسة ضغوط على الفلسطينيين لاستبعاد ذلك النص. لكن الملك خالد رفض بشكل قاطع أي مسعى من ذلك القبيل. وقال لرئيسة الوزراء البريطانية إن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وإن لديها حقاً مشروعاً في أراضيها المحتلة. وأوضح لها الملك خالد أن السعودية لا تساند الفلسطينيين لأنهم مسلمون، إذ إن فيهم مسيحيين، وإنما لأن قضيتهم عادلة، ولأنه يحق لهم أن يحصلوا على حل عادل. وأشار الملك خالد بحصافة إلى ضرورة التفريق بين المتطرفين وأصحاب المواقف المعتدلة الذين تحركهم أشواقهم إلى الحرية. وحذر العاهل الراحل من أن استمرار إسرائيل في بناء المستعمرات في الأراضي العربية المحتلة يزيد الأمر استفحالاً.

ولعلَّ هُوَاة «شتيمة» السعودية مدعوون لمطالعة هذه الوثائق «غير السعودية» ليسألوا أنفسهم من أين أتوا أخيراً بمزاعمهم أن السعودية هجرت القضية الفلسطينية، وهي الدولة الوحيدة التي لا تزال تتعامل معها باعتبارها القضية المركزية للعرب، وتقول في السر ما تقوله في العلن.

بين الملك خالد ومحمد بن سلمان

جاءت زيارة الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز في فترة صعبة من تاريخ «العلاقة الخاصة» بين بريطانيا والسعودية. وفي ذلك توجد ملامح شبه كثيرة، بينها وبين الزيارة التي قام بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز للندن في 2018. ففي كلتا الزيارتين كان حزب العمال المعارض، يخضع لقيادة عناصر يسارية متطرفة، مهووسة بنظريات المؤامرة، ومناهضة للسعودية وحلفائها. لكن الحزب لم يحقق شيئاً في ذلك الوقت، بعدما تقدم بزعامة مايكل فوت بمانيفستو انتخابي طالب بالتخلي عن التسلح النووي، وإعادة العلاقات مع الكتلة السوفيتية. وتمثلت المخاطر في نزوع حزب العمال، بزعامة جيريمي كوربن، لحشد السكان، وزيادة مقاعده النيابية، ما أدى في انتخابات 2017 إلى ما يعرف بـ«برلمان معلّق». وفي الوقت نفسه استمرت مناهضة العمال للعلاقة مع السعودية من فوت إلى كوربن، دون تغيير يذكر.

وعلى رغم أن العلاقات بين الحكومتين البريطانية والسعودية كانت أكثر دفئاً في 2018 (بغض النظر عن الجدل الذي أثاره إلغاء عقد لتدريب مسؤولي السجون السعودية في 2015)، إلا أن عهد وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى فتح منافذ غير مسبوقة للأخبار الزائفة (Fake News) التي استهدفت السعودية، خصوصاً ما تعلق بإعدام الإرهابي نمر النمر وأكاذيب إيران بشأن عودة الشرعية إلى اليمن. وفي ظل تواطؤ أقطاب المعارضة العمالية التنفيذيين مع الصحفيين المرتبطين بهم لترويج الأكاذيب. خصوصاً مشاركة معارضين وصحفيين على صلة بهم في نشر أكاذيب عن السعودية أدت إلى مظاهرات متفرقة ضدها. غير أن الإعلام السعودي وجهود وزارة الإعلام، ومبادرة كتاب

بريطانيين ذوي مصداقية، خصوصاً المحرر الدفاعي المخضرم لصحيفة «التلغراف» كونور (كون) كفلن، ونشر لوحات إعلانية، وحملة جريئة على تطبيق «سناب شات» شددت على أن بريطانيا والسعودية هما «مملكتان متحدتان»، ما حدا بكثير من أفراد الجمهور البريطاني للدفاع علناً عن «العلاقة الخاصة» بين البلدين.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن رئيس الوزراء البريطاني السابق إدوارد هيث (من حزب المحافظين) استبق وصول الملك خالد بن عبدالعزيز إلى لندن بكتابة مقال إيجابي عن السعودية نشرته صحيفة «التايمز». وعلى رغم علاقة التنافس المحموم بينه وبين مارغريت تاتشر، التي انتزعت منه رئاسة الحكومة، إلا أن هيث أسبغ المدح على منافسته، حاضاً إياها على اتخاذ موقف موحد من أجل «علاقات جيدة» مع المملكة العربية السعودية. ويمكن القول إن تلك المساعي من قبل هيث أسهمت بقدر كبير في الدفء الذي قوبل به الملك خالد والوفد المرافق له في لندن.

الوصول إلى الجمهور البريطاني مباشرة

وإذا كانت زيارة الملك خالد - رحمه الله - تأخرت عاماً بسبب حملة التشويه الممنهجة ضد المملكة والتي شملت إنتاج فيلم مسيء عن السعوديين، فإن زيارة الأمير محمد بن سلمان صادفت عرض سلسلة من 3 حلقات على شاشة تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي.) تضمنت إساءات وأكاذيب عن السعودية. لكن السعودية تعلمت من درس العام 1981، ولم تعد تطالب بمنع عرض الأفلام والبرامج التي تفتري عليها كذباً، بل أضحت إستراتيجيتها بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان تسعى للاتصال المباشر والتحدث للجمهور البريطاني، جنباً إلى جنب المحادثات بين حكومتي البلدين.

ونجحت تلك الجرأة السعودية في إحباط تحريض أجهزة إعلام قطرية وإيرانية الناشطين على التظاهر ضد المملكة لتخريب زيارة الأمير محمد بن سلمان. وبدلاً من أن يتلقى البريطانيون معلوماتهم عن السعودية وولي عهدها من «الجزيرة» و«العربي الجديد» و«ميدل إيست آي»، أضحى هناك مسؤولون ومعلقون سعوديون جاهزون للمقابلات الصحفية والتلفزيونية، ومستعدون للتعقيب وإفحام من يدعون معرفتهم بالشأن السعودي أكثر من السعوديين أنفسهم.

ثرثرة «الإعلام الجديد»

منذ ما قبل عهد الملك الراحل خالد، دأب المسؤولون البريطانيون على التمسك بأنه ليس بمقدورهم منع الصحف والإعلام من نشر «الثرثرة الخبيثة». وتشير الوثائق التي اطلعت عليها «عكاظ» إلى أن السفير الراحل سير جيمس كريغ تمسك بأن تدخلهم لمصادرة ما تنشره الصحف سيكون مشكلة أكبر حجماً من العلاقات الإستراتيجية الرئيسية نفسها! وكان أقصى ما تستطيع السلطات البريطانية فعله هو أن تتجاهل ما تنشره هذه الصحيفة أو تلك، على أمل أن يندمل خبرها في مهده. لكن ذلك بات مستحيلاً الآن، في عهد وسائل التواصل الاجتماعي التي أنجبت «الأخبار المزيفة». وهنا أدركت السعودية أن الحل الوحيد يتمثل بمجابهة تلك الثرثرة والمحتوى السالب، وانتهاج خطاب مفكّر قادر على فضح عدم مصداقية ذلك المحتوى أثناء تداوله.

العضلات الاقتصادية «المرتخية»

من أوجه التشابه الأخرى بين زيارتي الملك خالد رحمه الله في 1981 والأمير محمد بن سلمان في 2018، أن البريطانيين كانوا في الحالتين يريدون أن يكونوا لاعبين بارزين في الاقتصاد السعودي. فقد كانوا في الثمانينات في أتون انهيار اقتصادي، وفي 2018 فاجأتهم «رؤية 2030» بفرص لا يمكن تفويتها. وفي 1981 كانت فرنسا وألمانيا أفضل أداءً اقتصادياً من بريطانيا، ما اضطرهم لاستحداث رؤيتهم الخاصة بهم ممثلة بمشروع الخصخصة الذي ابتكرته تاتشر. وكانت السعودية آنذاك تعكف على تنفيذ خطتها التنموية الخمسية الثالثة، بما انطوت عليه من تطلعات لتنويع مصادر الدخل، وزيادة كفاءة النفقات الحكومية. وطبقاً لوثائق مرفقة بملف زيارة الملك خالد، فإن المسؤولين البريطانيين أنحوا باللائمة على رجال الأعمال البريطانيين لتجاهلهم الفرص الضخمة في الخطة الخمسية السعودية الثالثة. واتهموهم بأنهم يتعاملون مع السعودية من منطلقات «عنصرية»، وعلى أساس مزاعم زائفة بأن تربة السعودية لا تصلح لشيء غير التنقيب عن النفط.

وبالفعل، لعبت السعودية دوراً جباراً في مساعدة بريطانيا في عهد تاتشر على التحول من «رجل أوروبا المريض» إلى خامس أكبر اقتصاد في العالم. وهي فوائد لا تزال بريطانيا تجني ثمارها حتى اليوم. وتشير رسالة من السفير كريغ إلى حكومته إلى تذكيره المسؤولين في لندن بأن المملكة العربية السعودية تعد أحد أكبر اللاعبين في «الحرب الباردة»، وأن نفوذها الدولي لا يقتصر على ممارسة ضغوط لبقاء أسعار النفط عند مستويات معتدلة، بل هي معارض شرس للاتحاد السوفيتي (السابق)، وأنها ذات دور مؤثر في العالم العربي والإسلامي.

كما أوضح كريغ لرؤسائه في لندن أن السعودية حليف أفضل من إيران. وقال إن حدوث اضطرابات في السعودية أمر بعيد الاحتمال، مؤكداً أن مواطني السعودية أوفياء لقادتهم، ويتسمون بفضيلة الصبر. وذكر أن ملوك السعودية نشأوا في مدن من الخيام، وقاتلوا في معارك بسيوفهم. وأضاف أنه على رغم سيل الحداثة الجارف والتغير الاقتصادي الهائل، فإن السعودية تمسكت بالإسلام، وأنها تشهد قدراً من التحرر. وكتب أن فتيات السعودية بدأن يلتحقن بالجامعات. وهي المسيرة التي أفضت في قادم الأيام إلى التطور الكبير الذي بدأت المملكة تشهده بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز.

الملك خالد.. سيرة ومسيرة

ولد العاهل السعودي الراحل الملك خالد بن عبدالعزيز في 13 فبراير 1913، وهو الابن الخامس للملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود. عين بعد ضم الحجاز نائباً للأمير (الملك) فيصل في الحجاز في عام 1926. وفي 1962 عين نائباً لرئيس مجلس الوزراء. وبعد تولي الملك فيصل الحكم في 1964، تم اختيار الملك خالد ولياً للعهد. وأضحى ملكاً في 25 مارس 1975 إثر اغتيال الشهيد الملك فيصل. وشهد عهد الملك خالد عدداً كبيراً من الإنجازات تشمل استحداث جامعات عدة، والتوسع في تعليم البنين والبنات، وتوسعة المسجد النبوي، وافتتاح مصنع كسوة الكعبة المشرفة، وإنشاء الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)، وقيام مجلس التعاون الخليجي. وكان أبرز حدث في عهد الملك خالد، رحمه الله، هو وقوع حادثة الاعتداء على الحرم المكي في 1979. وتوفي بالطائف في 13 يونيو 1982.

جيمس كريغ.. وجه لا ينسى

ولد سفير بريطانيا السابق لدى السعودية سير جيمس كريغ بمدينة ليفربول في 13 يوليو 1924. وهو معروف أيضاً كأكاديمي وكاتب إلى جانب دوره الدبلوماسي. وحصل على درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الأولى في اللغة العربية من جامعة أكسفورد. وبعد عمله بالتدريس في جامعة درهام، التحق بوزارة الخارجية. وكانت جدة من المحطات التي انتدب إليها (1967 - 1970). وبعد تعيينه سفيراً لدى ماليزيا ثم سورية، نقل سفيراً لدى السعودية خلال الفترة 1979 - 1984. وبعد ذلك تقاعد من الخدمة ليعمل أستاذاً زائراً للغة العربية بجامعة أكسفورد (1985 - 1991). توفي سير جيمس في 26 سبتمبر 2017.

تاتشر وماي.. بين «رؤية» و «رؤية»

لا مندوحة من القول إن عهد الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز كان عهد العظماء في مسارح السياسة العالمية. ومن أولئك مارغريت تاتشر (1925 - 2013) التي أضحت أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في بريطانيا من (1979 - 1990). ومن المفارقات أن الخلاف حول قبول سيطرة قرارات المفوضية الأوروبية في بروكسل كان سبباً لانقلاب أعوانها عليها وإطاحتها مع تلك العين الدامعة من نافذة المنزل رقم 10 شارع داونينغ. وهو الخلاف نفسه الذي يهدد اليوم بإطاحة رئيسة الوزراء تيريزا ماي التي لولا تاتشر ما كان لها أن تحلم ببلوغ هذا المنصب الرفيع. وكانت تاتشر تعلق آمالها على عون الملك خالد، من خلال إيلاء دور لبريطانيا في مشاريع الخطة الخمسية الثالثة لتجاوز الأزمة الاقتصادية آنذاك. وتطلعت ماي بقدر مماثل من الأهمية لمشاريع «رؤية السعودية 2030» حين استقبلت ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز في لندن في 2018.

الأمير سلطان بن عبدالعزيز كان ساعداً أيمن للملك خالد خلال زيارته إلى لندن عام 1981.